من المتكلم؟ سؤال بديهي في حقل المخاطبة العام أي علم التواصل. غير أن المخاطبة الإعلامية تتطلب سؤالاً من نوع: من المستمع؟ أو من القارئ؟ أي أن مصدر الكلام يسعى لتحديد نوعية المتلقي قبل أن يصدر عنه التصريح أو الحديث الإعلامي لتحديد أهدافه التواصلية، أي عكس ما هو مفروض منطقياً: أن يحمل الناطق أهدافاً تواصلية يحاول إيصالها إلى المتلقين. ولا يمكن كشف هذه المعالجة التقنية من قبل المتلقي في العملية التواصلية الناجحة، بينما يمكن أن تكون لها ردود فعل سلبية في حال فشلها. في المقابل فإن عدم الأخذ في الاعتبار نوعية المتلقي يظهر جلياً في العمليات التواصلية وتكون نتائجه شديدة السلبية وهو ما يميز التوجه الإعلامي العربي الرسمي بشكل عام وفي القضايا الدولية بشكل خاص. قيل ان الديبلوماسية هي تكملة للحرب بوسائل أخرى. ويمكن القول أن الإعلام التواصلي تكملة للديبلوماسية بوسائل أخرى. فالإعلام يرافق أي عملية سياسية بمفهومها الأساسي المشتق من كلمة "ساسَ" أي إدارة العلاقات بين الأفراد أو النهج المتبع في تدبير مرافق الحياة، عامة كانت أم خاصة. ولا يمكن أن تنجح أي عملية سياسية ما لم تسبقها وتليها وترافقها عملية إعلامية تؤهب لها وتسمى الإطار الإعلامي للعملية السياسية. ويصح ذلك في القضايا البسيطة كما هو ضروري في القضايا المعقدة، من أبسطها علاقة بين فردين إلى أكثرها تعقيداً، مثل العلاقات الدولية المتشابكة اذ من الضروري تواجد المراحل الإعلامية الثلاث: العملية الإعلامية المسبقة والإعلامية المرافقة والعملية الإعلامية المثبتة للنتائج. وتتطلب العمليات الثلاث معرفة المتلقي لنجاحها من دون أن يكون المتلقي بالضرورة هو نفسه في المراحل الثلاث. ويشكل تعدد أنواع المتلقين تحدياً كبيراً لإنجاح العملية التواصلية. لنأخذ مثلاً رغبة رئيس بلدية صغيرة جداً بمخاطبة مواطنيه لا يتجاوز عددهم عشرة أشخاص مثلاً وإعلامهم عن مشروع مقبل يخص بلدتهم. فهو يستطيع ومن نظرة واحدة دائرية أن يحيط بمجموع المتلقين وبمجمل اهتماماتهم الشخصية في ما يخص المشروع المطروح الامر الذي يسهل عليه عملية التخاطب وتوجيه خطابه ليشمل اهتمامات الحاضرين بهدف إقناعهم بفوائد المشروع. وتسري السهولة على المراحل الثلاث اللازمة لعملية التواصل التي يقوم بها رئيس البلدية بسبب العدد البسيط للمتلقين. وتتضاعف صعوبة العملية التواصلية كلما ازداد عدد المتلقين وتنوعت مشاربهم كما هي الحال لدى مخاطبة جماهير غفيرة. كما تتضاعف مرات عدة هذه الصعوبة في حال اختلفت المجتمعات والدول التي ينتمي إليها المتلقون وهو ما يميز الإعلام اليوم في ظل العولمة والانفتاح. وهكذا بات واجباً على أي مسؤول سياسي في أي تصريح له أن يأخذ في الاعتبار انعكاسات تتجاوز حدود المتلقين الموجودين أمامه أو الذين يعتقد أنهم موجودون وراء شاشات التلفزيون التي يخاطب مراسليها والتي تبث حديثه أو وراء صفحات الجرائد التي يدلي لها بتصريحه. ففي حين كان ممكناً في السابق "تنويع" الحديث السياسي بحيث يتغير حسب الجهة المتلقية الرأي العام الداخلي أو الرأي العام الدولي تدفع العولمة الإعلامية إلى إسقاط هذا التنويع باتجاه صياغة خطاب متماسك، أياً كانت الجهة المتلقية. وفيما يخص العالم العربي تزيد انتقائية الوسائل الإعلامية الدولية من صعوبة تركيب العملية التواصلية الجديدة في ما يتعلق بالخطاب العربي التواصلي. وهكذا فإن كندا التي قاومت الضغوط الأميركية القوية لإدراج اسم "حزب الله" اللبناني على لائحة الإرهاب باعتبار انه حزب سياسي له ممثلون في البرلمان