يشكل مبنى برلمان "الرايخشتاغ" الذي أُعيد افتتاحه الشهر الماضي رمز التاريخ الألماني في القرن العشرين. أُنشئ "الرايخشتاغ" العام 1894 على عهد الأمبراطورية الألمانية، وكان مسرحاً للمعارك السياسية التي اجتاحت "جمهورية فايمار" حتى احتراقه العام 1933 بعد وصول النازيين إلى الحكم. غداة انتهاء الحرب العالمية الثانية، جرى استخدامه في الإحتفالات على نطاق واسع، وهو سيعود مجدداً السنة الجارية مقراً للبرلمان الألماني، والخطوة الأولى نقل المؤسسات الحكومية الكبرى من بون إلى برلين. "جمهورية بون" وصلت إلى نهايتها، الجغرافية وليس السياسية. فالإنتقال الى برلين لا يشكل نقطة تحوّل، بل بداية فصل جديد، في تاريخ ألمانيا لمرحلة ما بعد الحرب. أهم الظروف التي أحاطت قيام "جمهورية بون" العام 1949 هي الهزيمة الألمانية الشاملة في الحرب العالمية الثانية، وتدمير العديد من مدنها، وتقسيم أراضيها، وإضعاف معنويات شعبها، وهجرة اللاجئين الألمان من الجزء الشرقي الواقع تحت سيطرة روسيا وبولونيا. وأجمعت الدول المنتصرة، الولاياتالمتحدةوفرنسا وبريطانيا وروسيا، في البدء، على اجتثاث القوة العسكرية الألمانية إلى الأبد، ودورها القيادي بين الأمم الأوروبية. غير أن ذلك لم يحدث، لبروز الحرب الباردة ابتداءً من العام 1946، التي اجتاحت وسط ألمانيا، في وقت أطلق ونستون تشرشل عبارته الشهيرة عن "الستار الحديد" الذي فصل المناطق الثلاث التي احتلتها الدول الغربية الثلاث عن تلك التي احتلها الاتحاد السوفياتي. وردّت الولاياتالمتحدة، كقوة مهيمنة، على التحدي السوفياتي بالتشجيع تارة، وغض الطرف طوراً عن توحيد المناطق الثلاث الحليفة، العام 1949. وإذ سعى السوفيات الى انتزاع برلين من السيطرة الغربية، بفرض الحصار عليها العام 1948، ردّ هؤلاء بإنشاء جسر جوي لتأمين الإحتياجات الأساسية للسكان، وهو ما حمل قيمة رمزية لم ينسها الألمان تمثلت في التضامن والمرونة في مواجهة التهديد السوفياتي. في أيار مايو العام 1949، وُضِع دستور جديد للبلاد، كان الأكثر حرية وديموقراطية في تاريخها، ووضَعَ ألمانيا الغربية على السكة الصحيحة. وفي ايلول سبتمبر 1949، انتُخب كونراد اديناور مستشاراً لجمهورية ألمانيا الإتحادية، واختيرت بون، بعد ذلك بأسابيع قليلة، مقراً للحكومة وعاصمة موقتة للبلاد. بون، المدينة الهادئة، لم تكن مستعدة البتة لاستقبال كل الاجهزة الحكومية والمؤسسات التابعة لها، لكن الوافدين الجدد، وبينهم السفارات الأجنبية، أعجبوا بهذا المكان الملائم. بعد فترة وجيزة على إنشاء الحكومة الألمانية الأولى، قامت "جمهورية ألمانيا الديموقراطية" برعاية سوفياتية، وكان ذلك في تشرين الأول اكتوبر 1949، غدا تقسيم ألمانياوبرلين رمزاً لصراع الشرق والغرب، وأصبح الحلفاء أكثر اهتماماً باحتواء "الخطر السوفياتي" من "الخطر الألماني". وغدت ألمانيا المسرح الأساسي والنقطة المحورية في صراع الشرق والغرب. صمم الحلفاء الغربيون على وضع ألمانيا تحت المظلة الغربية فعمدوا، العام 1955، الى ضمها الى حلف شمال الأطلسي، وإلى معاهدة الدفاع الأوروبي التي أدت الى تسوية الخلاف الألماني - الفرنسي على منطقة "السار" وأنهت رسمياً وضع "نظام الإحتلال"، بتحوّل المفوضين