بعد زيارتي لضريح الشيخ محمد عياد الطنطاوي في لينينغراد، كنت شديد الرغبة في مشاهدة احد المعالم المهمة في تلك المدينة الروسية العريقة، وهو قصر الامير يوسوبوف الذي كان مسرح المؤامرة التي دبرها صاحبه لقتل الراهب الاسطوري راسبوتين. كان راسبوتين قرويا من سيبيريا لا نصيب له من التعليم سيئ الخلق، دخل القصر الامبراطوري في العاصمة الروسية سانت بطرسبورغ التي اعيدت تسميتها الى لينينغراد في العهد السوفياتي في سنة 1905 ليصبح بعد سنوات قلائل اقوى شخصية في روسيا، يمارس نفوذاً لا حدود له على الامبراطور نيقولا والامبراطورة، حتى اصبح يوصف بالحاكم الفعلي الذي وجه بنفوذه المشين سير الاحداث في الامبراطورية الروسية في سنواتها الاخيرة. كان اسم راسبوتين الحقيقي غريغوري يفيموفيج نوفيلوف ولكنه صار يدعى راسبوتين ومعناها بالروسية الفاسق. هجر راسبوتين زوجته وسافر هائماً على وجهه في اليونان والقدس، يعيش على صدقات الفلاحين القرويين، وحصل على سمعة مرشد روحي مع قدرة على شفاء المرضى والتنبؤ بالمستقبل. ووصل الى العاصمة الروسية في سنة 1903 رجلاً اشعث، اغبر، قذر المنظر، ذا بريق غريب في عينيه، فأصبح "قديساً" تحيط به هالة من الغموض والرهبة، وذاعت عنه شهرة في شفاء المرضى. وكان ولي العهد الروسي الطفل اليكسيس يعاني من مرض خطير هو "الهيموفيليا" او مرض النزف الدموي المزمن، وكان اذا جرح او اصيب بخدش بسيط مثلاً وهو يلعب، لا ينقطع نزف دمه. وفي احدى نوبات هذا المرض، فكر القيصر وزوجته، في غمرة اليأس والأسى، استدعاء الراهب الذي سمعا بقدرته على شفاء المرضى بعد ان عجز الاطباء عن معالجته. فحضر راسبوتين، وتمكن من انقاذ حياة الامير الطفل. وتكرر ذلك في ما بعد أكثر من مرة. ويروي الذين قابلوا راسبوتين انه كان يمتلك قدرة مغناطيسية غريبة، كما اكد المقربون من القصر ان مجرد وجوده الى جانب سرير الامير المريض كان له فعل السحر في تحسن حالته. وكانت الامبراطورة الكساندرا امرأة ضيقة الافق، هستيرية، متشائمة، وصارت تؤمن بأن حياة وحيدها في يديه. وأدرك الراهب القروي الذكي مدى سيطرته على مشاعر الامبراطورة وزوجها، فجعلهما يؤمنان، بمرور الوقت، انه ليس حياة ولي العهد وحدها، وانما حكم اسرة رومانوف، يعتمدان على صلواته. وكان القيصر تغمره الوساوس والهموم كلما فكر بما سيحدث لهم لو مات هذا القديس. والواقع انه ليس من المعروف على وجه التحديد متى بدأ نفوذ راسبوتين الفعلي في القصر، ولكن يبدو انه كان في سنة 1913 قد توطد بصورة لا تتزعزع، حتى اصبح سيد القصر الامبراطوري وأقوى شخصياته، يوجه شؤون الدولة، ويعين الوزراء ويعزلهم، ولم يعد في مقدور أي رجل من رجال الدولة مهما كان مركزه ان يحتفظ بمنصبه اذا نال سخط هذا الراهب. وكان الامراء والنبلاء والوزراء يسعون الى داره طالبين رضاه وشفاعته. وقد تملك الرعب جميع الاوساط الحاكمة في روسيا من نفوذ هذا الرجل المشعوذ الذي استحوذ على عقل الامبراطورة ومشاعرها، واخضعها لإرادته كما اخضع الامبراطور الذي كان ضعيف الشخصية أمام زوجته الى حد انه أصدر أمراً منع فيه التعرض لذكر راسبوتين، او رفع أي شكوى ضده. وكان