ذات مرة من سبعينات القرن المنصرم تساءل وزير خارجية أميركا هنري كيسنجر «بمن أتصل هاتفياً إن أردت أن أخاطب الأوروبيين؟»... خيل لكثيرين أن الاتحاد الأوروبي قد أضحى مرة وإلى الأبد خط الاتصال الساخن بين القارة الأوروبية وبقية العالم، غير أن الانسحاب البريطاني الأخير من الاتحاد والذي جاء بمثابة زلزال قوي هز أركان البيت الأوروبي الكبير بات يطرح سؤالاً جذرياً عن حال الاتحاد ومآله وهل سيتفكك بخروج بريطانيا أم أن كرامة بقية العناصر الأوروبية الفاعلة، لا سيما الألمان والفرنسيين، لن تسمح أبداً بإظهار البريطانيين وكأنهم كانوا عند لحظة بعينها حجر الزاوية في ذلك الاتحاد؟ يستلزم الجواب الغوص بعيداً من المشهد الحالي، والرجوع إلى التاريخ الأوروبي القريب الذي كانت حزازات الصدور الأوروبية فيه لا تزال قائمة، بعد حربين عالميتين، بين الإنكليز من جهة والألمان بصفة خاصة من جهة أخرى. في العام 1967 حذر الزعيم الفرنسي التاريخي شارل ديغول في لقاء مع نحو ألف ديبلوماسي فرنسي داخل قصر الإليزيه، من أن بريطانيا تملك «كراهية متجذرة» للكيانات الأوروبية، بل أبعد من ذلك كان الرجل استشرافياً عندما حذر من أن فرض بريطانيا كعضو في السوق الأوروبية المشتركة سيؤدي إلى تحطيم السوق. والمعروف تاريخياً أن بريطانيا لم تنضم إلى الاتحاد الأوروبي إلا بعدما ترك ديغول مقاليد الحكم وغادر قصر الإليزيه عام 1969، وقد أصبحت بريطانيا دولة كاملة العضوية في السوق الأوروبية المشتركة، غير أن توفعات ديغول يبدو أنها كانت خلف الباب رابضة للأوروبيين، وها هي تتحقق. ولعل النزعة القومية لدى الفرنسيين والألمان تبدت في مشاهد عدة، على سبيل المثال رفض الفرنسيين اللغة الإنكليزية، فقد كتب روبير مينار رئيس بلدية بيزييه (جنوبفرنسا)، وهو من أقصى اليمين، على موقع «تويتر»: «لم يعد للغة الإنكليزية أي شرعية في بروكسيل». أما زعيم حزب اليسار جان لوك ميلونشون فقد سطر على «تويتر» كذلك قوله: «لا يمكن للإنكليزية أن تكون بعد اليوم لغة العمل الثالثة في البرلمان الأوروبي». غضب ألماني على الجانب الألماني كان الحنق والغضب من بريطانيا واضحين في تصريحات المستشارة الألمانية أنغيلا مركل التي حذرت من ان أي مماطلة في شأن إجراءات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لن تكون في مصلحة أي طرف، فيما أكد زعيم الكتلة البرلمانية لحزب مركل أن لندن لن تحصل على معاملة خاصة في مفاوضات الخروج. على أن السؤال الحيوي في هذا السياق هو: هل توقفت الإجراءات الألمانية والفرنسية عند حدود الرفض للبريطانيين من دون العمل على صيانة حالة الاتحاد الأوروبي؟ من متناقضات القدر أن أكثر شعبين تجذرت بينهما عداوات وثارت بينهما عصبيات بعد الحرب العالمية الثانية، هما الألمان والفرنسيون، غير أننا نراهما اليوم يعملان معاً وبقوة بالغة من أجل «أوروبا الجديدة»، وعبر آليات «التكامل السياسي» لدول القارة الأوروبية بأكملها. بعد بضعة أيام من نتيجة الاستفتاء البريطاني، كانت برلين تشهد لقاءً في غالب الظن مصيرياً، بين وزيري خارجية ألمانياوفرنسا، فرانك فالتر شتاينماير وجان مارك إرولت، اللذين دعوَا في وثيقة