في انتظار القرار الفرنسي المتعلق بالتفجير النووي المقبل في ارخبيل موروروا في بولينيزيا الفرنسية الذي قد يأمر الرئيس جاك شيراك باجرائه قريباً او يؤخره قليلاً او قد يلغيه نهائياً، تحاول باريس امتصاص حركة الاعتراض العالمية، الحكومية والشعبية، على التفجير الذي اجرته في الخامس من الشهر الجاري، بعد توقف في تجاربها النووية دام حوالى ثلاث سنوات ونصف السنة بأمر من الرئيس السابق فرنسوا ميتران. الانتقادات التي وجهت الى التفجير النووي الجديد ركزت على الأضرار البيئية التي يمكن ان تؤدي اليها مثل هذه التفجيرات في مناطق التجارب في جنوب المحيط الهادئ. لذلك لوحظ ان أكثر البلدان عنفاً في انتقادها كانت تلك التي لها شواطئ مع منطقة التجارب مثل استرالياواليابان ودول أميركا اللاتينية، تدعمها حركات حماية البيئة خصوصاً في أوروبا. وركزت انتقادات أخرى على المفارقة السياسية في قرار فرنسا التي عملت جاهدة، لمناسبة تجديد معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية قبل أشهر، لاقناع الدول المترددة على الانضمام الى التجديد. وكذلك المفارقة في اعلان الحكومة الحالية الاستعداد للبحث الجدي في وضع معاهدة وقف التجارب النووية وقفاً تاماً في العالم. ولاحظت انتقادات أخرى المفارقة الاخلاقية في اقدام فرنسا على تفجير نووي في الذكرى الخمسين لالقاء الولاياتالمتحدة قنبلتيها النوويتين على كل من هيروشيما وناكازاكي. إذ جاء التفجير الجديد في الوقت الذي تعقد الندوات في العواصم العالمية المختلفة بهدف اظهار الكارثة البشرية والبيئية التي أدى اليها الانفجار النووي في اليابان، وللبحث في الضرورة العسكرية لاستخدام القنبلة النووية ضد اليابان التي كانت تترنح تحت الضربات العسكرية التقليدية والمتجهة حتماً نحو الاستسلام. لكن أياً من هذه الانتقادات لم يشر الى الجانب السياسي - الاستراتيجي لقرار شيراك. لا بل ان المعلقين الاستراتيجيين الذين لاحظوا الأثر المعدوم لأي اشعاع نووي ناتج عن التفجير الفرنسي الذي جرى على عمق يصل الى 500 متر تحت قاع المحيط، اكدوا الافادة العملية لمثل هذه التجربة لتطوير تقنيات في القوة النووية. وذهب المدير السابق لمعهد الدراسات العليا الاستراتيجية في لندن، الالماني كريستوف برترام، الى الدفاع عن التجربة بوصفها "اشارة الى ان فرنسا تأخذ على محمل الجد الوحدة الأوروبية". أي انه وضعها في اطار تجاذب القوى الدولية، بعدما سبقت الولاياتالمتحدة أوروبا اشواطاً في مثل هذه التجارب، وفي ظل استمرار الصين في تجاربها التي كان آخرها في 17 آب اغسطس الماضي، وفي ظل "الفوضى" النووية في بلدان الاتحاد السوفياتي السابق. وإذا وضعنا جانباً الانتقادات البيئية والاخلاقية للتجربة الفرنسية الجديدة، ومحاولات بعض الدول للحلول محل فرنسا في التصدير الصناعي الى الدول المعترضة على التجربة والداعية الى المقاطعة التجارية للصناعات الفرنسية، اين يقع التفجير الجديد في السعي التقني لتطوير القوة النووية الفرنسية؟ وفي الاستراتيجية النووية التي ارساها الجنرال شارل ديغول بعد التفجير الأول في الصحراء الجزائرية؟ المختبر بدلاً من التفجير شدد شيراك خلال حملته الانتخابية ضد المرشح الاشتراكي ليونيل جوسبان على انه سيأمر، لدى انتخابه رئيساً، باعادة التجارب النووية التي اوقفها سلفه ميتران. وكان يرد على حجة جوسبان القائلة بامكان الحصول - تقنياً - على النتائج نفسها من خلال المختبر عبر "التمثيلات الرقمية" في الحاسوبات الضخمة، بأنه من أجل التمكن من النجاح في التجارب المختبرية لا بد لفرنسا التي لا تزال تقنيتها متأخرة عن الولاياتالمتحدة في هذا المجال، ان تختبر على الطبيعة بعض العوامل. وفي الأيام المئة الأولى من حكمه، قرر استناداً الى رأي الخبراء، ان الانتقال الى التجارب المختبرية يقتضي القيام بما بين 6 و8 تفجيرات طبيعية. ثم عاد، بعيد التفجير الأول، الى القول ان عملية الانتقال هذه قد تقتضي عدداً أقل من التفجيرات في اطار التجربة التي حملت اسم "تيتيس". وحسب الخبراء، لا تهدف "تيتيس" الى الانتقال الى التجارب المخبرية فحسب، وانما ايضاً الى تطوير الصاروخ "ام" الذي يزود الغواصات الاستراتيجية. واستناداً الى الخطة الدفاعية الفرنسية، بعد الصاروخ "ام - 45" ذو الرؤوس الستة "ت. ن - 71" لتسليح الغواصة "تريونفان" التي تدخل الخدمة في الصيف المقبل. وميزة الصاروخ الجديد انه يرفع مدى الصواريخ الاستراتيجية الفرنسية من 5 آلاف كيلومتر ام - 4. أ الى 6 آلاف، ويحمل الرأس النووي "ت. ن - 71" الذي يمكنه ان يخترق دفاعات العدو. وبشكل عام، تستند فرنسا في قوتها النووية الى حوالى 500 رأس نووي موزعة على "القوة المحيطية الاستراتيجية" خمس غواصات تحمل صواريخ من طراز "ام" يتراوح مداها بين 5 آلاف و6 آلاف كيلومتر بعد تطوير "ام - 45"، وعلى "القوة الجوية الاستراتيجية" وحدتان من صواريخ "اس 30 د" موضوعة في عنابر في مرتفعات جبال الألب، سربان من طائرات "ميراج" تحمل صواريخ جو - أرض مداها 300 كيلومتر، وعلى "القوة التكتيكية" 20 طائرة "سوبر اتندار" و60 طائرة "ميراج - 2000" مزودة بصواريخ "أي. اس. ام. ب"، وكل هذه الطائرات منقولة على الحاملتين "كليمنصو" و"فوش". وتتضمن القوة التكتيكية ايضاً لواء مدفعية وصواريخ أرض - أرض "آوس" محمولة على قاطرات ويصل مداها الى 500 كيلومتر. هكذا تأتي تجربة "تيتيس" لتعزيز هذه الترسانة وجعلها قادرة على الاحتفاظ بالسمة الأساسية للقوة النووية الفرنسية، وهي "الردع" ولتأكيد صدقية هذا الرد باسناده الى أكثر التقنيات تطوراً، اذ انه لا يمكن لفرنسا، حسب وزير الدفاع شارل ميّون، ان تخفض درجة "يقظتها في عالم غير واضح" بعد انهيار المركزية النووية السوفياتية وقبل الوصول الى استقرار في النظام الدولي الجديد. لكن المحللين الفرنسيين يعتقدون بأن شيراك الذي لا يزال يبحث عن أسس استراتيجية نووية جديدة قد يكون اندفع وراء ربط اسمه بمحاولة تحديث الترسانة النووية لاعتبارات شخصية اكثر من المبررات الاستراتيجية كما ارساها الجنرال ديغول وطورها ميتران. ويلاحظ هؤلاء ان حجر الأساس في هذه الاستراتيجية والذي يكمن في الحرص الشديد على استقلال القرار النووي الفرنسي، قد يعاد النظر فيه من خلال بدء الحديث الرسمي الفرنسي الحالي عن اعادة النظر في التحالفات النووية. قنبلة الجنرال الجنرال ديغول الذي تولى مقاليد السلطة في فرنسا في 1958، وأرسى الجمهورية الخامسة في مطلع الستينات، اعتبر ان امتلاك بلاده لقوة نووية في ذروة الحرب الباردة جزء لا يتجزأ من مقومات "الوطن" الفرنسي الذي يحلم به. فهو مثل الدفاع عن قيم الحرية والديموقراطية، وتحديث الصناعة وتطوير الزراعة، وزيادة التبادل التجاري الخارجي. وهو كان يعتبر ان العائق امام تحقيق هذا "الوطن" هو الاستعمار الفرنسي للجزائر المتعارض مع قيم هذا الحلم من جهة، وبقاء فرنسا خارج نادي الكبار النوويين، إذ ستكون