لا يستطيع أي محلل إخباري أو صحافي مهما كانت مصادره موثوقة ومعلوماته دقيقة، التنبؤ بالتوقيت الصحيح لأي خطوة سياسية مهمة أو عملية عسكرية إلا إذا كان في الأمر تسريب أو تلاعب بالرأي العام عبر الصحافة. وما خالف ذلك يكون ضربة حظ قد تصيب أو تخطئ. فإذا أصابت تتناولها وسائل الإعلام ويحقق الصحافي شهرة، وإذا أخطأ بتنبؤاته، وهو ما يحصل بصورة شبه دائمة، فإن القضية تمر وكأن شيئاً لم يكن، فلا ضير من الخطأ في التنبؤ طالما أن تسارع الأحداث وتراكم الأخبار يرميان بالخبر الخاطئ في سلة الإهمال. لكن هذا لا يمنع المحلل الإخباري من البدء بعمله مباشرة بعد وقوع الحدث أو لدى تضافر مجموعة مؤشرات إخبارية تدل على إمكان وقوع حدث. ويكون مرتكز عمله الأساسي مبنياً على محاولة بناء شبكة لهيكلية الأخبار المتوافرة عبر التحقق من تقاطعها من مصادر عدة والتأكد منها، ومن ثم يقوم الصحافي بنقل "الخبر الجديد" الناتج عن عملية التحليل، والمبني على مجموعة الأخبار التي يضاف إليها التحليل. وتبرز صعوبة التحليل الإخباري في العمل الصحافي عندما تتناقض الأخبار الواردة من مصادر متعددة على رغم صدقية المصادر التي توفرها أو تبثها. أي بشكل آخر عندما تتوافر مجموعة أخبار "موثوقة المصدر" لا يمكن أن تشكل قاعدة يمكن البناء عليها في أي تحليل منطقي ويصعب بالتالي أن تتقاطع من دون تناقض من حيث النتائج المرتقبة. وتتزايد الصعوبة التحليلية عندما يكون الدفق الإعلامي المتناقض وليد عملية تواصلية إعلامية مدروسة تخدم سياسة معينة وتهدف إلى "التعتيم" على عملية تواصلية إعلامية أخرى تخدم بدورها سياسة منافسة للأولى. ومن الطبيعي أنه في حال تعددت العمليات التواصلية المتقاطعة والمتناقضة أن تزداد الصعوبة ما يقود إلى نوع من "الضباب الإعلامي" يحول دون تكوين صورة واضحة لما يمكن أن تقود إليه مجموعة المؤشرات الواردة. إلا أن الضباب الإعلامي لا يمنع تواجد الأخبار والتحليلات في وسائل الإعلام. لا بل على العكس فإن أفضل مؤشر على قيام الضباب الإعلامي هو تواتر الأخبار من كل حدب وصوب وتكاثر التحليلات وتنوع التناقضات التي تحملها الأخبار والتحليلات والتعليقات المختلفة. وتنطبق هذه الصورة على الوضع الإعلامي الحالي المتعلق بالأزمة العراقية، وتتجاوز حلقة توقعات الحرب ويوم البدء بالعمليات العسكرية لتلف بضبابها العلاقات الدولية في مرحلة ما بعد الحرب والصراع بين مؤيدي نزع سلاح العراق بالقوة ومؤيدي نزعه بواسطة الأممالمتحدة. ويتفق الجميع على أن الأزمة التي يمرّ فيها العالم اليوم هي من أشد الأزمات السياسية حدة منذ الحرب العالمية الثانية، وأنها تتجاوز بخطورتها أزمة الصواريخ الكوبية أو أزمة حصار برلين في ستينات القرن الماضي. ولكن على رغم ذلك فإن التناول الإعلامي للأزمة، على رغم كثافته، لا يتجاوز الكثافة المناسبة لأزمة عالمية يمكن أن تؤثر على ميزان العلاقات الدولية لسنوات كثيرة مقبلة. ومن أسباب هذا التراجع الإعلامي، مقارنة بخطورة الأزمة، مجموعة التناقضات الإعلامية التي تغلف بضباب كثيف الصورة التواصلية لمجريات الأزمة واحتمالات انعكاساتها. لقد اعترت تناقضات كثيرة العملية التواصلية المتعلقة بالأزمة العراقية منذ اندلاعها، بعد سنوات من الركود الإعلامي. وفي طليعة هذه التناقضات التوقيت الذي اختارته الولاياتالمتحدة لبعث الأزمة وإعادتها إلى حلقة الضوء الإعلامي. ذلك أنه بعد احداث 11 أيلول سبتمبر اعتبر الجميع أن الاهتمام الأول للسلطات الأميركية سينصب على محاربة الإرهاب والحركات المتطرفة وبالتحديد ملاحقة تنظيم "القاعدة". وخطت الحرب في أفغانستان المؤشر الأول على هذا