آه! هل انني حقاً أعد حقائب سفري. ثم إنهالت عليّ الظنون والهواجس دفعة واحدة، فرحت أسترجع اسماء وقصص ترحال في أكثر من مدينة عربية وأوروبية. وأنفض عن كاهلي حملاً اسمه الوطن/ المنفى. أطوي حقبة انتظار ممض، بعدما فتحت لي ولسواي ممكنات زيارة العراق. كنت متأنياً قليلاً، وأعلل النفس بمثل انكليزي مفاده، ان التوقعات العريضة كثيراً ما تفضي الى خيبات كبيرة. فالترحال والعيش، ربما، في عوالم الأمكنة والذاكرة عن بعد أكثر أماناً وأقل خسارة. وعلى رغم ان مؤشرات الحنين خامرتني وأحالت يومياتي الى أحلام يقظة، الا انني رحت أستعيد معها لحظات الرعب. أعادت لي لحظات عصيبة من الصعب الإمساك بتفاصيلها. لحظات قاتمة، وموت محقق، ترصدت بي وبغيري في العام 1979. لحظات كانت وراء الهروب الفردي والجماعي غير المعلن الى أماكن بعيدة لم نضع تفاصيلها على خرائط الرغبة برمية زهر. طالت الرحلة، وتشتت الأصحاب، وها نحن نعود الى مكان اسمه الوطن الأول. فالمنفي منفي مهما طال بعاده عن الوطن. او كما سماه الشاعر التشيلي الكبير بابلو نيرودا يبقى "جسد موزع". وجهتي هذه المرة بغداد. من المنفى المقيم فيه الى المدينة المحررة/ المحتلة. رحلة معاكسة للظفر بما تبقى من ماض طالما تشبثت به وأضفيت عليه هالة مقدسة. رحلة جندي الى ساحات معارك لم يخضها، لكنها أوقعت الهزيمة فيه. في الطريق من عمان الى بغداد، غمرتني سحابة حزن لم أشف منها حتى وصلت الى دار لم أتصور ملامحها. هل يحتاج العراقي الى حزن مضاف؟. بعد يوم على وصولي بدأت رحلة البحث والاقتفاء. رحلة تأمل مصير مدينة وحالة الغياب والاندثار التي أصابتاها. لكنني، ولاعترف، لم أتمكن من التعامل مع منطقها بذهنية العارف باحوالها، فقد كنت أقاد مخفوراً باخوة وأقرباء أكثر خبرة مني وبسواي في التنقل بين أطرافها وشوارعها وارتياد مطاعمها. بدت لي بغداد، وانا الذي ولدت ونشأت فيها ودرست في جامعاتها، أشبه بذكرى مدينة مفجوعة. وبعبارة أخرى تفنن البعث في إيقاع الهزيمة بها واستباحتها من خارجها. مدينة مقطعة الأوصال. يتنفس سكانها الغبار ودخان عوادم السيارات القديمة ومولدات الكهرباء. مدينة يستعين سكانها بالأطفال والصبية لتنظيم حركة السير عند حلول الظلام. مدينة يفترش رفاق الشوارع من الفقراء والمعوزين وذوي العاهات ساحاتها وطرقها، بفعل حروب "القائد الضرورة"، بحثاً عن صدقة. مدينة مزروعة بمزابل واهمال متعمد من قبل السلطة السابقة والحالية. مدينة مسلوبة الشخصية تندغم حدودها بارياف كانت في ما مضى تشكل أسوارها الزراعية. مدينة حولت الدبابات الأميركية الضخمة ساحاتها وشوارعها الى ميادين قتال واستعراض قوة وتمضية وقت. مدينة يطبق الحزن على أهلها حيث تختلط "بيارغ" تيارات القوى الاسلامية، وتطالعك صور قادتهم وأئمتهم القدامى والجدد، بلافتات موتى تشير الى أماكن الفواتح. مدينة، وضمن فورة الانتقام المدفوع بعقلية الثأر والأستئثار، تبدلت أسماء شوارعها لتحمل أسماء ومسميات لا علاقة لها بزمن عراق التعدد والانفتاح. فبعد أربعة عقود، وبالتحديد منذ العام 1963 من مجيء البعث الى السلطة لأول مرة، يمكن القول ان بغداد تحولت الى مدينة مقلوبة على نفسها أكثر من مرة. نقطة تقاطع وتناحر