راسبوتين رجلاً فظاً، وكانت مغامراته وفضائحه الأخلاقية مع النساء من أعلى الطبقات الى أحطها، وحوادث سكره وعربدته حتى في المحلات العامة، معروفة للجميع، لكن حماية القصر جعلته في مأمن من العقاب، بل فوق القانون. وفي سنة 1911 اصبح سلوك راسبوتين فضيحة عامة، وأرسل رئيس الوزراء ستوليبين تقريراً الى القيصر عن سوء أفعاله، وعلى اثر هذا التقرير طرد القيصر راسبوتين، لكن زوجته الكساندرا جعلته يعود بعد بضعة اشهر. وكان القيصر نيقولا حريصاً على ألا يزعج زوجته او يعرض للخطر صحة ابنه التي كان لراسبوتين بلا شك اثر مفيد عليها. فقرر ان يتجاهل الاتهامات والشكاوى التالية بحق هذا الراهب الفاسق الدجال. وبلغ راسبوتين قمة نفوذه في سنة 1915. وخلال الحرب العالمية الاولى تولى نيقولا القيادة العامة للقوات الروسية بنفسه، وذهب الى مقرات الجيش في ميدان القتال، تاركاً ادارة شؤون الدولة الداخلية بيد زوجته الكساندرا، فأصبح راسبوتين بمثابة المستشار الخاص لها، وامتد نفوذه من تعيين موظفي الكنيسة الى اختيار الوزراء، وكانوا في الغالب من الانتهازيين عديمي الكفاءة. بل صار اخيراً يتدخل في الشؤون العسكرية المتعلقة بمصير روسيا ومستقبلها. وقد أغاظ نفوذ راسبوتين الشرير وتصرفاته اعضاء الاسرة المالكة ورجال الدولة الذين لم تكن لديهم حيلة للتخلص منه إزاء تمسك الامبراطورة به. وجرت محاولات عدة لانقاذ روسيا منه، بعضها من جهات دينية وبعضها من عسكريين وسياسيين ممن أدركوا خطره على الدولة والعرش. وفكر راسبوتين في الغياب عن العاصمة بطرسبورغ بعض الوقت، وأثناء زيارة قام بها الى قريته في سيبيريا تعرض لمحاولة اغتيال من احدى بنات الهوى ولكنه نجا منها بإعجوبة. وكانت امرأة مضطربة عقلياً، وتظاهرت بأنها معوزة تطلب صدقة من الراهب. ولما مد راسبوتين يده الى جيبه لاخراج بعض النقود، اخرجت من طيات ثوبها سكينة طويلة طعنته بها في بطنه وهي تصيح: "لقد ذبحت عدو المسيح...". ومن الغريب ان راسبوتين لم يتأثر بالطعنة على عمقها، بل لم يسقط على الارض، اذ وضع يده على الجرح الذي كان ينزف بالدم وأوقفه. وبعد عملية جراحية أجريت له بقي راسبوتين بين الموت والحياة بضعة اسابيع كان القيصر خلالها يتهيأ لدخول الحرب العالمية الاولى، وكان راسبوتين قد تمكن من اقناع القيصر بعدم الدخول في حرب البلقان في سنة 1912، ولكنه لم يتمكن، وهو على سرير مرضه، من الحيلولة دون تورط روسيا في الحرب العالمية الاولى. وخلال السنتين اللتين اعقبتا عودته الى العاصمة ألف راسبوتين وزارات وأقالها، وكان مصير معارضيه على الدوام العزل او النفي. وكان المعتقد في سنة 1915 1916 ان راسبوتين الذي كان معروفاً بميوله نحو المانيا، يبحث عن طريقة لتحقيق السلام، وفي هذه الفترة قرر بعض العناصر اليمينية من العائلة المالكة التخلص من الراهب الدجال ومن خطره على الدولة وإنقاذ العرش منه. فاتفق أحد النبلاء، وهو الأمير فيليكس يوسوبوف مع اثنين آخرين من اعضاء الاسرة القيصرية، على مؤامرة للتخلص منه وانقاذ الملكية من مزيد من الفضائح. وكان الامير يوسوبوف من الامراء المثقفين، وقد تلقى تعليمه في جامعة