قبل عشر سنوات فقط، كان مجرد طرح فكرة الوحدة بين فرنساوألمانيا يبدو وكأنه من قبيل النكات السمجة. فكيف بالوحدة الحقيقية؟ فمن ينظر الى التاريخ القريب يظهر له مشروع الوحدة هذا شبه مستحيل، بين دولتين عظميين خاضتا حروباً طويلة ضارية حصدت ملايين القتلى. حتى ان عدداً لا بأس به من الذين عايشوا آخر هذه الحروب، خصوصاً في الجانب الفرنسي، ما زالوا يعتبرون الطرف الآخر عدواً لهم. لكن التاريخ يتغير، وكذلك الأمم التي تنظر الى المستقبل وإلى مصالح شعوبها. وفي هذا المجال النسيان هو الدواء، بعد أخذ العبر التاريخية للحؤول دون عودة الماضي ومآسيه. وهذا ما يحصل حالياً بين الدولتين. فمنذ عهد الرئيس الفرنسي الراحل فرنسوا ميتران، والمستشار الألماني هلموت كول، عقدت بين الدولتين عشرات اللقاءات والقمم، لتقريب وجهات النظر ومحاولة التفاهم على سياسة خارجية متقاربة وردم الهوة بين الشعبين. لكن ما يجري اليوم هو أعمق من ذلك بكثير. ذلك انه بدأت تتسرب أنباء عن محادثات متواصلة بين الطرفين، تهدف الى قيام ما يشبه الوحدة بين البلدين في مجالات متعددة. وكثرت التلميحات الفرنسية عن الموضوع على لسان وزير الخارجية الفرنسي دومينيك دوفيلبان، كذلك من جانب مسؤولين ألمان رفيعي المستوى، يعتبرون ان العلاقات الفرنسية - الألمانية لم تبلغ أبداً من قبل هذا المستوى من الحميمية. فما هو سبب هذه المحاولات، ولماذا هذا "النضوج" المفاجئ لمشروع كان مجرد أفكار تطرح بين سياسيين ومفكرين من الجهتين؟ من المؤكد ان السياسة الخارجية الأميركية بعد هجمات 11 أيلول سبتمبر 2001 هي أحد هذه الأسباب. فألمانياوفرنسا هما، من الناحية الأوروبية، رأس الحربة ضمن الاتحاد الأوروبي، خصوصاً مع "الاصطفاف" البريطاني الواضح الى جانب السياسة الأميركية. وبلغ التفاهم الألماني - الفرنسي ذروته مع احتلال العراق، بل تعمق أكثر مع الوقت، حتى ان المستشار الألماني غيرهارد شرودر، الذي كان مرتبطاً بمهمات ومواعيد مهمة في برلين، طلب من الرئيس جاك شيراك تمثيله خلال عقد المجلس الأوروبي في تشرين الأول اكتوبر 2003، متخطياً بذلك مرحلة رمزية من مراحل التقارب الكبير بين البلدين. واعتبر هذا التوكيل في حينه رسالة الى الأميركيين، ان فرنسا ليست وحدها التي تحاول كسر الأحادية الأميركية في قيادة العالم، على رغم محاولات كسر الجليد بين ألمانياوالولاياتالمتحدة من خلال اجتماعات متعددة بين مسؤولي البلدين. لكن السبب الحقيقي الآخر لهذا التقارب ناتج من الوضع المتأزم ضمن العائلة الأوروبية الواحدة، على خلفية المواجهة مع الولاياتالمتحدة أولاً، وإمكان فشل الأوروبيين في التوصل الى دستور للاتحاد الأوروبي، يتفق عليه الجميع، من الناحية الثانية. ويبرز هنا الوجه التكتيكي الواضح لمشروع الوحدة هذا، ذلك ان فرنسا بإثارتها الموضوع علناً، بعدما كان يحضر وراء الكواليس، تهدف الى تحذير بقية الدول الأوروبية من العمل على افشال انجاح الدستور الموحد، وهي توجه تحذيرها هذا في شكل خاص الى اسبانيا وبولندا أشد معارضي مشروع الدستور الأوروبي. فتصبح الوحدة مع المانيا الحل الأخير في حال عدم الاتفاق الأوروبي على الدستور، وهذا ما يؤكده رئيس الوزراء الفرنسي جان - بيار رافاران، الذي يفضل الحديث عن "تقارب ألماني - فرنسي في حال الفشل الأوروبي على مستوى 25 دولة". كما انه لا يستبعد ان يقوم مفوض أوروبي بتمثيل فرنسا في