العامين الى سفراء. في المقابل، تعهدت ألمانيا بعدم إنتاج أشكال عديدة من الأسلحة، بينها السلاح النووي المحدد لنادي القوى الكبرى. ربط ألمانيا بالغرب 1955 - 1966 إن إحدى المفارقات الكثيرة في التاريخ الألماني، هي أن "المسألة الألمانية" أو تقسيم ألمانيا إلى دولتين، الذي أفضت إليه الحرب الباردة، تحول لاحقاً إلى أحد أهم أسباب استمرار وإدامة الصراع بين القوتين الكبريين. وتوجب على السياسيين الألمان آنذاك، مواجهة معضلة أخرى، إذ أن نضالهم كي تصبح ألمانيا عضواً مقبولاً في مجموعة الدول الغربية أجاز، بشكل او بآخر، تقسيم ألمانيا إلى دولتين. عام 1956، تم إنشاء الجيش الألماني كنتيجة للإنضمام إلى حلف الأطلسي، وذلك بعد نقاش داخلي ساخن. وعلى رغم كل الإحتجاجات، جرى تشكيل جيش من المجنّدين، بعد أقل من 10 سنوات على إشعال هتلر الحرب. وهي حقيقة اخرى مذهلة من التاريخ الألماني لحقبة ما بعد الحرب. في نهاية الخمسينات، ومع العصر النووي، تراجع الإهتمام ب"المسألة الألمانية"، خصوصاً مع تحقيق السوفيات توازناً نووياً وتفوقهم في الفضاء، ما دفع الرئىس الأميركي جون كينيدي إلى التصميم على الوصول الى تسوية مع الإتحاد السوفياتي حول المسائل الأوروبية على اساس الحفاظ على الوضع القائم، والذي يعني التخلي عن اعادة توحيد ألمانياوبرلين. في هذا الجو من الإستياء الألماني، جرى احد اكثر الأحداث اهمية وخطورة في مرحلة ما بعد انتهاء الحرب، وهو قيام ألمانياالشرقية، في 12 آب اغسطس 1961، ببناء "حائط برلين" الشهير، الذي سيصبح رمز الإنقسام الألماني والأوروبي. تطلع الألمان إلى الولاياتالمتحدة والحلفاء للقيام بعمل ما، لكن شبح الحرب النووية أجهض اي خطوة يمكن اتخاذها، ووقفت المعادلة النووية حجر عثرة امام الوحدة الألمانية. غير أن الإحباط الألماني هذا تبدد لدى زيارة كينيدي لبرلين، العام 1963، وتلفظه بالعبارة الخالدة "انا برلينيّ" التي أدخلته قلوب البرلينيين والألمان. بعدما أدرك اديناور ان الأولوية لدى الولاياتالمتحدة، كانت في تحقيق تسوية شاملة مع الإتحاد السوفياتي، وإن على حساب المسألة الألمانية، سعى الى التقارب مع فرنسا التي خاضت وألمانيا ثلاث حروب في اقل من 70 سنة، غدا اديناور وديغول ثنائياً اسطورياً، بعد زيارة ديغول الناجحة إلى ألمانيا العام 1962. وكنت آنذاك فتى في السابعة من عمري ووقفت مع الحشود أحيّي ديغول في بون. وقّع اديناور وديغول "معاهدة الإليزيه" الشهيرة، في 1963، وهي وثيقة تاريخية بحق، شكلت بداية عهد جديد من التعاون والصداقة. غداة توقيع "معاهدة الاليزيه" انسحب اديناور من الحياة السياسية مرغماً، بعد تعالي دعوات في حزبه و"الحزب الليبرالي" الحليف، لتجديد الطبقة السياسية. وجاء طبيعياً اختيار لودفيغ ايرهارد لخلافته، فهو من حقّق "المعجزة الاقتصادية" الألمانية ابان تسلمه وزارة الاقتصاد بعدما كان استاذاً جامعياً في الاقتصاد. وهو الأب الروحي لما سمّي "اقتصاد السوق الاجتماعي" الذي جمع الرأسمالية ودولة الرعاية الإجتماعية معاً، وتحول الى أحد أهم النجاحات الألمانية في مرحلة ما بعد الحرب. غير أن ايرهارد لم يستطع التحرر من ظل اديناور، الذي لم يكن يكُنُّ له إعجاباً شخصياً، وفشل في السياسة الداخلية