اوكسفورد البريطانية، وكان يتمسك بالقيم الاخلاقية ويزعجه نفوذ راسبوتين السيئ في الدولة. واقام يوسوبوف حفلة ساهرة تكريماً لراسبوتين في ليلة 29 كانون الاول ديسمبر 1916 في سرداب بقصره على نهر نيفا، فحضر راسبوتين، وقدم له كعك مسموم، تناول قطعة منه بعد اخرى، وشرب كأساً بعد أخرى من النبيذ الذي دسوا فيه السم ايضاً. وملاء راسبوتين جوفه من الشراب والطعام لكن اثار السم لم تبد عليه، بل زاد مرحاً وصخباً. خشي يوسوبوف ان تمضي الليلة ويخرج راسبوتين سالماً وتضيع الفرصة، فصعد الى رفاقه في الطابق الاعلى وأخبرهم بالأمر، ففكروا انه ربما كان هناك خطأ في تركيب السم، وقرروا ان يقتلوه على أي حال. ونزل يوسوبوف، وقد أخفى مسدساً في جيبه، وقال لراسبوتين انه اشترى صورة رائعة لامرأة جميلة في وضع فاضح، وكان راسبوتين لا يستهويه شيء مثل ذكر امرأة جميلة، فهب من مقعده وذهب مع يوسوبوف الى حيث علقت الصورة، وبينما هو واقف يتأملها أخرج يوسوبوف مسدسه واطلق عليه الرصاص في ظهره. وسقط راسبوتين يتخبط، وهرع يوسوبوف الى رفاقه في الطابق الاعلى يخبرهم ان كل شيء انتهى على ما يرام. ولكن بينما كانوا يتحاورون في ما يجب ان يفعلوه بالجثة وكيف يتخلصون منها، اذا بهم يسمعون حركة في حديقة القصر، واطل يوسوبوف، فلما رآه راسبوتين صاح به، وكأنه يريد اسماع من في الشارع: "سأخبر القيصرة... اغيثوني..." ولكن يوسوبوف عاجله بطلقة بعد اخرى حتى سقط جثة هامدة لا شك في موتها. وشد المتآمرون وثاقه، وألقوا به في نهر نيفا من خلال حفرة في الجليد المتجمع على سطح النهر، فغاب في أعماقه، ولم تكتشف جثته إلا بعد ثماني وأربعين ساعة. وكانت احدى يديه قد خرجت من وثاقها، ورئتاه مليئتين بالماء. ويبدو انه كان لا يزال حياً حين القي به في النهر، وانه مات غرقا. أحدث موت راسبوتين هزة عنيفة بين ملايين الفلاحين، وغمر اسرة رومانوف حزن عميق، وأمرت الامبراطورة بدفنه قرب كنيسة القصر، وقد حدا ذاك بالقيصر الى مزيد من التمسك بمبدأ الحكم الفردي. ولكن لم تمض بضعة اسابيع حتى اكتسحت الثورة النظام القيصري بأجمعه، وقتل الثوار القيصر وأفراد عائلته صغاراً وكباراً. وليس من اليسير التكهن بالدور الذي كان سيقوم به راسبوتين لو أدرك قيام الثورة البلشفية في سنة 1917، ولكن يبدو ان نبؤءته صدقت حين قال في أحد الايام: "اذا مت، سيفقد الامبراطور تاجه سريعاً". وبقي قصر يوسوبوف على ضفة نهر نيفا يذكر السياح الذين يقصدونه من كل فج وعميق، بهذه المغامرة الجريئة التي قام بها الأمير يوسوبوف ورفاقه. وقد هرب يوسوبوف من روسيا عند قيام الثورة، وقضى بقية حياته في باريس ولندن ونيويورك، تاركا وراءه قصره الذي زرته، فتأملته من الخارج، وتجولت في غرفه وقاعاته التي تذكر بهذه الحادثة، وقد اصبحت صفحة مثيرة في تاريخ روسيا القيصرية الحافل بالأحداث المثيرة، ومن المعالم السياحية التي يقصدها زوار العاصمة الروسية القديمة الى جانب معالمها الاخرى مثل متحف "الارميتاج" الرائع، والباخرة اورورا، وضاحية بيترهوف. وكان قصراً منيفاً، ذا اثاث رائع، في موقع جميل على شاطئ النهر، لكنه كان خاليا من سكانه ينعى من بناه