قبل أكثر من عام، حين طلب الرئيس الاميركي جورج دبليو بوش من الجنرال توم فرانكس خطة لدحرجة رأس صدام حسين، رد فرانكس بأنه سيحتاج الى خمس فرق وخمس حاملات طائرات لإنجاز المهمة. آنذاك، أعاد وزير الدفاع دونالد رامسفيلد الخطة الى فرانكس مرتين، طالباً من الجنرال ذي الأربع نجوم أن يقلص القوات الى النصف أو أكثر. بيد أن فرانكس، الذي يتبع هو وباقي جنرالات ما بعد فيتنام مبدأ كولن باول، أراد قوة متفوقة تضمن فوز أميركا في الحرب. في حين كان رامسفيلد يطالب بقوات أسرع وأخف، لأنه لم يكن يريد الانتظار خمسة أشهر لتحضير الجيش للحرب. وهنا هبّت الرياح كما تشتهي سفن فرانكس. فالاشتباكات الديبلوماسية التي دارت حول مسألة المفتشين الدوليين في العراق، أخّرت الهجوم الى الخريف ثم الى الشتاء، الأمر الذي أعطى الجنرال كل الوقت الذي يريد للتحضير لضربة عسكرية كاسحة. وهكذا ولدت الخطة التي بدت أنها تشبه تماماً ما كان يريده فرانكس، من دون أن يتم التخلي عن الهدف الذي سعى اليه رامسفيلد: حرب سريعة وقوية تتضمن العديد من الهجمات التي تشنها القوات الخاصة، وتقدم أسرع نحو بغداد. ويوضح الجنرال ريتشارد مايرز، رئيس هيئة الاركان المشتركة الاميركية، أن الخطة الوليدة تتضمن إطلاق 3 آلاف صاروخ وقذيفة ذكية في ال48 ساعة الاولى من بدء الحرب. أي ان الحرب الجوية ستكون قصيرة، على أن تليها مباشرة الهجمات البرية. وأبلغ مايرز الصحافيين في مأدبة فطور: "إذا ما طلب مني الذهاب الى الحرب في العراق، فإنني أود أن يكون هذا النزاع قصيراً. وأفضل طريقة لتنفيذ ذلك، هي احداث صدمة قوية للنظام العراقي بحيث يتأكد ان النهاية قريبة بالفعل". ويقول مسؤولون عسكريون أميركيون وبريطانيون ان الاستراتيجية التي تقوم عليها خطة الحرب، تستند الى هدف هزيمة الجيش العراقي لكن من دون تدميره. ويشير أحد هؤلاء، وهو الجنرال ديفيد ماكرينان قائد القوات البرية المتحالفة، الى انه يبحث الآن مع القادة الآخرين عن إجراءات عملية تمكن وحدات الجيش النظامي العراقي نحو 300 ألف جندي من إعلان نيتها عدم المشاركة بالحرب. وأضاف: "إذا ما أظهرت هذه الوحدات إشارات جديرة بالاهتمام بأنها لا تريد المشاركة في الدفاع عن صدام حسين، فإن القوات الحليفة ستبذل قصارى جهدها لعدم استهدافها لا من البر ولا من الجو". والهدف الاستراتيجي هنا هو تسريع تقدم القوات نحو بغداد، من خلال تمكين القوات البريطانية والاميركية من تجاوز الوحدات العراقية النظامية التي خرجت من الحرب. هذا التوجه يعكس اقتناع القيادة العسكرية الحليفة، المبني على معلومات استخبارية، بأن الغزو سيكون محط ترحيب الشعب العراقي. وواشنطن ولندن ستكونان في حاجة الى هذا الدعم الشعبي اذا ما أرادتا إدارة العراق وإعادة بنائه بعد انتهاء الحرب. وتنسب "نيويورك تايمز" الى قادة سلاح الجو الاميركي أنهم وضعوا استراتيجية مماثلة للحد من الأضرار التي ستصيب البنية التحتية العراقية، على عكس ما جرى في حرب الخليج الثانية العام 1991، حين قصفت القوات الأميركية خطوط الطاقة ومصانع توليد الكهرباء لقطع الطاقة عن الدفاعات الجوية العراقية والوحدات العسكرية الاخرى. بيد أنها قطعت في الواقع الكهرباء عن المدنيين العراقيين أيضاً. لكن هذه المرة، سيركز القادة الميدانيون على هجمات هدفها منع صدام حسين من توجيه قواته، مع ترك العديد من مصانع الطاقة