يبدو أن إدارة الرئيس بوش حشرت نفسها في ورطة ثانية وهي لم تخرج بعد من ورطة العراق. الورطة في العراق كانت بسبب التدخل العسكري والاحتلال، أما الورطة في إيران فستكون، أو هي في الواقع بسبب عدم التدخل. أو بمعنى أدق بسبب تعقيدات تمنع التدخل عسكرياً وصعوبات تعقد فرص التدخل ديبلوماسياً. وأظن أن تحليلات كثيرة خرجت عن الصواب حين بحثت عن أوجه تشابه بين العراقوإيران في الشهور السابقة على الغزو أو التفكير فيه. فما رأيناه حتى الآن يشير إلى العكس تماماً بمعنى أنه لا توجد وجوه كثيرة للتشابه في الحالتين، بل معظمها وجوه اختلاف. المؤكد بداية هو أن إيران، بالنسبة لنيات بعض الأميركيين الداعين إلى شن غزو عليها أو تصعيد الصراع معها، لن تكون هدفاً سهلاً، ولن يكون التدخل فيها ميسوراً وإن حدث فلن يكون مقبولاً من المجتمع الدولي والمحيط الإقليمي. يعتقد المتشددون في الإدارة الأميركية أن إيران في هذه المرحلة من المواجهة معها، تمثل تهديداً أشد خطورة مما كان يمثله عراق صدام حسين. فإيران، شعباً ونظاماً وجيشاً، لم تنسَ بعد الدعم الأميركي، ولا الدعم الخليجي والعربي، لعراق صدام، وإيران لديها استعداد أكبر مما كان لدى العراق لصنع قنبلة نووية، وفرص إيران، الإيديولوجية والسياسية والتنظيمية، لإقامة علاقات مع جماعات دينية متطرفة، أو تنشيطها، أكثر كثيراً من الفرص التي كانت متاحة لعراق صدام. من جهة أخرى، إيران أقوى كثيراً جداً وأغنى وأكبر من عراق صدام وعراق ما بعد صدام. سكانها ثلاثة أضعاف سكان العراق، ومساحتها أربعة أضعاف مساحته، ومشكلاتها ربما كانت أضعاف أضعاف مشكلات العراق، وبالتالي يصعب تصور أن يكون التدخل العسكري في إيران ميسوراً وسلساً كالتدخل في العراق، على الأقل خلال الأسابيع الأولى للغزو. وبالمقارنة كذلك تبدو صورة إيران في المحيط الإقليمي والمجتمع الدولي عامة أفضل كثيراً من صورة عراق صدام، فنظام الحكم فيها يحظى بشرعية دولية لم يكن يحظى بها نظام البعث. ويحسب لإيران سياسياً أنها تخضع لنظام غامض النوايا، أي نظام يصعب التنبؤ بسلوكه السياسي على عكس نظام صدام الذي كان سريع الاستجابة لأي إثارة ما جعل سلوكياته وتصرفاته كتاباً مفتوحاً لخصومه. وتزداد أهمية هذه العناصر وربما خطورتها المتحققة في الوضع الإيراني ولم تكن هكذا في الوضع العراقي، إذا تصورنا حالة تدخل عسكري أميركي أو تهديد به. إذ يدرك جانب كبير من مخططي السياسة الأميركية أن إيران لا تزال، وستبقى لأجل غير قصير، الطرف الخارجي الأكثر خطورة في الأزمة العراقية. صحيح أن إيران لم تحرض الشيعة العراقيين المقيمين على مقربة من حدودها الطويلة مع العراق ولم تحرض آخرين من خارج العراق ضد أهداف وتحالفات أميركية، ولكنها، عند الشعور بالخطر، قادرة على إصابة الولاياتالمتحدة بأضرار شديدة. وقرأت أن مسؤولاً أميركياً، من الجناح المتشدد، قال:"إن أرادت إيران أن تجعل مجتمعنا في العراق أشد هولاً لفعلت.. ولكنها لم تصل بعد إلى الشعور بالحاجة إلى ذلك". وعلى كل حال، يبدو أن المسؤولين الإيرانيين مدركون لحقيقة أن القوات الأميركية الموجودة في العراق لن تستطيع فتح جبهة على الجهة الأخرى من الحدود أو الدخول في مواجهة هناك. وأظن أن كثيراً من الإعلانات أو التسريبات الأميركية في الأيام الأخيرة عن إمكان تعبئة قوات أميركية كافية لشن حرب أخرى في أي مكان من العالم ليست أكثر من محاولة للتأثير في معلومات الإيرانيين ومعنوياتهم. وأظن أن الإيرانيين لا يحلمون أو يخططون لكارثة تحيق بهدف أو مصلحة أو بقاعدة أميركية في المنطقة، إذ لا توجد لدى إيران أو غيرها من دول الشرق الأوسط خطط جاهزة للتعامل مع حال فوضى تنجم عن نزوح مفاجئ لأميركا من المنطقة. الهدف هناك في طهران، كما في عواصم أخرى، أن يكون النزوح، حين تحين ساعته، بالتفاهم، ولا يكون كما حدث في سايغون في نهاية حرب فيتنام، بالتكالب على مقاعد في المروحيات من فوق أسطح المباني في المنطقة الخضراء في بغداد. ويختلف الأميركيون، خصوصاً المتشددين في التيار اليميني الجديد، بشأن الدور الإسرائيلي في الحالة الإيرانية. ويبدو أن التيار الغالب يؤيد فكرة الضغط على إسرائيل لعدم قصف المفاعلات النووية الإيرانية. أعتقد أنهم توصلوا إلى أن ضربة إسرائيلية