اللبناني ويلعب دوراً سياسياً في البلاد، التقطت تصريحاً سياسياً لأحد مسؤولي الحزب، خلال مهرجان خطابي محلي بمناسبة محلية، دعا فيه الى مقاومة إسرائيل، لتغير سياستها واستغلت بروز هذا التصريح في الصحافة العالمية لإدراج اسم الحزب على لائحة الإرهاب وبالتالي منع نشاطه على الأراضي الكندية. وفي الواقع فإن ما قاله مسؤول الحزب هو كلام موجه إلى متلقين محليين يردده الحزب وكثيرون من المسؤولين اللبنانيين والعرب يومياً وبحضور ممثلي الدول الكبرى، ولعل السفير الكندي سمعه أكثر من مرة في المناسبات الاجتماعية أو الحفلات التي يحضرها في لبنان اثناء ممارسة نشاطه اليومي في لبنان. لكن التقاط الإعلام العالمي والكندي التصريح في ظروف معينة وبتوقيت معين "ساعد" الحكومة الكندية على اتخاذ القرار وممالأة الضغوط الأميركية. قد يكون في هذا الكثير من سوء النية وقد تكون الحكومة الكندية متربصة تنتظر الفرصة المناسبة للاستجابة للطلب الأميركي، غير أنه من ناحية إعلامية بحتة لا يمكن إلا القول ان التصريح "فتح نافذة" الفرصة المُنتظرة، وان ضعف العملية التواصلية ل"حزب الله" مهد طريق اتخاذ القرار الكندي. ومن البديهي أن المعضلة الإعلامية التي واجهها الحزب اللبناني والتي يواجهها الصف السياسي العربي هي نفسها ويمكن تلخيصها بسؤال: كيف يمكن صياغة خطاب يحوز رضى الرأي العام العربي من دون أن يشكل تحدياً للرأي العام العالمي بشكل عام والغربي المنحاز للطروحات الأميركية بشكل خاص؟ وفي المقابل فإن وزير الدفاع الإسرائيلي الجنرال شاؤول موفاز رئيس الأركان السابق والذي كان المسؤول المباشر عن قمع الانتفاضة الفلسطينية وبشكل خاص المسؤول عن قرار اقتحام مخيم جنين وما تبعه من مجازر، والذي يحوم فوقه خطر اتهامه بابتكار جرائم ضد الإنسانية على رغم تراجع الأممالمتحدة عن إرسال لجنة تحقيق، لا يواجه هذه المعضلة بسبب متانة العملية الإعلامية التي يبني الصف السياسي الإسرائيلي داخلها سياسته التواصلية. فالوزير اليميني المصنف داخل جناح الصقور استطاع أن يقول خلال زيارته الأخيرة إلى واشنطن الاسبوع الماضي ما تريد واشنطن أن تسمعه ليلائم سياستها الحالية المهدئة بالنسبة الى الجبهة الفلسطينية من دون أن يثير خطابه حفيظة الرأي العام الاسرائيلي خصوصاً مؤيديه المتطرفين. فإسرائيل حسب تصريحه، "متلهفة لاستئناف المفاوضات وهدفها الأساسي في المديين القصير والمتوسط يتمثل في جعل الفلسطينيين يعودون إلى طاولة المفاوضات". ويتبين من خلال تحليل بسيط للمعاني البيانية التي يحملها تصريح مثل هذا "قوة تواصلية" تكمن في حمله "قراءات متعددة" تسمح لكل متلقى بفهم ما يريد فهمه، أو على الأقل تمنعه من انتقاده. لكن التصريح لا يشكل أي تغيير في سياسة إسرائيل الرافضة لأي اتفاق والتي يمثلها خير تمثيل الجنرال موفاز. فوصف "التلهف لاستئناف المفاوضات" شعار من صلب الاستراتيجية الإعلامية الإسرائيلية منذ أيام بنيامين نتانياهو وبدء المماطلة الإسرائيلية في تنفيذ بنود اتفاق أوسلو، وتنطوي الاستراتيجية على شقين: الأول تنفيذي يقضي ب"عدم تنفيذ" المتفق عليه لا بل على العكس تخريب ما تم تنفيذه سابقاً وخير مثال إعادة احتلال كامل أراضي السلطة الفلسطينية، والشق الثاني إعلامي يقضي ب"مطالبة الفلسطينيين بتنفيذ ما لا يمكن تنفيذه" في ظل الشق الأول وخير مثال أيضاً مطالبة السلطة بضبط الأمن في حين أن القوات الاسرائيلية تجثم على أراضي السلطة وتمنع قوات الأمن الفلسطينية من القيام بدورها. وتتجسد في الشق الثاني من التصريح أهداف