والجسور سليمة. وعلى أي حال ستحتاج القوات الحليفة الى هذه الجسور للتقدم نحو بغداد. اما في ما يتعلق بتحييد الوحدات النظامية العراقية، فيقول الجنرال روبرت سكيلز، القائد المتقاعد لكلية الحرب الاميركية، أن هذه المهمة لن تكون سهلة. وهي ستحتاج الى معلومات استخبارية مؤكدة حول معنويات الجنود ونوعية القيادة. وكان القادة البريون والجويون الاميركيون يدققون في المعلومات حول الوحدات النظامية العراقية لمعرفة أي منها الاكثر استعداداً للقتال، في حين ستكون هناك حاجة الى ضرب بعض الوحدات في كل الاحوال لأنها تقف في طريق القوات الغازية. وكانت الطائرات الاميركية بدأت خلال الاسبوعين الماضيين بإلقاء المناشير التي تحث القوات العراقية على الوقوف على الحياد. لكن القادة الميدانيين يخشون أن تدّعي قوات الحرس الجمهوري أو الحرس الجمهوري الخاص وهما الوحدات التي يرجح ان تقاوم أنها تريد الاستسلام لإيقاع القوات الاميركية في فخ. ولتجنب هذا قرر القادة توجيه الأوامر للقوات المستسلمة بأن تبتعد عن دباباتها وان تتجرد من سلاحها قبل أن تتقدم الوحدات الحليفة نحوها. كما سيشترطون أن تستطيع الطائرات من نوع "أف- 18" و"هاريار" وحوامات "الكوبرا" رؤية الوحدات المستسلمة من الجو. ويلخص الجنرال جيمس كونواي، قائد قوات المارينز مسألة الجيش النظامي العراقي بالآتي: "سنعرض عليهم الاستسلام في مقابل الاهتمام بهم بطريقة مغايرة لطريقة أسرى الحرب. هذا سيجعل الامور أسهل لهم ولنا. اننا قد نقول: أبقوا هناك. اننا لن نزعجكم، ولن نهاجمكم. لكن عليكم أن تفهموا أنكم خارج هذه الحرب وانكم جزء من العراق الجديد". هذا عن قوات صدام. لكم ماذا عن صدام نفسه؟ كل المعلومات هنا تتقاطع عند نقطة واحدة: اميركا ستحاول "قنص" صدام بصواريخ كروز أو بالطائرات الحربية. وهذا سيستمر منذ اللحظة الاولى لبدء الحرب وحتى نهايتها. بالطبع، لن يترك الرئيس العراقي نفسه لقمة سائغة للهر الاميركي. فهو سيتنقل من خندق الى خندق، وسيستخدم بدلاءه لديه ثلاثة عراقيين يشبهونه تماماً. وتقول "نيوزويك" ان القوة الجوية الاميركية "ستدمر كل خطوط اتصالات صدام وتعزله عن جنوده. وفي هذه الحالة لن يعرف الرئيس العراقي أنه هزم إلا حين يدق الجنود الاميركيون بابه". الآن، واذا ما كانت استراتيجية الحرب الاميركية تقوم على كسب حرب سريعة، فمن البديهي أن تكون خطة صدام تطويل أمد هذه الحرب الى أطول فترة ممكنة، أملاً بأن يؤدي ذلك الى ضغوط سياسية وشعبية داخلية وخارجية قوية على الرئيس بوش لحمله على وقف الحرب. وبالتالي، وكما يقول كينيث بولاك، من مؤسسة بروكينغز للدراسات، فإن "أفضل حلفاء صدام هنا هما المكان والزمان، والخداع والسموم. فهو سيبذل قصارى جهده لإبطاء الزحف على بغداد. ثم سيحاول تحويل العاصمة الى "ستالينغراد بلاد ما بين النهرين". وكان بولاك يشير هنا الى معركة مدينة ستالينغراد في الحرب العالمية الثانية التي كلفت مليون قتيل ألماني وروسي. ويضيف بولاك انه على رغم أن مخططي الحرب الاميركيين لا يعرفون بدقة تفاصيل خطة الدفاع التي وضعها صدام، إلا أن في وسعهم تخيل الآتي: مع اندفاع القوات الاميركية شمالاً من الكويت، قد تواجه بأول مقاومة جدّية في بلدة الناصرية على نهر الفرات قرب البصرة. ووفق ما ذكره ضابط استخبارات عربي ل"التايم" الاميركية، فقد أمر المسؤولون العراقيون الجيش العراقي