مشتركة إلى تحقيق تقدم باتجاه وحدة سياسية في أوروبا، كما حضّا الدول الأوروبية الأخرى على الانضمام إليهما في هذه العملية. وكانت إيطاليا في واقع الأمر الدولة الأوروبية الأولى التي تتجاوب بإيجابية تامة مع تلك الدعوة، إذ شدد رئيس الوزراء الإيطالي ماتيو رينزي على أن أوروبا لا يمكنها إضاعة الوقت وعليها التحرك بسرعة. لم يكن لقاء الوزيرين الألماني والفرنسي عادياً، خصوصاً أنه يأتي في وقت مفصلي لمستقبل التكتل السياسي والجغرافي الأوروبي، وبدا واضحاً أن هناك ملامح لخطة سياسية وأمنية واقتصادية أوروبية جديدة، سيجرى العمل وفقاً لها وتفعيلها في شكل إيجابي في القريب العاجل. ويبدو أيضاً أن هناك وثيقة ما تسربت عن هذا اللقاء، بثها التلفزيون البولندي، وتتضمن ثلاثة عناصر رئيسة، الأول يتصل بحالة الأمن الأوروبي، والآخر بمشكلة اللجوء والسياسات تجاه المهاجرين، فيما الثالث يتمحور على عملية النمو الاقتصادي لدول الاتحاد وتعزيز مكانة العملة الأوروبية الموحدة اليورو. الدولة «السوبر» هل من بين أحلام الفرنسيين والألمان اليوم نشوء الدولة الأوروبية «السوبر» التي جرى الحديث عنها إعلامياً في الأيام القليلة الفائتة؟ ضمن ما أثارته وسائل الإعلام البولندية عن تلك الوثيقة القول إنها تهدف إلى بلورة «دولة أوروبية سوبر»، أي كيان جغرافي، سياسي، اقتصادي، عسكري، ممتد وفيه يتم تقييد صلاحيات الدول الأعضاء، وتفقد الدولة القومية الأوروبية حقها في الاحتفاظ بالجيوش أو القوانين الجنائية الخاصة بها، وكذلك المنظومات الضريبية، بالإضافة إلى إلغاء أي عملات باستثناء العملة الأوروبية الموحدة. كما ستفقد الدول السيطرة على حدودها، والإجراءات الخاصة بمنح اللجوء وإعادة إسكان اللاجئين. هل الزعامات الألمانية والفرنسية اليوم أمام اختبار حقيقي لقوة الإرادة السياسية؟ في تحليل عميق لمركز «ستراتفوز» الاستخباراتي الأميركي، لصاحبه جورج فريدمان، نقرأ كيف أن ألمانياوفرنسا تحديداً كان لهما الفضل الأول في تشكيل البنية الهيكلية والأساسية للاتحاد، ذلك أنه عندما عملت فرنساوألمانيا الغربية على تأسيس منظمة السوق الأوروبية المشتركة، سلف الاتحاد الأوروبي، في الخسمينات من القرن العشرين، كان لديهما هدفان: الأول هو إنشاء بنية سياسية واقتصادية من شأنها أن تربط بين الدولتين، والثاني هو تسهيل التجارة والاستثمار لتنشيط اقتصادات أوروبا المضطربة من الحرب. في ذلك الوقت كان كلا البلدين على اقتناع تام بهذا الحل، فقد شعرت فرنسا بأنها حيّدت جارتها الشرقية مع الحفاظ على السيطرة على السياسة القارية، فيما نجحت ألمانيا وقتها في التصالح مع الغرب بعد سنوات طوال من العداء. هل لقاء اليوم بين وزير خارجية ألمانياوفرنسا هو امتداد لواقع حال أوروبا منذ قرنين على الأقل؟ تاريخياً، كان التحالف الفرنسي - الألماني حجر الزاوية الذي تعتمد عليه ديناميكيات القوة الأوروبية، أما الصراع بين هذين البلدين فقاد إلى ثلاث حروب قارية بين عامي 1870 و1945، وإنهاء هذا الصراع سهّل عملية السلام بعد الحرب العالمية الثانية، وزرع بذور التكافل من خلال الاتحاد الأوروبي في نهاية المطاف. لا تعرف السياسة الدولية العواطف أو أحاديث المشاعر القومية على أهميتها، بل إن البراغماتية دائماً هي التي تحكم المشهد. من هذا المنطلق يفهم المرء لماذا يسعى الألمان بداية إلى استنهاض وحدة القارة الأوروبية، ذلك أنه لو تسرب فيروس التفكيك إلى الداخل الألماني، من خلال النزعات العنصرية واليمينية، لأضحت ألمانيا بمفردها في مواجهة العديد من القضايا الأوروبية الجسيمة، وفي مقدمها الأوضاع الاقتصادية المتهالكة لدى عدد من الدول الأوروبية كاليونان والبرتغال وإسبانيا، ولباتت بمفردها في مواجهة تبعات مشكلة المهاجرين واللاجئين. السؤال المهم في هذه القراءة: «هل أوروبا الجديدة التى نحن بصددها تلقى هوى عند الولاياتالمتحدة الأميركية؟ بداية لا بد من الإشارة إلى الخسارة التي لحقت بواشنطن من جراء انسلاخ لندن عن بروكسيل، فالتحالف الأميركي - البريطاني عضوي، غير موجود بين واشنطن وأي عاصمة اوروبية أخرى، لأسباب تاريخية وآنية معاً. كانت بريطانيا التابع الأمين والأكثر موثوقية للسياسات الأميركية، وعملت طويلاً على الاضطلاع بدور الوسيط الأبرز لتسوية الخلافات الخاصة بالولاياتالمتحدة مع بعض الدول الأوروبية، وساعدت كذلك أميركا في حروبها المعاصرة، في العقود الثلاثة الماضية. ومن جهة مقابلة، ترى واشنطن في ألمانيا شريكاً قوياً، غير انه شريك لا يخضع لحالة السطوة الأميركية العالمية السائدة منذ تفكك أو بالأحرى تفكيك وتفتيت الاتحاد السوفياتي. ولا يخفي أبرز المحللين السياسيين الأميركيين، خصوصاً المنظرين الاستراتيجيين والاستشرافيين، مخاوفهم من أن يساهم غياب بريطانيا في إعادة التاريخ - الأوروبي على الأقل - إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى وإلى غاية حربها ضد ألمانيا، وبمعنى أكثر تحديداً أو تهديداً، ما يحيل إلى هيمنة جديدة لألمانيا في أوروبا. يدرك الأميركيون كذلك أن هناك الكثيرين في الداخل الألماني بدأوا التفكير بجدية في طرح «أوراسيا» الذي تتحدث عنه روسيا - بوتين، ويوقنون كذلك أن الأيام المقبلة قد تشهد صدامات أوروبية - أميركية، وقد بدأ بعضها بالفعل يتجلى في شكل اقتصادي، فقد عبر رئيس الوزراء الفرنسي مانويل فالس عن عدم إمكان التوصل إلى اتفاق للشراكة التجارية والاقتصادية العابرة للمحيط الأطلسي بين الاتحاد الأوروبي والولاياتالمتحدة، إذا لم تؤخذ مصالح الاتحاد الأوروبي في الاعتبار. هل لهذه المخاوف تحاول واشنطن جاهدة منذ أشهر بسط هيمنتها على الدول الاسكندنافية؟ يبدو أن واشنطن تخطط ل «ناتو» جديد مصغر في بلدان الشمال الأوروبي، ولهذا عمل باراك أوباما على استقطاب دول مثل السويد وفنلندا إلى حلف شمال الأطلسي، وكأنه يحاول الاقتراب من الحدود الروسية بطريق أكثر ضمانة ورضوخاً للقرار الأميركي من القرارين الفرنسي أو الألماني، في حال حدوث تمرد تجاه الأحادية الأميركية المعهودة. إلى أين تمضي أوروبا؟ ربما الأصوب أن يكون السؤال: العالم إلى أين يتوجه؟ وأفضل جواب هو الإحالة على ما قاله المثقف الإيطالي انطونيو غرامشي ذات مرة في (دفاتر السجن 1930): «القديم يلفظ أنفاسه، والجديد يناضل لكي يولد، وبين الحالتين يلوح الكثير من علامات الاعتلال». * كاتب مصري