ولم ينجح خارجياً. في العام 1969، انتُخب فيللي براندت مستشاراً لألمانيا، منهياً حكماً دام عشرين عاماً للحزب الديموقراطي المسيحي، ودخل براندت التاريخ كمهندس "السياسة الشرقية"، اي الانفتاح واحتمال المصالحة مع المانياالشرقية. براندت كان سياسياً رؤيوياً، وخطيباً مفوهاً، اكتسب الكثير من السياسة الأميركية، ودغدغ مشاعر مواطنيه في دعوته الى قيام "نظام سلام اوروبي جديد". في غضون سنتين فقط، وقّع براندت معاهدتين مع الاتحاد السوفياتي وبولونيا التي اعترف في المعاهدة معها بخط اودر - نايسي حدوداً بولونية نهائية. سمحت المعاهدتان مع الاتحاد السوفياتي وبولونيا بتحقيق اتفاق بين الدول التي كانت تحتل برلين مما ساهم في تسهيل شؤون إدارتها، ثم وقّع براندت "المعاهدة الأساسية بين الدولتين الألمانيتين" ومعاهدة مع تشيكوسلوفاكيا العامين 1972 و1973. اثارت "السياسة الشرقية" جدلاً ساخناً في الحياة السياسية الألمانية، وارتياحاً دولياً واسعاً، مُنح براندت على اثرها جائزة نوبل للسلام. في عام 1974، استقال براندت، بعد ضبط مساعد قريب له، يدعى غونتر غيوم، بتهمة التجسس لصالح ألمانياالشرقية، وتسليمها وثائق في غاية السرية على مدى سنوات. وخلف براندت، الذي يعتبره كثر اسطورة حية، هلموت شميدت. شميدت كان سياسياً مختلفاً عن براندت، شخصية تكنوقراطية يجيد ادارة الشؤون الإقتصادية الدولية، وذلك بعد تولّيه وزارة المال والإقتصاد. اقام شميدت علاقة صداقة متينة مع الرئيس الفرنسي فاليري جيسكار ديستان، جدّدا من خلالها آفاق التعاون والإندماج الأوروبيين من خلال قيام حلف جديد بين بون وباريس، وإنشاء "النظام النقدي الأوروبي" الذي سبق الوحدة النقدية. وفي عام 1982، سقطت حكومة شميدت، بعد رفض غالبية أعضاء حزبه الاشتراكي، قراره نشر صواريخ نووية اميركية متوسطة المدى، على الأراضي الألمانية - رداً على التسلّح السوفياتي النووي في أوروبا، وسعي السوفيات، في منتصف السبعينات، الى السيطرة على العالم عسكرياً وسياسياً. خلف هلموت كول، الديموقراطي المسيحي، شميدت، وبدا اكثر محافظة وأقل عالمية منه، ما أكسبه سخرية الصحافة الألمانية أحياناً. لكنه انتقم بأن أصبح المستشار الأطول عهداً في الحكم منذ عهد بسمارك. حافظ كول على السياسة الخارجية التي انتهجها سلفه، وأدرك أهمية العلاقات الألمانية - الفرنسية، فأقام علاقة صداقة متينة مع الرئىس الفرنسي فرانسوا ميتران، وشكّلا ثنائياً ألمانياً - فرنسياً ثالثاً بعد الثنائي اديناور - ديغول وشميدت - جيسكار ديستان. واصبح كذلك مستشار إعادة توحيد ألمانيا، والتي تحققت بسبب تراجع الإمبراطورية السوفياتية بعد الإنتصار الأميركي في سباق التسلّح. إزاء هذا التحوّل، بقي النظام الشيوعي في ألمانياالشرقية على تعنّته، ورأى الزعيم أريش هونيكر ان غورباتشيف انحرف عن الطريق القويم وخان مُثُل الشيوعية. في السادس من تشرين الأول اكتوبر 1989، احتفل النظام بالذكرى الأربعين لقيام "جمهورية ألمانيا الديموقراطية"، وكأن شيئاً لم يكن. وفيما وقف زعماء من الحزب الشيوعي القديم وضيوفهم، من كاسترو الى عرفات، على المنصة الرئيسية، يلوّحون للشبيبة الشيوعية، كانت الحشود تهتف "غوربي، غوربي، غوربي"! في 9 تشرين الثاني