الاستراتيجية التي تتبعها إسرائيل منذ مؤتمر مدريد والتي لم تكن سراً بل جاءت على لسان واضعها ومنظرها إسحق شامير وهي تقضي بالمفاوضات من أجل المفاوضات فقط، فقد قال انه يود إدامة المفاوضات إلى مدى غير منظور اللانهاية!. أي أنه في حين يفاوض الفلسطينيون من أجل الحصول على شيء فإن مبدأ شامير هو المفاوضة لإضاعة الوقت. وقد طبق ايهود باراك بعد نتانياهو هذه الاستراتيجية ويطبقها شارون بدوره ويدعو لها موفاز حين يقول ان "الهدف الأوحد في المديين القريب والمتوسط هو فقط المفاوضات"! لا يمكن لهذا التصريح "النظيف سياسياً" تلهف الى المفاوضات ان يثير في فضاء الرأي العام أي إشكال، لكنه في الواقع لا يعني اي شيء ما دامت اسرائيل لا تحترم الاتفاقات الموقعة. قد يكون من المهم ضبط العملية الإعلامية عبر ضبط صورة المتلقي في أدق تفاصيلها، وقد تتدرج عملية الضبط من الأقرب إلى الأبعد بالنسبة الى العملية السياسية هدف العملية الإعلامية، أي المهتمين مباشرة بها، الرأي العام العربي واللبناني بالنسبة الى "حزب الله" والرأي العام الإسرائيلي بالنسبة الى الجنرال موفاز، ولكن يجب الأخذ في الاعتبار عناصر أخرى، مثل رأي عام الجهات المؤثرة على العملية مثل الرأي العام الأميركي أو الأوروبي بالنسبة الى القضايا العالمية، ويضاف عليها الرأي العام الإسلامي بالنسبة الى القضية الفلسطينية، كما يؤخذ في الحساب رأي الجهة الأقوى تأثيراً، ومن ثم ما يليها في قوة التأثير. وتشكل هذه الاعتبارات دوائر متداخلة يستند عليها البعد الأساسي الذي يتألف من مجموعة المتلقين. وحين يعلن مثلاً وزير الخارجية الاميركي كولن باول المبادرة الأميركية لدعم مشاريع في مجالات الاقتصاد والثقافة والسياسة في الشرق الأوسط، يبدو للوهلة الأولى أن المتلقي الأول هو شعوب المنطقة المشار إليها، غير أنه في ضوء تحليل معمق يظهر أن الحلقة الأولى المستهدفة هي الرأي العام الأميركي الذي يتساءل عن أسباب كره بعض فئات مجتمعات الشرق الأوسط لأميركا، فتأتي المبادرة وكأنها ترد على هذا التساؤل بالقول غير المباشر حول غياب الديموقراطية في المنطقة المعنية. وحين يخطب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عقب العملية الإرهابية في أوبرا موسكو مطالباً بتشديد محاربة الإرهاب، يبدو كأنه يعزي شعبه بالضحايا المدنيين الذين قضوا حين شنت قوات الأمن هجومها الكيماوي على المبنى ويبرر عددهم المرتفع، غير أنه من الواضح أن مضمون الرسالة التواصلية هو الرأي العام الغربي الذي يطلب منه إيجاد حل للمسألة الشيشانية. أما حين يؤكد مسؤول كبير في كوريا الشمالية استئناف التجارب النووية فهل يكون خطابه موجهاً الى الرأي العام الداخلي الكوري الشمالي الذي يرزح تحت ضغط المجاعة، أم إلى شعوب المجتمعات الغنية المحيطة بكوريا الشمالية الفقيرة، أي اليابان وكوريا الجنوبية لتضغط بدورها على الولاياتالمتحدة ؟ ان هذه الامثلة تسمح بقياس عدد العوامل الواجب أخذها في الاعتبار قبل إطلاق تصريح أو القيام بأي مبادرة اعلامية لا يمكن العودة عنها. لكنها تبرز أيضاً الأخطاء التي ترتكب عبر بعض التصريحات التي يمكن أن تترك نتائج وخيمة لا يمكن قياسها إلا بعد فترات طويلة من الزمن، ويذكر الجميع أنه مباشرة عقب حرب الخليج الأولى أطلق الرئيس العراقي صدام حسين بمناسبة تجربة إطلاق أول صاروخ عراقي إلى الفضاء تصريحاً قال فيه انه يملك ما يمكن "محو إسرائيل عن الخارطة..." ومنذ إطلاق هذا التصريح والعراق يعيش في اجواء أصداء "كلام طائش" ويدفع ثمن خطأ "تطرف اعلامي" غير رشيد