عصبيات وقيم عشائرية بدائية غريبة عن سماحة طباع أهلها. كيف لا، وقد صادر البعث صوت أهلها. وبرع في فرض خاوات وأتاوات على سكانها. وتناهشت جهالة الأغراب لحمها وروحها. غرابة سحنات سكانها تتجانس مع غرابة هذه المدينة التي تضخمت بشكل سرطاني لتستوعب أكثر من سبعة ملاين نسمة. وأصبحت، أيضاً، حقلاً لسلطة همجية مطلقة وخوف مطبق واستقالة جماعية. قدرية ناسها تلمسها في عيون زائغة. صامتة. مكلومة. بعد ثلاثة عقود صحيح ان بغداد لم تكف عن التغيير السريع منذ نهاية عقد الخمسينات، شوارع فارهة وبنايات وأحياء حديثة تحاكي في هندستها الأسلوب العالمي الذي ساد في فن العمارة. لكن الأكثر ايلاماً ما حدث لها على مدى العقود الثلاثة الأخيرة. كان أشبه بزلزال عنيف قطعّ روابط المكان وعطل تواتر الزمن والذاكرة. ولأن الأغراب وكتبتهم أنجبوا أغراباً وكتبة، من العراقيين وبعض العرب، لا يزالون يملأون الفضاء بضجيج كلمات طنانة خالية من الحياء والحياة. بيد ان زائر بغداد سيصاب بدوار وصدمة في أيامه الأولى، لكنها صدمة موقتة ستألفها العين مثلما تألف أهلها مع مشاهد الخراب والعذاب المبذول يومياً. فنظام البعث اوجد لنفسه سلطة عمادها الخوف والقسوة والوحشية. سلطة على رقاب ووسط دماء العراقيين، ولا يزال أشباههم سلطة وسط دماء العراقيين. اما ارثهم الثقيل يبز حياة ناسها وذاكرة حملنا رجعها حيثما ذهبنا وتحت ثيابنا وجلودنا. وجوه سلبها البرابرة ومن طبل لهم، من العراقيين وبعض العرب تحت شعارات مستهلكة، مثل التحرير والتصدي و"أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة"، حق الحياة الكريمة. صحيح ان قناعات العراقيين تتبدل يومياً، لكنني لم أجد خلال تجوالي اليومي من يريد ان يرجع الى الوراء او يحن الى أيام صدام، على عكس ما تتناقله تهويشات بعض الفضائيات العربية ووسائل الإعلام. الكل يجمع على ان ثمة حفنة برابرة وأميين أطبقوا على بغداد تدفعهم عقلية الغنيمة. حرموهم حتى من التمتع بكورنيش نهر دجلة. فقد صادر الديكتاتور وحاشيته ضفافه وبساتينه الغناء في وضح النهار. فابتنى صدام وعائلته و"الويلاد" "الحاشية" قصوراً فارهة لزرع الخوف، عالية الأسوار مزودة باجهزة تنصت وكاميرات وعدد من القناصة. واجتمعت فيها،ايضا، بدائية الأفكار وسطحية الذوق وبلادة التنفيذ. كانت تلك القصور وما يدور داخلها وحولها أشبه بمحرمات لا يمكن الاقتراب منها. وحتى نصبي، قوس النصر الواقع فيما يسمى الان المنطقة الخضراء، والجندي المجهول وفيه مقبرة وزير الدفاع السابق خيرالله طلفاح، يمكن ادراجهما ضمن تفاهة سوقية لتسويغ هيمنة سياسية مبتغاة بأي ثمن. الفضائيات خير جليس ومع هذا، بدأت بغداد تستعيد عافية إيقاع يومي حذر. حذر يتوسم الأمل ونسيان حقبة بكاملها. زائر هذه المدينة سيباغت بما هو مبذول في يومها وفي شوارعها بعد عام على طرد سلطة الخوف والسطو واللصوصية. شوارع وأرصفة عامرة بالثلاجات والغسالات الكهربائية والتلفزيونات والمبردات والطباخات والملابس الحديثة، ومن مختلف المصادر والماركات التجارية. من ايران وابو ظبي والكويت وماليزيا وتايوان وسنغافورة واليابان وكوريا الجنوبية.... شوارع تغص بمقاهي الانترنت والتلفونات