هل أن ما يجري بين إيرانوالولاياتالمتحدة هو هز عصا؟ أم تمهيد لاستخدام هذه العصا من قبل أميركا بالطبع؟ قبل محاولة الاجابة على هذا السؤال الحار، وقفة أولاً أمام تداعيات الاحداث المتسارعة. القصة بدأت مع تسريبات ل"واشنطن بوست" يُعتقد أن مصدرها وزارة الدفاع الاميركية، فحواها: الإدارة الاميركية، التي أثارت حفيظتها معلومات استخبارية تشير الى أن قادة تنظيم "القاعدة" النشطين في إيران كانوا وراء تفجيرات الرياض، عمدت الى تعليق المحادثات السرية مع إيران والتي تجري منذ أمد غير قصير في جنيف، وهي تبدو مستعدة لانتهاج سياسة نشطة لزعزعة استقرار الحكومة الايرانية الحالية. مسؤولو البنتاغون يضغطون بقوة على البيت الأبيض لمناقشة استراتيجية اميركية جديدة نحو إيران، تستند الى القيام بعمليات عامة وخاصة يعتقدون بأنها ستؤدي الى إطاحة الحكومة عبر إنتفاضة شعبية. ويبدو ان وزارة الخارجية الاميركية توافق على هذا المنحى. العمليات الانتحارية في الرياض، وضعت حداً لعملية "التشابك الايجابي" بين إيرانوالولاياتالمتحدة، والتي بدأت خلال حربي أفغانستانوالعراق. قبل هذه التسريبات بأيام قليلة، كان وزير الدفاع الاميركي دونالد رامسفيلد يتهم إيران بإيواء أعضاء في "القاعدة"، قائلاً: "لا شك أنه كان هناك، ولا يزال، قادة فاعلون من القاعدة في إيران، وهم مشغولون للغاية". وعلى رغم أن طهران حاولت تنفيس هذه الأزمة من خلال التأكيد أنها تعتقل قادة من "القاعدة"، إلا أن واشنطن واصلت الضغط على الحكومة الايرانية، معلنة أن البيانات الايرانية غير كافية. لا بل هي ضخّت في الأزمة عامل تفجير كبير آخر هو اتهام طهران بمواصلة مساعيها لامتلاك القنبلة النووية. ويقول فيلنت ليفرت، الذي ترك البيت الابيض أخيراً للانضمام الى مركز سابان حول سياسة الشرق الاوسط في معهد بروكينغز: "إن الادارة تقوم بمقامرة. لكنني اعتقد أنه من الطيش الافتراض أن الجمهورية الاسلامية ستنهار كبناء من الكرتون، في فترة زمنية مناسبة لنا. إننا قد ننتهي بإيران وقد امتلكت الاسلحة النووية، من دون أن يكون ثمة حوار بينها وبين الولاياتالمتحدة حول القضايا الارهابية". هل تقوم الإدارة الأميركية بمغامرة؟ فلنقل أن جزءاً من هذه الادارة على الأقل قرر المقامرة. إذ أن ثمة جزءاً آخر لا يزال يقول إن إيران أبدت تعاوناً جيداً في بعض الحالات، بما في ذلك تسليم بعض الارهابيين المشتبه بهم الى المملكة العربية السعودية وباكستان. ورداً على هذه المبادرة، عمدت الحكومة الأميركية الى تجريد منظمة "مجاهدين خلق" الإيرانية من سلاحها. ويعتقد معتدلو الادارة أنه ما زال من الممكن أن تنجح الضغوط الديبلوماسية على إيران، خصوصاً إذا انضم اليها الاتحاد الاوروبي وروسيا والصين. وهذا منطق أنصار هز العصا. أما مؤيدو استخدام العصا وهم يتكاثرون الآن داخل الادارة، فباتوا يشككّون كثيراً بفاعلية الضغط الديبلوماسي، خصوصاً حين يتعلق الأمر بقضايا الارهاب. وهم يحذرّون الآن من أن الايرانيين تخطّوا الخطوط الحمر ليس فقط في ما يتعلق بالعمليات الارهابية، بل أيضاً في تعاطيهم مع الوضع العراقي. وهذه المسألة الاخيرة في غاية الخطورة بالنسبة إلى واشنطن، لأنها قد تؤدي الى جعل أكثر من 150 ألف جندي اميركي مكشوفين امام العمليات الانتحارية المدمّرة، ما يدفع بعض المراقبين الى الاعتقاد بإن التحركات الاميركية الحالية هدفها الأول تأمين العمق الامني الاستراتيجي للقوات الاميركية في العراق. وإذا تحقق هذا الهدف، سيكون في وسع الولاياتالمتحدةوطهران طي ملف الازمة الراهنة، على حساب تنظيم "القاعدة" بالطبع. لكن، هل نسي المراقبون شيئاً هنا؟ أجل. الأسلحة النووية. فإذا واصلت الولاياتالمتحدة، كما تفعل الآن، فتح هذا الملف، فإن الازمة الايرانية - الاميركية قد تصل الى طريق اللاعودة، لسببين اثنين: الأول، أن القضية النووية تسلّط الاضواء الباهرة مجدداً على إيران بوصفها عضواً في "نادي محور الشر" الأميركي، وتعيد الى الاذهان حقيقة أن حرب العراق لم تكن سوى مقدمة، مجرد مقدمة، لمخطط الادارة الاميركية الرامي إلى إعادة تشكيل الشرق الاوسط. وبالطبع، مثل هذا التشكيل مستحيل من دون "تغيير النظام" في إيران. والثاني، أن المسألة النووية الإيرانية هي الشغل الشاغل الآن لإسرائيل، التي تعتبر الآن الحليف الاول للبنتاغون في اندفاعته العسكرية الراهنة في الشرق الاوسط. وهي تعتقد بأن البرنامج النووي الايراني بلغ اليوم مرحلة اللاعودة، مخّلاً بموازين القوى على نحو خطير لغير مصلحة الدولة العبرية. ونشرت دورية "جيروزاليم ريبورت" أخيراً تقريراً خطيراً حول التسلح النووي الإيراني تمحورت أفكاره الرئيسة حول الآتي: 1- الولاياتالمتحدة غزت العراق وأطاحت نظامه بذريعة أنّه كان استخدم أسلحة غير تقليدية ضد شعبه، وقد يقدم على استخدامها ضد بلدان أخرى، من بينها اسرائيل، أو يزوّد بها جماعات ارهابية مثل تنظيم "القاعدة". وفي المقابل، إيران التي تقع شرق العراق، تمثل قوة اقليمية، وتمتلك أسلحة كيماوية، وقدرات صاروخية بعيدة المدى، وهي تسعى الى أن تبلغ هذه الأخيرة الولاياتالمتحدة عينها. وإذا افترضنا نوعاً من السيناريوات يعبّر عن أحسن الأحوال، فإنّ إيران تشكل نظاماً يمنع التدخل في شؤونها، ويكاد خلال سنتين، أن يتمكن من تصنيع سلاح نووي، علماً أنّ ثمة من يعتقد، في الأوساط الدولية لأجهزة الاستخبارات، أنّ ايران باتت تمتلك، فعلاً، هذا السلاح. 2- في الوقت الذي يتساءل منتقدو الحرب الأميريكية على العراق عن جدوى المحاولات الأميركية للربط بين نظام صدام حسين وتنظيم "القاعدة"، فإن النظام الإيراني كان العقل المّدبر لتفجيرات بوينس آيريس، كما أنّه يزود "حزب الله" بالأسلحة والتدريب، ويدعم حركة "حماس". وبينما كان هؤلاء المنتقدون أنفسهم يزعمون أنّ العقوبات المفروضة على العراق وعمليات التفتيش، تعيق الطموحات الاقليمية لصدام، كانت الحكومة الايرانية تبدي التزاماً علنياً بتصدير الثورة الاسلامية لضمان استمرارية قيمها في مقابل التأثير الشيطاني للولايات المتحدة والغرب من دون أن تلغي من اعتبارها ازالة اسرائيل. وعلى رغم صواريخ "سكود" التي أطلقها صدام حسين على اسرائيل في العام 1991، والتهديدات النارية التي أطلقتها بغداد بإحراق نصف اسرائيل، فإنّ رؤساء الحكومات الذين تعاقبوا على اسرائيل، خلال العقد المنصرم، لطالما اعتبروا ايران، وليس العراق، الخطر الاستراتيجي الأعظم. 3- يميل المحللون الاستراتيجيون في الولاياتالمتحدة، الى الاعتقاد بأنّ ثمة تحولاً اصلاحياً تشهده إيران اليوم، وأنّ النظام القائم هناك يكاد يقترب من الديموقراطية، ويقترحون استيعابه وفهم آلياته البراغماتية. لكن هذه التصورات لا تستخدم إلا على نحو من التبرير المقنع للاحجام عن الاضطلاع بالوضع الايراني بذريعة الاسلحة المتطورة التي تمتلكها طهران، وقدرتها على الحاق ضربات ارهابية مؤلمة بأعدائها، وسقوط ضحايا كثيرين في حال نُفذّ تدخل عسكري فيها، ناهيك بما يترتب على ذلك من أكلاف باهظة وتدهور على المستوى الاقليمي، بحيث أنّ "عملية تحرير العراق" ستغدو مجرد رحلة بين الرياحين ازاء ضربة مماثلة لإيران. 