لإيران ستضر بجهود أميركا لتشكيل تحالف عالمي قوي ضد إيران، فضلاً عن اقتناع البعض بأن إسرائيل لا توجد لديها التكنولوجيا اللازمة. فالطائرات الإسرائيلية قد تصل إلى أهدافها لكنها لن تستطيع العودة إلى قواعدها إلا إذا هبطت في السعودية أو الأردن أو العراق أو تركيا في طريق العودة، وكلها أو أكثرها بدائل شائكة. وإن حدث مثل هذا في أجواء كتمان، فالمؤكد أن خسارة أميركا في المنطقة ستكون رهيبة في وقت تحاول فيه تحسين مكانتها. من جهة أخرى، يدرك الجميع أن لا وجه للمقارنة بين تدخل إسرائيلي في إيران وقصفها لمفاعل أوزيريك في العراق، فالمفاعلات في إيران متعددة ومتناثرة، وكذلك مواقع الصواريخ، وبعضها قد ينطلق نحو أهداف أميركية في دول عربية متعددة أو نحو إسرائيل مزود بأسلحة قد تكون بيولوجية أو كيميائية. وحتى لو نجح القصف في تدمير مفاعل أو أكثر ففي الغالب لن يكون معنى ذلك بالضرورة تكرار ما حدث في العراق، أي إقناع إيران بالاستمرار في تجارب لصنع القنبلة النووية، إن كان في عزم إيران إنتاجها. ويعتقد بعض أصدقاء إسرائيل في واشنطن أن إسرائيل التي تدرك هذه الحقائق إنما تستمر في إصدار تهديداتها عن استعدادها للتدخل العسكري في إيران للضغط على صانع السياسة الأميركي ليتحرك بحماسة أكبر ويأخذ الأمر بجدية. إن أشد ما تخشاه الولاياتالمتحدة، ويلمح إليه مفكرون استراتيجيون هو أن تلجأ إيران، في حالة شن غزو أميركي أو أميركي إسرائيلي عليها إلى استخدام بديل"الجيل الرابع"للحرب، أي الامتناع عن المواجهة المباشرة واللجوء إلى ضرب مواطن الضعف في الخصم، مثل قواعده المدنية. لذلك لا يوجد شك كبير لدى كثيرين في واشنطن في أن إيران ومنظمات إسلامية شديدة التطرف، لن تتوانى عن التوصل إلى نقطة التقاء لتنسيق انتقامها من أميركا سواء على"أرضها"في أميركا أو على"أراضيها"المنتشرة في الشرق الأوسط. ويعرف بعضنا القول الشائع والذي يردده ديفيد كاي ، كبير المفتشين الأميركيين وصاحب التأكيد المتكرر قبل الغزو الأميركي وبعده على عدم وجود أسلحة دمار شامل في العراق، بأن"الإيرانيين ثقافة سياسية واستراتيجية عند حدودها القصوى"، أي أنه يوجد شيء في ثقافتهم السياسية والمذهبية يحرضهم عند إحساسهم بالخطر على الذهاب إلى آخر الطريق في التضحية والانتقام. شهدت الأيام الأخيرة التوسع في نشر أخبار عن سيناريوات معقدة للتدخل العسكري الأميركي في إيران، تبدأ بإنزال بري على نمط النموذج المراوغ الذي نفذته أميركا في غزو العراق مروراً بقصف مطول لمواقع الحرس الثوري باستخدام طائرات الشبح وقاذفات B 52 وصواريخ كروز، وانتهاء باقتراح المتشدد اليميني رئيول غريشت القصف الجوي المكثف لما يقرب من 300 هدف نووي ومواقع دفاع جوي بطائرات تنطلق من حاملاتها في المحيط. ولا أستبعد شخصياً أن تلجأ أميركا أو إيران أو كلاهما معاً ولو لفترة إلى إثارة مناوشات حدودية على هامش المباريات الدبلوماسية، وليس أكثر. ومع ذلك، يبقى أنه توجد أمور تتفادى أجهزة الإعلام والمسؤولون هنا وهناك الغوص فيها رغم أهميتها البالغة، منها أولاًً، هيمنة الخوف من أن تتكرر في إيران أخطاء أميركا في التحضير لغزو العراق وتنفيذه، وهو الخوف الذي يكاد يشل الفكر السياسي والعسكري الأميركي في أزمته الراهنة مع إيران، ومنها ثانياً أن ميلاً يزداد وضوحاً في دوائر سياسية أميركية وأوروبية نحو اعتبار التجربة النووية الهندية نموذجاً قابلاً للتكرار في إيران، باعتباره النموذج الذي يضمن الاستقرار الإقليمي وبخاصة مع الصين وباكستان ويجدد ثقة الأطراف في العمل الدبلوماسي لحل المشكلات. ومنها ثالثاً أن جانباً من القصور الأميركي في التفاوض مع إيران، متمثلاً في التردد والتروي وهدوء الأعصاب على عكس السلوك الأميركي مع عراق صدام، يعود إلى أنه لا يوجد لدى واشنطن تهديد مناسب وقابل للتصديق يردع إيران أو يرهبها في حال وصول المفاوضات إلى طريق مسدود. ومنها رابعاً أن جانباً آخر من التصور الأميركي في التعامل مع المشكلة الإيرانية يعود إلى حكمة أميركية قديمة تقول إنه في الولاية الثانية، أي في الفترة الثانية للرئاسة الأميركية تتدهور كفاءة الإدارة والحكم في واشنطن، إذ يكون كبار المستشارين وأكفأ الحكماء تعبوا وخرجوا... أو تعبوا واستمروا. كاتب مصري.