بروكسيل. وعلى رغم النفي الرسمي الصادر عن الدولتين حول "الوحدة"، إلا أن العاصمتين لا تخفيان عمليات "التقارب" القائمة على قدم وساق بينهما. ويؤكد الفرنسيون استعدادهم اليوم لالتقاط الكرة التي رماها في ملعبهم، عام 1994، الألمانيان كارل لامرز ووولفغانغ شاوبِه اللذان كانا اقترحا، في وجه التوسع الأوروبي، إقامة نواة صلبة، ضمن الاتحاد الأوروبي، تشمل ألمانياوفرنسا وبلدان البنيلوكس. وهو اقتراح أثار اعتراضات فرنسية كثيرة في ذلك الحين، اذ اعتبره الفرنسيون محاولة لفرض المثال الفيديرالي الألماني على الآخرين وفصل فرنسا عن أوروبا اللاتينية. لكن يبدو ان الأمور تغيرت في شكل كبير اليوم، مع الهموم الأوروبية، والنظرة الأميركية الجديدة الى العالم، والمشكلات القائمة ضمن منظمة حلف شمال الأطلسي. على المستوى العملي، وعلى رغم اللغط الكبير الذي يثيره هذا الموضوع، والتشديدات من الطرفين على جدية المحاولات، تبقى تفاصيل المشروع غير واضحة حتى الآن، لارتباطها بشكل وثيق بنجاح الدستور الأوروبي للاتحاد. الا ان المطلعين على حقيقة الأمور يؤكدون ان موضوع التقارب الفرنسي - الألماني أمر شبه مؤكد، حتى ولو اعتمد الدستور المذكور. فالبلدان هما النواة المغناطيسية المحركة للاتحاد الأوروبي، حتى بعد نجاحه. فانحياز أوروبا الوسطى الى الولاياتالمتحدة أكد، مرة أخرى، أن عملية إنشاء أوروبا قوية وموحدة وموسعة ليست بالأمر السهل. وما يؤكد ان التقارب بين البلدين أصبح أمراً واقعاً، قيام الحلف الثنائي المناوئ للولايات المتحدة حيال خروج الأخيرة عن قرارات الأممالمتحدة، ملغياً بذلك قاعدة عمرها حوالى 50 عاماً، وكذلك صمود المستشار شرودر في وجه كل الانتقادات الداخلية والخارجية. حتى ان الحلف الثنائي مدّ يده - وليس في الأمر أية مفارقة - الى الدولة الثالثة "القوية" في الاتحاد، أي بريطانيا، التي خاطرت بعلاقاتها الوثيقة مع الولاياتالمتحدة وشاركت في وضع مشروع لإنشاء قوة دفاعية ذاتية قادرة على الذهاب بعيداً عند الضرورة بعد الاتفاق مع ألمانياوفرنسا. لكنها تحاول جاهدة أن تبين ان التحالف الدفاعي الثلاثي ليس موجهاً ضد أحد، وأنه لا يهدف الى اضعاف حلف الناتو الذي يواجه مشكلات كبيرة في أفغانستان، وبعد قبول الولاياتالمتحدة سحب قواتها من البوسنة لتحل محلها قوات أوروبية. في المقابل، تحاول الولاياتالمتحدة فرط عقد الاتحاد الأوروبي، ما دفع ألمانياوفرنسا الى التشبث أكثر بعملية التقارب بينهما. وظهر ذلك في تعليق حاد صدر عن مستشارة الرئيس جورج بوش للأمن القومي كوندوليزا رايس حول الموضوع، عاد وذكّر به وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد في بروكسيل. لكن الأخير عاد وخفف من وقع تهديداته، مبدياً بعض "التفهم" تجاه الهموم الأوروبية. وقد يفسر ذلك بمحاولة الولاياتالمتحدة الابقاء على علاقات طيبة مع حلفائها الأوروبيين لحاجتها اليهم في أمور كثيرة، أهمها موضوع أفغانستانوالعراق. من هنا كان قيام ألمانيا بمحاولات لإقناع فرنسا بالانضمام الى الناتو، والعمل على انشاء هذه النواة الصلبة من الداخل للتخفيف من الحذر الأميركي، ما دفع كثيرين الى أخذ محاولة التقارب الوحدوي الألماني - الفرنسي على محمل الجد. فكيف يبدو مشروع الوحدة، وما هي العوائق التي قد تعترض قيامه؟ يمكن تشبيه الوضع الحالي بين الدولتين بذلك الذي كان قائماً عام 1962، عندما جرت محاولة مشابهة، ولو في ظروف مختلفة، لقيام تحالف وثيق بين فرنسا الجنرال ديغول، وألمانيا كونراد أديناور، نتج عنها "اتفاق الأليزيه" في 22 كانون الثاني يناير 1963. وتبين ان ديغول كان يحاول بذلك دفع أوروبا الستة في ذلك الوقت الى القبول بفكرة الاتحاد، والا فسيتخلى عنها لمصلحة اتحاد ثنائي بين ألمانياوفرنسا. وما أشبه اليوم بالأمس. ذلك ان الرئيس شيراك يحاول اليوم القيام بما قام به ديغول بالأمس: تقريب الشعبين، التقارب بين المؤسسات والإدارات والبرلمانات، نظرة موحدة الى كيفية إدارة الاقتصاد، ديبلوماسية واحدة، ودفاع موحد. وفي هذا المجال يدعو المفوض الفرنسي في الاتحاد، باسكال لامي، الى دمج الجيشين وأجهزة الخارجية، وتقاسم المقعد الفرنسي في مجلس الأمن. كما انه يدعو الى تقارب أوثق في مجالي التعليم والبحوث. لكن الفكرة الأساسية، التي تثير انتقادات وتساؤلات مختلفة، هي حول كيفية إدارة البلدين في حال الوحدة، التي ما زال الاخصائيون يعتبرونها بعيدة الحصول، على رغم التقارب الكبير الحاصل بين الجارين. لكن هناك اقتراحات كثيرة حول الموضوع، من بينها انشاء بنية برلمانية واحدة، أو ما يشبه الكونغرس الأميركي بالمناصفة بين الدولتين، وكذلك تبادل كبار الموظفين في الوزارات. لكن بعضهم، المتفهم للموضوع، يدعو أيضاً، قبل الشروع في عملية التقارب الوثيق، الى "إيقاظ" المؤسسات الموحدة سابقاً، والتي لا تقوم بعملها. لكن يبدو ان هذه المبادرات لم تأخذ في الاعتبار موقف الرأي العام في البلدين، الذي يعتبر ان قضية الوحدة لم يجرِ التحضير لها جدياً. لذلك يعتقدون انها ما زالت سابقة لأوانها. فأكثرية المقررات التي أعلن عنها في بداية السنة الحالية، لمناسبة ذكرى "معاهدة الاليزيه"، لم يجرِ العمل بها بعد، مع العلم ان بعضها كان اتفق عليه قبل 40 سنة! كما يرى كثيرون ان على الدولتين تحسين صورتهما لدى مواطنيهما، التي شوهها خروجهما عن مقررات بروكسيل حول ميثاق الاستقرار الاقتصادي الشهير وعدم تخطي عتبة 3 في المئة من عجز الخزينة. وهم يعتبرون، عن حق، ان وضع المقررات التي اتفق عليها في بداية السنة موضع التنفيذ هي أولى خطوات التقارب المرتجى، يمكن بعدها القيام بقفزة نوعية في العلاقات بين البلدين. لكن الكل يعلم ان القاعدة الذهبية التي قامت عليها الوحدة الأوروبية ضرورية اليوم أكثر من أي وقت مضى: فالتوافق الفرنسي - الألماني ضروري لقيام أوروبا، لكنه ليس بالكافي، خصوصاً ان اتحاداً من 25 دولة يختلف كثيراً عن اتحاد من 6 دول. كما ان على الطرفين، بعد حصول تقاربهما الضروري، ان يتعلما مجدداً كيفية عدم اهمال الشركاء، وإلا فإنهما يلعبان لعبة من يحاولون بكل قواهم الوقوف في وجه أوروبا قوية، أي أولئك الذين تحاول هذه النواة الجديدة صدهم اليوم، والذين يعملون جاهدين على دفن أوروبا الراشدة التي تحاول بناء نفسها كقوة ثانية في مواجهة التفرد الأميركي. من هنا نفهم الدعوة الألمانية الذكية الى دخول فرنسا في الحلف الأطلسي عسكرياً قبل قيام النواة الألمانية - الفرنسية، لسدّ الطريق أمام مروجي فكرة محاولة ضرب الحلف من الداخل. لكن البلدين ينظران الى الحلف المذكور نظرة متجددة، بعيدة عن التبعية الأوروبية، حيث تكون الولاياتالمتحدة شريكاً في القرار وليس المقرر الأول. وبانتظار نجاح أو فشل الاتفاق حول دستور أوروبي جديد، يبقى لكل حادث حديث، في وقت كثرت أحصنة طروادة المتجددة!