فرنسا خاضعة لأحد اعضائه لحمايتها النووية، وتالياً مضطرة الى التخلي عن سيادتها. ويؤكد معظم الذين أرخوا لتلك المرحلة والذين احاطوا بديغول في تلك الأيام، ان مؤسس الجمهورية الخامسة كان يربط تقدم المفاوضات مع الجزائريين بالتقدم في انجاز التفجير النووي الأول في الصحراء الجزائرية. فهو امتنع عن هذه المفاوضات في البداية لأن الاستعداد للتفجير لم يكن اكتمل بعد. وأعطى أوامره لاستطلاع حل تفاوضي في الجزائر فور ورود التقارير الأولى من الصحراء عن التقدم نحو "انجاز" التفجير. وباتت وتيرة المفاوضات مربوطة بهذا التقدم. وعندما حددت ساعة الصفر للتفجير، اعطى تعليماته للمفاوضين كي يبدأوا البحث في استقلال الجزائر. وكلما كانت هذه الساعة تقرب كان يحض مفاوضيه على الاسراع في التوصل الى اتفاق مع الجزائريين. ويقول رئيس وزرائه والشخصية الأكثر قرباً منه، ميشال دوبريه، انه لم يكن يفهم لماذا "يقدم الجنرال التنازلات" للجزائريين. وفوجئ رئيس الوفد الفرنسي المفاوض في "افيان" بالاتصالات اليومية المتكررة من ديغول شخصياً لانهاء الاتفاق وتلبية كل مطالب الجزائريين لتسريع الاستقلال. وقلة كان تعرف ان ساعة الصفر للتفجير الأولى باتت وشيكة، وأن الجنرال كان مقتنعاً بأن الجزائر لا تشكل عبئاً عسكرياً ومالياً على فرنسا، وانما ايضاً يعوق استمرار استعمارها انجاز الاستراتيجية الفرنسية الجديدة. تخلى الجنرال عن كل شيء في الجزائر، باستثناء التشدد في استئجار الصحراء وفرض سيطرة فرنسية تامة عليها مدة 5 سنوات على الأقل ريثما تنقل المنشآت النووية منها الى أرخبيل موروروا. ويعتقد جان لاكوتور الذي كتب أفضل سيرة لديغول، ان الجنرال لم يكن ليوافق على استقلال الجزائر لولا نجاحه في امتلاك القنبلة النووية. إذ من دونها، لن يكون لفرنسا مكانتها في العالم ولن تكون قادرة على الدفاع عن قيمها. فاستقلال الجزائر الذي حرر الجنرال من رحمة "المستعمر" وأطلق السياسة الخارجية الفرنسية من عقالها، ترافق مع انتقالها من "المحمية النووية" الأميركية في اطار الحلف الأطلسي الى "دولة مستقلة وذات سيادة". هكذا كانت "القوة الضاربة النووية" الفرنسية جزءاً من السيادة، في عالم الحرب الباردة، وليست مؤشراً اليها. ولم يكن ديغول يتردد في القول ان قنبلة نووية واحدة تكفي، اذ ان أي اعتداء على فرنسا مهما كان مدمراً سيكون الرد عليه نووياً يحمل الدرجة ذاتها من التدمير. وفي تلك الفترة التي لم تكن تقنيات الصواريخ المضادة للصواريخ تطورت بعد، أصبح ديغول نداً لمعاصريه في الاتحاد السوفياتي والولاياتالمتحدة. وإذا كان، في تخطيطه ان "الخطر" على فرنسا قادم من شرق أوروبا، فإن معركته السياسية الاستراتيجية كانت مع الولاياتالمتحدة. وذلك يعود الى اعتقاده بأن أي ارتباط للسيادة الفرنسية في مجال استخدام هذه "القوة الضاربة" بحلف ما، يفقد "القوة الضاربة" كل صدقيتها، لأن واشنطن لن تكون مستعدة، ولا تزال، لمواجهة نووية من أجل حماية باريس. وفي هذه السيادة تتحول القوة الضاربة الى رادعة. وقد انفجرت المواجهة بعد خروج ديغول من القيادة الموحدة للحلف الأطلسي وخروج القوة الأميركية من الأراضي الفرنسية، بما فيها المظلة النووية، ورفضه الالتحاق بمعاهدة "ناسو" التي وقعها الرئيس جون كينيدي ورئيس الوزراء البريطاني هارولد ماكميلان في نهاية 1962، والتي تنص على التزام أميركا تحديث الترسانة النووية الأوروبية، في مقابل مشاركتها في قرار استخدامها، ما