النقالة، تعج بها أسواق وشوارع المنصور و14رمضان والبياع والسيدية والأعظمية والكرادة وحي الشعب والقناة ومدينة الثورة المتنازع على تسميتها لحد الآن. اما "الدشات" او الصحون اللاقطة، والتي احتكر قادة البعث والعسكر اقتناءها لانهم الأجدر بمثل هذه الكماليات، أصبحت المشهد الأكثر حضوراً على سطوح المنازل. فقلما تجد عائلة عراقية، بغض النظر عن دخلها او موقع سكنها، دون هذا الشاخص/ الزائر الجديد الذي يعتلي سطحها. المفارقة ان العراقي، بعدما استعداه الشارع وصودرت حريته، أصبحت متابعة الفضائيات خير جليس له ولعائلته. ولعل فضيلة متابعة أخبار الوطن وتعقيداته بالصورة، وعبر نشرات أخبار وحوارات حية على العربية والجزيرة والأل بي سي والعراقية والحرة والمستقلة والديار ويورو نيوز.. هي واحدة من ثمار الانفتاح على النفس والعالم. انتهى عصر السرية والخوف وقرارات تصدر باسم الشعب من خلف الكواليس. طبعاً، التعلق بالتلفزيون جاء على حساب خصمه التقليدي الراديو، حيث عد من مخلفات مرحلة سابقة.. وضمن هذا السياق، جرى افتتاح مكتبات ودور قرطاسية تتوافر فيها جل الصحافة العراقية والعربية والأجنبية من دون خوف من سلطة الرقيب، او وشاية صاحبها. اما أسواق معارض السيارات المستعملة، فيكفي التجول في شارع 14 رمضان في جانب الكرخ، وقرب "ساحة النهضة" القديمة في جانب الرصافة للتعرف عن كثب عن مدى تعطش الناس للمشاهدة وتمضية الوقت قبل الشراء. هذا لو تجاوزنا الأسواق المنتشرة على شارع القناة. مصادر هذه السيارات يصعب حصرها. لكن الأكيد ان البي دبليو أم والأوبل تحتل المرتبة الأولى في الطلب، ومن بعدها السيارات اليابانية. المتنفس الآخر المبذول في يوم العراقي هو مطاعم الكباب والشاورما "الكص". فزيارة محل كاكه عبدالله للوجبات السريعة، او قلعة "زرور الفلوجي" في 14 رمضان او نينوى في المنصور في جانب الكرخ. او تناول وجبة في مطعم البدوي في شارع الكرادة خارج قرب "ساحة كهرمانة" ليتأكد المرء ان المطبخ العراقي ما زال بخير ولا يوجد له نظير. المفارقة في ان صاحب مطعم البدوي وعماله من الأكراد، ولعله بهذه التسمية اراد ان ينتمي رمزياً الى الزاد والملح، مثلما يقال، بعيداً عن التقسيمات العرقية والاثنية. حياة جديدة "الجميلة والوحش" إنحسر الإقبال عليهما. وأصبح التندر بهما من قبيل استرجاع ماضي الحرمان وضيق الحال. و"الجميلة" تعني الطماطم، فيما "الوحش" يعني الباذنجان، ولعل مثل هذه الإستعارة السينمائية، وبعيداً عن مسحة التهكم، تشير بشكل واضح الى ما كانت تتقاسمه مطابخ العراقيين وموائدهم. عودة أسماك دجلة، وبعد غياب طويل الى الظهور في أسواق وعلاوي بغداد الشهيرة، او تحملها عربات على شكل أحواض متنقلة، هو مؤشر بحبوحة ينتظرها الناس بفارغ الصبر. عاد الشبوط والبني والكطان وحتى الجري. والأخير رخيص السعر بسبب ان شيعة العراق لا يقربونه. وحسب معتقداتهم، انه ذات مرة عكر ماء وضوء الامام علي بن ابي طالب. لكن ظهور هذه الأنواع من الأسماك في الأسواق لم يحل دون بروز منافس قوي، هو سمك البحيرات الاصطناعية الذي لا تخطئه عين العارف. فما كان حكراً على شارع أبو نواس الشهير بتقديم سمك المسقوف، بعد اغلاقه كونه يطل على قصر "الريس"، وحملته الإيمانية قبل أكثر من عقد بغلق حاناته الأثيرة. أصبح اليوم من اختصاص شباب تتوزعهم حارات بغداد من دون استثناء. أسماك البحيرات كانت ملكية أحواضها وما تنتجه حصرياً للابن الأكبر "للريس". وغدت طقوس إطعامها من نوادر زمن الوحشنة. ففي ذلك الزمن كان "الأستاذ" يجلب عمالا من ساحات بغداد، مهمتهم الوحيدة سلق البيض وتقشيره ثم تجميع صفاره فقط لإطعام أسماكه المدللة. الغاية كانت واضحة، غلاً وامعاناً في اهانة الناس وهم ينتظرون أدوارهم لتسلم طبقة بيض تحتكر الدولة توزيعه. أسعار الأسماك متهاودة مقارنة مع أسعار لحوم الضأن والبقر. ولهذا لا تخلو وجبة طعام أسبوعية للعائلة البغدادية من نوع من أنواع السمك بعد غياب طويل قارب نسيانه مثل هذه الأكلة. ظهر زائر آخر، قارب العراقيون على نسيان من على موائدهم، إسمه الكما. فقد كان الكما، الذي تجود به بادية محافظة الانبار، حكراً للريس ولعائلته، يوزعه على شكل هبات مثله مثل كوبونات النفط على أصدقائه العرب والأجانب. في المقابل بدأت تتشكل ملامح طبقة وسطى، عمادها رجال أعمال وأطباء ومهندسون وموظفون ومدرسون. تكفي متابعة قطاعي البناء والترميم اللذين انتعشا خلال فترة وجيزة. تكفي متابعة حركة سوق الأجهزة الكهربائية وصولاً الى الثريات التي كانت حكراً مطلقاً على أزلام النظام السابق. لقد جلبت الحياة الجديدة، على رغم هشاشتها، نوعاً من الأمل. فبدأ الناس يؤمون عيادات أطباء الأسنان والعيون لترميم أسنان هرَست الحصى وهُرست ولعلهم يرون عالماً طالما انتظروه. في حين أصبحت العملة العراقية الجديدة، اضافة الى الدولار الأميركي، ذات قيمة افتقدتها سابقتها من كثرة الطبع والاستعمال. ولعل ذلك مؤشر آخر للتطلع الى مستقبل يستحضر ماض عاش فيه العراقيون في عز ورخاء. الانفتاح يطرد "الشجرة الخبيثة" ما كان محرماً بالأمس أصبح في عراق اليوم مباحاً. تكتشف هذه الحقيقة في نقاشات المقاهي او في الباصات وسيارات الأجرة. لم يعد المواطن يخاف من طرح رأي أو الدفاع عن موقف او اعلان انتمائه الى حزب سياسي، او التلفت أثناء الحديث. نقاشات مفتوحة بين العلمانيين والشيوعيين والليبراليين والمتدينين، من دون ان تهدد الوحدة الوطنية كما افترضها الديكتاتور وتلقفها الأصدقاء العرب. ف"الشجرة الخبيثة" التي وصم صدام بعض المحافظاتالعراقية بها ولت الى الأبد. لم يعد التكلم ينطوي على مخاوف وعواقب سود عند الحديث أمام الأطفال، او خشية الجار، او المسؤول الحزبي في المنطقة، او في العمل او الجامعة او في الجامع او في السيارة. فقد ولى عصر التقارير وكسر الرقاب، وانطوت حقبة مرة وقاسية وبشعة في حياة العراقيين. وفي سابقة لم يعهدها العراقيون، أصبح رجال الشرطة والمرور مثار إحترام وتقدير لدورهم الفعلي والعملي في حفظ الأمن وتنظيم المرور في مدينة مصروعة. بعيداً عن الوصف الانطباعي لحياة بغداد ثمة وجه اخر يتحدث عنه أهل بغداد. فما عدا وزير الثقافة مفيد الجزائري، وفي بادرة شخصية لتنظيف واجهتي ساحة التحرير وحديقة الأمة غداة الإحتفال بتكريم الفنان جواد سليم ومنجزه نصب الحرية، يقبع زملاؤه الجدد في مكاتبهم. وزير دهن مبنى وزارته بلون حزبه. وفرض آخر الحجاب واطلاق اللحى