بارتداء الملابس المدنية ومقاتلة القوات الاميركية. لا تتوقع أجهزة الاستخبارات الاميركية أن يبدي المجندون في الجيش العراقي مقاومة، خصوصاً انهم ما زالوا يتذكرون القاذفات الاميركية العملاقة من طراز "ب - 52" التي دمرت قوافلهم المؤللة العام 1991. لكن لا يستبعد أن يغرق صدام سهل ما بين النهرين بالمياه لإعاقة تقدم القوات الحليفة. يمكن ان تبدي قوات الحرس الجمهوري 60 ألف جندي مقاومة في الجنوب. لكن الارجح ان يسحبها صدام الى بغداد لتعزيز دفاعاته هناك. وسبق له بالفعل أن سحب 10 آلاف من الحرس من مدينة الموصل في الشمال الى تكريت لتشكيل خطوط دفاعية فيها. القوات الوحيدة التي تؤكد المعلومات انها ستقاتل، طالما أصر صدام على النزال، هي قوات الحرس الجمهوري الخاص 20 ألفاً ومنظمة الامن الخاص 5 آلاف. وكل هذه الوحدات تتكوّن من أفراد عشيرة صدام في تكريت. المعركة الحقيقية اذا كان ثمة معركة ستنشب في منطقة بغداد الكبرى. وهي منطقة شاسعة تبلغ مساحتها ألفي ميل مربع ويقطنها نحو 6 ملايين نسمة من السنة والشيعة. وقد بدأ العمال العراقيون أخيراً بحفر الخنادق حول هذه المنطقة لملئها بالوقود وإشعال النار فيها. كما لا يستبعد أن يحرق صدام آبار النفط العراقية التي يبلغ عددها 1500 بئر كما فعل بآبار النفط ال700 الكويتية العام 1991. والسؤال الذي يقلق المخططين الاميركيين هنا هو: هل يلجأ الرئيس العراقي الى استخدام مخزونه من الاسلحة الكيماوية والبيولوجية؟ المراقبون يستبعدون ذلك، لأن هذا سينسف استراتيجيته من أساسها. اذ لن يكون في وسع فرنسا وروسيا وألمانيا والصين البقاء على الحياد حينذاك لسببين: الاول أن أسلحة الدمار الشامل هذه ستؤكد كل الاتهامات الاميركية له بأنه كان يخفيها عن أعين المراقبين. والثاني أن مجرد استخدامها سيدفع الجميع الى الحضن الاميركي. بيد أن المخططين الاميركيين لا ينامون على هذا الفراش التطميني الوثير. فهم يضعون كل الاحتمالات في الاعتبار، ويزودون جنودهم بكل العتاد الحربي والطبي المقاوم للحربين البيولوجية والكيماوية. أي الخطتين الاميركية أم العراقية ستكون لها اليد العليا؟ الإجابة عند صدام حسين، فهو يعرف أكثر من غيره بأنه سيهزم عسكرياً. وهو يريد أكثر من غيره ان يربح سياسياً على رغم خسارته العسكرية. لكن الأمور لن تسير على هذا النحو على الارجح. فالقوات الضخمة التي تهاجم العراق ستكون بعد تحييد الجيش النظامي العراقي وبعد تعداد قوات المعارضة الكردية والشيعية عشرة أضعاف القوات العراقية. وهي اضافة الى ذلك تمتلك تكنولوجيا عسكرية هي الأحدث في العالم. وعلى سبيل المثال، تمتلك الفرقة الرابعة مشاة الاميركية، والتي يفترض أن تهاجم من الحدود التركية، دبابات قادرة على تحديد مواقع مشاة الخصم لمساحة عشرة أميال كاملة. كما تحوز حواماتها على صواريخ ذكية قادرة على اصابة الاهداف من أميال عدة. هذا بالطبع من دون ذكر القوات الجوية والصاروخية التي تعتبر عماد التفوق العسكري الاميركي على كل جيوش العالم مجتمعة. والحصيلة؟ انها بسيطة: صدام يخوض معركة عسكرية وسياسية خاسرة. ولو ان أي سياسي واقعي مكانه، لكان اتصل الآن بالجنرال فرانكس وأبلغه نبأ لم يدخل في كل خططه الاستراتيجية: أنا مغادر. كل خططكم العسكرية التي بات عمرها اكثر من سنة يجب أن تتغير. "باي باي". لكن هل صدام البراغماتي... واقعي الى هذا الحد؟