يعني ابقاء هذا القرار في يديها. الاستقلال النووي الأوروبي المقلب الآخر لهذه السيادة النووية الفرنسية هو اعتبار ديغول ان فرنسا، القوة الأوروبية الغربية القارية الوحيدة المالكة لپ"الردع النووي"، عليها ان توسع مظلتها الى جاراتها، خصوصاً المانيا. وهو عمل وتوصل، كرد غير مباشر على معاهدة "ناسو"، الى اجراء المصالحة التاريخية مع المستشار ايديناور، الأمر الذي اعتبره كينيدي نزعة انفصالية في الحلف الغربي في مواجهة السوفيات، وبداية استقلال سياسي واستراتيجي عن الولاياتالمتحدة التي انقذت اوروبا مرتين في القرن العشرين ما يضعف مواقعها في المواجهة مع السوفيات. وبالفعل اعتبر ديغول ان عماد اوروبا الجديدة، بعد الحرب الثانية، يكمن في "قوة الردع" النووي الفرنسي التي وحدها توفر فرصة الاستقلال الأوروبي عن المحورين الأساسيين في العالم. الرئيسان جورج بومبيدو وفاليري جيسكار ديستان، اللذان توالا على الرئاسة بعد ديغول، حافظا على المفهوم الديغولي لپ"الردع النووي". لكن في مطلع الثمانينات، مع وصول ميتران الى السلطة، بدأت المعطيات الاستراتيجية في التحول، خصوصاً بعد انتخاب رونالد ريغان رئيساً في الولاياتالمتحدة وتسلم ميخائيل غورباتشوف الحكم في الكرملين. فمن جهة، اقتنع ريغان بفكرة ان نهاية الردع النووي المعادي ممكنة بفضل تطوير أسلحة مضادة للصواريخ العابرة والباليستية في الفضاء الخارجي، فأطلق "مبادرة الدفاع الاستراتيجي" التي عرفت بپ"حرب النجوم". ومن جهة أخرى اقتنع غورباتشوف بأن سباق التسلح ينهك الاتحاد السوفياتي في الوقت الذي يحتاج الى عملية انهاض اقتصادية شاملة. وتدرجت "تجربة القوى" من تصعيد في البدء، الى عودة الى التصديق على معاهدة الحد من الأسلحة الاستراتيجية سالت، ومن ثم خفض الأسلحة، وصولاً الى "خيارات الصفر" الشهيرة. هذه التطورات، لا سيما تحديث امكانات الصواريخ المضادة للصواريخ وخفض الأسلحة التكتيكية النووية، طرحت على ميتران تحديات جديدة لم تكن قائمة في ظل ديغول. فرد ميتران عليها بالتمسك التام بالبقاء خارج الاحلاف، مع ما يعنيه ذلك من الحرص على "السيادة النووية"، من جهة. ومن جهة ثانية الدفع في اتجاه تأمين الحماية للقوة الفرنسية، خصوصاً الثابتة منها في قمة "البيون" في مرتفعات جبال الألب. لذلك، كرر ميتران في كل مناسبة ان بلاده غير معنية بالمفاوضات النووية الاميركية - السوفياتية. وأي قرار يتخذه الجانبان، حتى لو تضمن خفض القوة الفرنسية، لا تعتبر باريس نفسها معنية به. وفي الوقت الذي كان يشجع على اتفاقات خفض الأسلحة النووية في العالم، كان يعتقد بأن المستوى الذي بلغته القوة الفرنسية، في مطلع التسعينات، والكافي لتأكيد القدرة على الردع، لن يعاد النظر فيه. علماً انه عمل على خفض عدد الرؤوس الفرنسية بين 10 و15 في المئة سنوياً بين 1991 و1995، من غير اي اعلان او اتفاق، بعدما أمر بوقف التجارب في 1992. الضربة الأولى واستندت النظرية الميترانية الى المعارضة التامة لپ"مبادرة الدفاع الاميركي" لأنها تلغي الضربة الأولى، أي عنصر "الردع" الذي كان أساسياً في الاستقرار بعد الحرب الثانية، والى رفض اخضاع البرامج الفرنسية لأي رقابة او مشاركة من أحد، والى اعتبار ان القوة الفرنسية المقسمة لأسباب عملياتية الى استراتيجية وتكتيكية كلها استراتيجية وتدخل في اطار الردع الاستراتيجي، والى ان استخدامها يخضع فقط لاعتبارات "المصالح الحيوية" الفرنسية. ونتيجة