4- أما في ما يتعلق باستهداف المنشآت النووية الايرانية، بالطائرات الحربية أسوة بتدمير المفاعل النووي العراقي"اوزيريك" في 7 حزيران يونيو 1981، فإنّ الواقع يشير، حتى ولو تكلل هذا الاستهداف بالنجاح، الى أنّ ضربة أو ضربات من هذا النوع، لن تشكل عائقاً لا يمكن تجاوزه كما كانت عليه الحال بالنسبة إلى "اوزيريك" وما ترتب على تدميره من نتائج حدت من طموحات صدام النووية. فقد كان هذا الأخير يعتمد في برامجه النووية على المساعدة الخارجية، أما الايرانيون، فتمكنوا من الاعتماد على قدراتهم الذاتية في هذا المجال. هل الرسالة الاسرائيلية واضحة هنا؟ أجل. وهي تعني أن شيئاً ما يجب أن يحدث ضد إيران من الآن وحتى السنتين المقبلتين، شيء من شأنه منع إيران من الانضمام الى النادي الذري. الكاتب الاميركي مورين دويد يقول إن الصقور الاميركيين يريدون من إسرائيل أن تقوم بهذا "الشيء"، وهو هنا قصف المفاعلات النووية الإيرانية بغارات جوية. بيد أن تل أبيب يضيف الكاتب تريد ان تقوم واشنطن نفسها بهذه المهمة. لكن، وبغض النظر عمن سيقوم بهذه المهمة، يبدو واضحاً أن تل أبيب وواشنطن تعدّان العدة بالفعل للقيام بعمل عسكري ضد المنشآت النووية الايرانية. لا بل يقول الكاتب اليساري الاميركي نعوم تشومسكي ان الحرب الاميركية - الاسرائيلية على إيران "دخلت طور التنفيذ. فمنذ سنة وردت تقارير تفيد بأن عشرة في المئة من الطيران الحربي الاسرائيلي يربض، بشكل دائم، في قواعد أميركية ضخمة تقع في شرق تركيا". ويضيف تشومسكي: "كما أن ثمة تقارير أخرى موثوقة، تؤكد أن جهوداً تبذل بالتعاون مع إسرائيل والولاياتالمتحدةوتركيا لحمل القوى الآذرية شمال العراق على إقامة همزة وصل بين أجزاء من إيران وجمهورية أذربيجان. وهذا قد يؤدي في النهاية الى شرذمة إيران". قد يقول بعضهم هنا ان هذه السيناريوهات ليست أكثر من ذلك حتى الآن: أي مجرد سيناريوهات. وهذا قد يكون صحيحاً. لكن في المقابل، ثمة مؤشرات على أن وراء الأكمة ما وراءها. فليس أمراً بسيطاً أن يتحّرك الاتحاد الاوروبي، الراعي الأول لفكرة الانفتاح على إيران، لمطالبتها الالتزام بمعاهدة حظر التجارب النووية وإلا… وإلا ماذا ؟ وإلا "ستخاطر إيران بالتسبّب في حدوث تحّول أساسي في استراتيجيتها نحو النظام في طهران". وهذه كانت المرة الاولى التي توجّه فيها أوروبا، بما في ذلك فرنسا وبريطانيا، رسالة تهديد من هذا النوع الى إيران. وكان وزير الخارجية اليوناني جورج باباندريو أوضح للخبراء الأمنيين والديبلوماسيين في بروكسيل قبل أسبوعين بأنه "يتعيّن على أوروبا تطبيق مقاربات عدة لتوجيه رسالة واضحة الى ايران حول ضرورة التخلي عن الأسلحة النووية". وكان الوزير يشير بذلك ضمناً إلى المقاربة الجديدة، او الاستراتيجية الجديدة، التي ستناقشها قمة الاتحاد الاوروبي في سالونيكا الشهر المقبل، والتي تحدد المخاطر التي تواجهها أوروبا، خصوصاً أسلحة الدمار الشامل في الشرق الأوسط. وفيما كانت طهران تقف مشدوهة أمام هذا الموقف الاوروبي الجديد، فوجئت بموقف لا يقل حدة من جانب روسيا التي رضخت للضغوط الاميركية وأعلنت أنها لن تزّود إيران بالوقود النووي لمفاعلها، "ما لم توافق الجمهورية الاسلامية على إخضاع كل مؤسساتها النووية الى التفتيش". ووصفت "فاينانشال تايمز" القرار الروسي بأنه "خطوة كبيرة في اتجاه دعم الجهود الاميركية لمنع إيران من امتلاك أسلحة نووية". الآن، إذا ما أضفنا هذه المواقف الاوروبية والروسية الى التهديدات الاميركية، وجمعناها مع الضغوط الاسرائيلية على واشنطن لجعل إيران المحطة الثانية في الحرب ضد "محور الشر"، فقد نتوصل الى الاستنتاج أن الحرب الباردة الايرانية - الاميركية - الاسرائيلية قد تتحّول في أي لحظة إلى حرب ساخنة، او على الأقل الى تسخين عسكري محدود. وهذا ما قد يدفعنا الى تعديل سؤالنا الأوّلي. فبدلاً من: هل هذا هزّ عصا أم تمهيد لاستخدامها، الى… متى ستستخدم العصا الاميركية؟