على منتسبي وزارته. ولا يمكن دخول وزارة أخرى، سواء كنت موظفاً او مراجعاً، من دون قراءة سورة الفاتحة. التعيينات الجديدة في بعض الوزارات غضت الطرف عن مبدأ الكفاءة، وأصبحت تزكية العشيرة والحزب هي المقياس في ملء شواغر من طالتهم قرارات الفصل او التقاعد في سياق حملة "اجتثاث البعث". ولعل حادثة منع صحافية شابة من تغطية المؤتمرات الصحافية لمجلس الحكم وحضورها سابقة فريدة. فبعد سؤال تلك الصحافية لعضو مجلس الحكم عن مؤهلات ثلاثة من أقاربه من الدرجة الأولى، ومبررات اسناد وظائف عليا لهم دون غيرهم، استشاط السيد المعين وكان فرمانه الذي كان. مؤسسات الدولة العراقية لم تفقد حمية ومسؤولية بعض موظفيها. فعلى رغم ان النظام السابق أفسد أجهزة الدولة، وقتل روح المسؤولية الشخصية وأشاع ثقافة الإهمال، فان غازي حسين، هو مثال القلة، الذي قادتني اليه خطاي من دون موعد ولا معرفة مسبقة هرباً من ظهيرة يوم مغبر. ولمن يريد التأكد فما عليه سوى التوجه الى المدرسة المستنصرية. فقد اهتم هذا الرجل بالآثار العراقية، الا ان عمله كأمين مخزن لسنوات طويلة، كما أسر لي، وتعففه عن التلون والسرقة، جعلاه يعود الى اقتفاء سر أبيه في هذه المهنة. زيارة المدرسة المستنصرية هي الثانية التي أقوم بها لهذا الصرح العباسي، لكن هذه المرة اكتسبت نكهة خاصة. فها أنا ازاء معلم كبير وبصحبة شخص يعرف سر كل حجر فيه. من المكتبة التي زودها "الحارس الأمين" بكتب ومصادر اشتراها من ماله الخاص من شارع المتنبي القريب، الى باحتها التي تحتض الساعة، الى أقسام الدراسة حيث كانت تدرس المذاهب الاسلامية الأربعة مروراً بالمحراب ثم السطح. افتتح هذه المدرسة الخليفة العباسي المستنصر بالله في العام 631 هجرية، وحملت اسمه. وبعد عامين اكتمل بناء ايوانها وساعتها التي تعمل بدفع الماء. ثمة مخطط فريد لهذه الساعة رسمه العلامة اللغوي والأثري الراحل مصطفى جواد، الى جانب خلاصات لتاريخها وضعه المؤرخ ابن الفوطي. وزارها عدد من الرحالة والأثريين العرب والأجانب، ابرزهم ابن بطوطة الذي أعجب بنظام تدريسها، والمواد المستعملة في بنائها حيث غلب عليه الآجر الأصفر. تقلبات تاريخ العراق طاول هذه المؤسسة العلمية والفكرية، لتصبح ثكنة ثم خاناً، الى ان قررت حكومة الزعيم عبدالكريم قاسم انقاذها في العام 1960، وتكليف المؤسسة العامة للآثار والتراث صيانتها وترميمها. ولعل المدرسة المستنصرية هي الوحيدة التي لم تطلها يد العبث منذ سقوط بغداد، فقد كفاها عبثاً وتخريباً على مر عصور بغداد. الا ان حسرة غازي حسين تكمن في مكان آخر، وهي ان هذا الصرح لا توجد له صورة ملونة! بغداد تنتظر من ينقذها من ارث ماضيها الثقيل وحاضرها الملتبس قليلاً. فقد ولت لوثة ولعنة البعث الى غير رجعة، مثلما ولت العصور المظلمة التي مرت بها هذه المدينة العريقة. وها نحن نودعها بوعود خالية من الخوف، بوعود تقطع لسان المنفى الذي طال. بوعود تمضغ ماضيين، أصبح لي وطن لا أخجل من الوقوف تحت علمه. فالمنفي هو الشخص الوحيد الذي ليس له علم. وعلى وقع هذه الوعود استعيد وأتمتم مقطعاً من قصيدة الشاعر العراقي سعدي يوسف "أحياناً، أسألُ: هل يأتي النسيانْ بالرحمة... أو يأتي باللعنةْ"