لهذه النظرية، اعتبر ميتران ان تطوير قنابل نووية مصغرة لاستخدامها في مسرح عمليات تقليدية غير ذات قيمة للردع الفرنسي، في مقابل ذلك سعى الى تطوير الحماية النووية، سواء بتحديث الصواريخ المضادة للصواريخ او بتحديث الصواريخ القادرة على اختراق دفاعات العدو، لذلك أمر بتجميد التجارب النووية التي لم تعد مفيدة في تطوير الردع، داعياً الى تحسين الدفاع من أجل حماية "الضربة الأولى". وعلى الصعيد السياسي، اتجه في سياسته الأوروبية، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، الى ارساء اوروبا اقتصادية واجتماعية وثقافية ليس للمظلة النووية الفرنسية الدور الذي حاول ديغول ان يستند اليه. اما شيراك الذي لم تمض على حكمه خمسة أشهر، فلم تتضح بعد، حسب الخبراء، معالم سياسته في هذا الاتجاه. لكن مواقفه السابقة والتصريحات الصادرة عن أقطاب حكمه تعطي بعض المؤشرات. ففي فترة "التعايش" بين 1986 و1988، أي الفترة التي كان فيها ميتران الاشتراكي رئيساً وشيراك الديغولي رئيس للوزراء، ظهر التعارض بين الرجلين في هذا المجال. وحسب المذكرات التي نشرها جاك اتالي، مستشار ميتران، واستعاد فيها حرفياً النقاشات التي كانت تدور في مجلس الوزراء، يتضح حجم هذا التعارض. دعم شيراك "المبادرة الاستراتيجية" الأميركية. وهو أبلغ الادارة الاميركية الاستعداد للمشاركة فيها مثل بريطانيا وايطاليا واسرائيل. دافع عن فكرة تصنيع "القنابل النووية المصغرة" وتطوير الصواريخ المتنقلة المحمولة على شاحنات. ويستدل من هذه المواقف ان الرئيس الفرنسي الحالي لم يكن يعارض فكرة انهاء "الردع" النووي، ولم يكن يستبعد مشاركة فرنسا، كحكومة، في برنامج أميركي ليس لباريس القدرة على التأثير فيه والتحكم بمعطياته، مع ما يستتبع ذلك من احتمال ايجاد رابط ما بين القوتين الأميركية والفرنسية، سواء في الاستخدام او في المفاوضات. اما الدفاع عن "القنابل المصغرة"، فذلك يعني اعتبار ان "القوة النووية" سلاح يمكن اللجوء اليه في مسرح تقليدي، وتصبح تالياً نوعاً من المدفعية التقليدية المتطورة، ما يفقدها صفتها الأساسية وهي "الردع" المرتبط أساساً بالصواريخ الاستراتيجية. وفي شأن الصواريخ المتحركة المتطورة، سيكون الاعتماد عليها دخولاً في سباق التسلح الذي ينهك الوضع الاقتصادي من دون ان يوفر القدرة على الردع. إذ ان الموازنات التي تنفق لتطوير هذه الصواريخ يمكن استخدامها في اجراءات الحماية للقوة الموجودة، ما يوفر دخول سباق التسلح وأكلافه الباهظة ويؤمن فرصة الاستمرار في امتلاك التهديد بالضربة الأولى الرادعة. وفي محاولة لرسم ملامح هذا الموقف تحدث رئيس الوزراء الان جوبيه، قبل أيام، أمام معهد الدراسات العليا للدفاع الوطني. فأشار الى الميل الى ان تكون القوة الفرنسية جزءاً من "ردع اوروبي خاضع للتشاور"، ما يتضمن "أوربة" الردع الفرنسي في اطار استراتيجية اوروبية. كما أشار الى ان باريس لم تعد تعارض البحث في ان تضع "قوتها المستقلة" في اطار حلف شمال الأطلسي بعد تجديده. وفي الحالين تميل القوة الفرنسية النووية الى ان تصبح قوة عسكرية، قابلة، بحسب الظروف، الى ان تخضع لمعطيات تخرج عن السيادة. الأمر الذي يهدد بأن تنتزع الصفة الأساسية التي حاول ديغول ان يرسيها، والتي حاول ميتران ان يحافظ عليها، وهي انها جزء لا يتجزأ من مكونات "الوطن" الفرنسي، وعنصر أساسي في علاقاته الدولية، وليست مجرد وسيلة دفاعية أكثر فعالية من السلاح التقليدي.