الاتجاه، وحفرت سياقاً إعلامياً في ذهن المتلقي يدل على التوجه العام المنتظر متابعته في الحرب الأميركية المعلنة. وقد ساهمت التحركات الأولى للادارة الأميركية في تثبيت هذا التوجه، مثل طلب مساندة دولية لجميع الخطوات التي اتخذت في الحرب على الإرهاب. وشدد من هذا التوجه أيضاً التجاوب الدولي مع المطالب الأميركية، من سن قوانين جديدة تتطابق مع سياسة محاربة الإرهاب إلى وضع تشريعات لسحب السجادة المالية من تحت اقدام المنظمات المتهمة بالإرهاب، مروراً بالتعاون الأمني وتبادل المعلومات الاستخباراتية. وبالطبع فقد انخرطت الوسائل الإعلامية في هذا السياق وخرجت التحليلات لتصب فيه وتزيد من مجراه الإعلامي ما ساهم في تعميق أثره التواصلي لدى المتلقي. وفجأة ومن دون أي إشارة خارجية تدل على تغير في المعطيات المعروفة من الجميع، أي المتداولة إعلامياً، انعطف التحرك الأميركي نحو المشكلة العراقية ليجعل منها الهدف الأول للحرب الأميركية المعلنة على الإرهاب. وشكل هذا التغيير أول التناقضات في العملية التواصلية وأدى الى ارتباك في فهمها. ويشير الإعلاميون إلى نقطة التحول في مرحلة خطاب محور الشر الذي أطلقه الرئيس جورج بوش بتسمية كل من العراق وإيران وكوريا الشمالية. غير أن الأصداء الإعلامية التي تركها هذا الخطاب تبين أنه حين صدر اعلان "محور الشر" عالجته الوسائل الإعلامية كحلقة من حلقات السياسة الأميركية، وليس كهدف أولي لها، مثل محاربة الإرهاب التي كانت تطغى إعلامياً على مجمل أهداف السياسة الأميركية. والجدير بالذكر أن العملية الإعلامية الأميركية المتمحورة حول محاربة الإرهاب كانت من القوة بحيث استطاع البيت الأبيض تمرير العديد من الإجراءات الإدارية والقرارات السياسية المهمة جداً، مثل القوانين التي تحد من الحرية الفردية. لقد رافق نوع من التخبط الإعلامي المرحلة الأولى من عودة الأزمة العراقية إلى واجهة الأحداث، وكانت نتيجة التناقض الواضح في العملية الإعلامية الأميركية ظهور ارتباك في العملية التواصلية الأولى المتعلقة بالإرهاب. ولم يقتصر التخبط على المتلقي الإعلامي، من وسائل إعلامية ورأي عام، بل أصاب أيضاً صلب الفريق الحاكم في واشنطن وحلفاء أميركا الأساسيين. ففي الفترة الأولى كثر الحديث الإعلامي عن "فريق الحمائم" الذي يترأسه كولن باول وزير الخارجية الأميركي وعن "فريق الصقور" وعلى رأسه دونالد رامسفيلد وزير الدفاع، وعن التناقض والصراع بين الفريقين للتأثير على الرئيس بوش. وانعكس هذا التناقض في بداية الأمر على مجمل الطاقم السياسي الأميركي وتعالت أصوات بين أعضاء الكونغرس والنواب تطالب بالعودة إلى محاربة الإرهاب وملاحقة اسامة بن لادن. ولم يتفهم الرأي العام الأميركي في بداية الأمر التغيير في الاستراتيجية، لعجز الوسائل الإعلامية الأميركية عن التكيف مع التناقض في العملية التواصلية ونقلها إلى المتلقي الذي يمثله الرأي العام. لكن بعد فترة تردد عادت الماكينة التواصلية الأميركية إلى العمل في محاولة لربط العملية التواصلية الجديدة بالعملية التواصلية الأولى، أي إيجاد صلة وصل بين النظام العراقي وبين تنظيم "القاعدة"، وهي عملية تواصلية أولاً وأخيراً هدفها الأساسي تجيير الزخم التواصلي المختزن من العملية التواصلية الأولى المتعلقة بالحرب على الإرهاب لمصلحة العملية التواصلية الجديدة المتعلقة بالحرب على العراق. وتسمى هذه الفترة من الناحية الإعلامية "فترة الوصل" Connecting Period، وهدفها تحويل رصيد مكتسب إعلامياً في عملية معينة نحو عملية أخرى عبر ربطهما ببعضهما البعض. ويمكن القول ان الحساب التقويمي لعملية الوصل كان مبرراً