نوفمبر 1989، وفي جو من الفوضى، اصدر النظام في ألمانياالشرقية بياناً يسمح لمواطنيه بالعبور بحرّية الى برلين الغربية وإلى ألمانيا الغربية. وفي جو من الذهول، استجاب الآلاف للدعوة واجتاحوا نقاط المراقبة في برلينالشرقية، فكان سقوط جدار برلين والتحوّل التاريخي الذي تابعه الألمان على شاشات التلفزة. إزاء التحوّل الجوهري الذي طرأ على معادلة القوة في أوروبا، ساد العواصم الأوروبية جو من القلق. غير أن كول أمسك بزمام المبادرة، وتقدم ب"برنامج النقاط العشر" الذي يشكل سبيلاً يقود الى الوحدة الألمانية، وإطاراً لنظام سلام أوروبي جديد، وعرض قيام هيكلية فيديرالية بين الألمانيتين، كفترة انتقالية قبل تحقيق الوحدة. أدركت القوى الأوروبية أن الوحدة الألمانية ستتحقق، وأن البحث يجب ان يتمحور حول كيفية تأطيرها في النظام الأوروبي الجديد، فتم إنشاء عملية "2"4" التي جمعت الألمانيتين وحلفاء الحرب الثانية: الولاياتالمتحدةوفرنسا وبريطانيا والإتحاد السوفياتي. الصداقة الألمانية - الفرنسية ساهمت في شكل كبير في تذليل الصعوبات والعراقيل، بينما نجح كول في انتزاع موافقة غورباتشيف على انضمام ألمانيا الموحّدة الى حلف الأطلسي، بعد ممانعة أولية. في المقابل، تعهدت ألمانيا خفض عديد جيشها، وعدم انتاج اسلحة الدمار الشامل مطلقاً، كما اعترفت رسمياً بالحدود الغربية لبولونيا على خط اودر - نايسي. وفي الثالث من تشرين الأول 1990، أُعلنت الوحدة الألمانية رسمياً، وعُقدت الجلسة البرلمانية الأولى في "الرايخشتاغ" القديم في برلين بعد 57 سنة. تكبّدت ألمانيا الغربية مبالغ طائلة في سبيل تحقيق الوحدة، أولها مبلغ 12 مليار مارك دُفعت الى الإتحاد السوفياتي بهدف إعادة توطين الجنود السوفيات المنسحبين من الأراضي الألمانية. كذلك جرى تحويل مبالغ هائلة من الجزء الغربي الى الجزء الشرقي، وذلك في سبيل قيام الوحدة الاقتصادية والاجتماعية الألمانية. ولغاية اليوم، لا يزال مواطنو ألمانيا الغربية يدفعون "ضريبة التضامن" التي تذهب الى الجزء الشرقي من البلاد وهو ما لا يروق للجميع بالطبع. ولعل اكثر المهمات صعوبة كانت "إعادة التوحيد الداخلية"، أي توحيد أنماط التفكير والقيم والسلوك والتقاليد وطرق العيش، ذلك أن الألمان عاشوا في ظل نظامين سياسيين مختلفين لمدة تتعدى الأربعين عاماً، وهو تحدّ لا يزال مستمراً حتى الساعة. بعد 50 عاماً على قيام "جمهورية ألمانيا الإتحادية" تتمتع ألمانيا ب"فرصة ثالثة"، بعد الوحدة الألمانية الأولى التي حققها بسمارك العام 1871، وهزيمة الحرب العالمية الأولى العام 1918. لم يسبق في التاريخ أن تمتعت ألمانيا بمركز دولي اكثر ايجابية: دولة ذات سيادة في قلب أوروبا، تحيط بها 9 دول صديقة، لا نزاع سياسياً او على الأراضي مع أي منها. ألمانيا الموحّدة بقيادة هلموت كول سعت بقوة الى الاندماج الأوروبي، وهي سياسة يواصل المستشار الجديد غيرهارد شرودر اعتمادها بحذافيرها. عُرفت ألمانياً يوماً ب"الأمة القلقة"، لكن تلك المرحلة انتهت، ووجدت ألمانيا الموحدة موقعها في قلب أوروبا. * سفير المانيا في لبنان، والنص مقتطفات من محاضرة ألقاها السفير الشهر الماضي في بيروت في مناسبة انتقال المراكز الحكومية من بون الى برلين.