من ناحية تواصلية بحتة، وإن كان فاشلاً سياسياً أو لم يحقق أهدافه. ذلك أن عملية الوصل كانت تسعى لتجيير الرصيد المكتسب عاطفياً وإعلامياً بعد 11 أيلول، والرصيد المكتسب سياسياً من موافقة جميع الدول تقريباً على الطرح الأميركي المتمثل بشعار "من ليس معنا فهو ضدنا". ولكن كما تبين فإن التغيير المفاجئ في الاستراتيجية الإعلامية، أخرج العملية الإعلامية من سياقها الأول. وبالطبع انعكس هذا على الوسائل الإعلامية وانتقل بالتالي إلى الرأي العام المتلقي الأول للمعلومات. بعد ذلك دخلت العملية التواصلية في "مرحلة الضبط" Adjustment Period وقضت باستمرار التشديد على صلة الوصل بين النظام العراقي و"القاعدة" بشكل عام مع التركيز على أسلحة الدمار الشامل كرمزية تواصلية للعملية الإعلامية، وهي الفترة التي عادت التصريحات حول الأسلحة الجرثومية والكيماوية والنووية التي شكلت "التقنية" رافعتها الإعلامية. ويتفق كثيرون من الإعلاميين على أن عودة العملية التواصلية إلى "دهاليز التقنية" كان يمكنها أن تقود إلى نجاح كبير لاعتبارات تواصلية عدة أهمها أن الرأي العام يمل بسرعة ويستسلم كلما تطرقت الوسائل الإعلامية إلى الأمور التقنية التي يعجز عن قياس خطورتها وحقيقة خطرها الفعلي. وبالفعل فإن الحصار المفروض على العراق استطاع أن يستمر لسنوات طويلة من دون أن يثير الرأي العام العالمي بسبب استناد مبرراته إلى أمور تقنية تتعلق بخطر يجهل الرأي العام حقيقته. غير أنه بسبب الأجندة السياسية الأميركية، ويقول بعضهم اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية، وجدت واشنطن نفسها مضطرة اختصار فترة الضبط والبدء بعملية تواصلية مبنية على خلط الكثير من الخطط السابقة التي تجمع بين خطر النظام العراقي وديكتاتوريته، والإرهاب وأسلحة الدمار الشامل، وأضافت عليها واشنطن بعض العمليات التواصلية الداعمة المرتكزة على رمزية هشة أو صعبة التفسير في فترة أرادتها قصيرة، مثل عدم الانصياع الطوعي لقرارات الأممالمتحدة، أو عدم التعاون الفعال، وهي رموز تتطلب عملاً تواصلياً عميقاً يحتاج الى وقت لإقناع المتلقي بها والتأثير عليه بواسطتها. وأدى هذا التغيير الجديد الى مزيد من الضباب التواصلي الذي يصعب على الوسائل الإعلامية تجاوزه بسهولة مهما كانت نوعية التحليلات وعمقها. ويصف علم التواصل هذا الوضع بحالة سائق دراجة في منحدر حاد لا تستطيع رجلاه مجاراة سرعة ملامس دواسات الدراجة. وقد نتج عن اندفاع العملية التواصلية الأميركية في شكل متناقض ومتوتر خصوصاً بسرعة تفوق سرعة لحاق واستيعاب المتلقي، رد فعل معاكس لدى الرأي العام العالمي والأميركي للأهداف التي تسعى اليها الإدارة الأميركية، وكانت تظاهرات الملايين في العالم خير برهان على التناقضات والأخطاء التي حملتها العملية التواصلية الأميركية. وفي المقابل من ناحية تواصلية بحتة من المؤكد أنه لولا التسرع والتغيير اللذين حصلا في العملية الإعلامية الأميركية لكان رد فعل الرأي العام أقل حدة في الوقوف ضد الحرب. والدليل على ذلك أن القصف اليومي لمواقع عراقية قائم وتعلنه الصحف يومياً مع عدد القتلى الناجم عنه، ما يعني أن الحرب بدأت فعلاً، من دون أن يسبب هذا أي تململ لدى الرأي العام العالمي... ولا العربي. فقد دخل القتال والقصف اليومي في رتيبة تواصلية يومية تعوّد عليها المتلقي فباتت لا تؤثر فيه، ولا يتأثر بها. بينما تطالبه العملية التواصلية الجديدة بتغيير جذري في تقبله لما سيحدث والانتقال من حال حرب غير معلنة يقبلها ضمنياً وباتت غير موجودة في اللاشعور التواصلي، إلى حال حرب معلنة لم يتح له الوقت لتقبلها عقلياً