أثار خطاب "حال الاتحاد" - الأول منذ تولي الإدارة الأميركية الحالية رئاسة الولاياتالمتحدة - الذي ألقاه الرئيس جورج دبليو بوش أمام الكونغرس ردود فعل غاضبة في أكثر من عاصمة، ومخاوف في عدد من قارات العالم من بسط هيمنة القطب الوحيد على العالم بأسره. وزاد زعماء بلدان العالم قلقاً أن خطاب "حال الاتحاد" تزامن مع انحياز أميركي أعمى لاسرائيل التي تجمع القوى الدولية المعتدلة على أن سياساتها حيال النزاع الاسرائيلي-العربي هي أكبر الأسباب التي هيأت أرضية للإرهاب، وغذته حتى تمكّن من ضرب أميركا في عقر دارها. وقبل أن تتلاشى أصداء تهديدات بوش وتقسيمه العالم الى محور للشر وآخر للخير، عادت الإنقسامات التقليدية التي واكبت الإدارة الأميركية حتى من قبل أن تؤول اليها السلطة في كانون الثاني يناير 2001. فقد سعى وزير الخارجية كولن باول - في آخر شهادة له أمام الكونغرس - الى التقليل من نبرة التهديد، وكبح الانزلاق الى سيناريوهات المرحلة التالية من الحرب المعلنة على الارهاب، ملوحاً براية الحوار للدول التي وصفها بوش بأنها "محور الشر." ولم يكن خافياً أن "صقور" الإدارة - خصوصاً نائب الرئيس ديك تشيني ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد ونائبه بول ولفويتز - سعوا بعد الخطاب مباشرة الى تكريس شرعية التوجه الجديد ضد الدول التي تمثل "محور الشر". وفي ما أعربت دول العالم - بما فيها الدول المتحالفة مع واشنطن في الحرب ضد الارهاب - عن ردود فعل غاضبة تجاه ما جاء في خطاب "حال الاتحاد"، استمر الجدل على أشده، إستنكاراً ومخاوف وتهديدات مضادة. هل رسم خطاب بوش حقاً ملامح نظام عالمي جديد لعصر ما يسمى المرحلة الثانية من الحرب على الارهاب؟ هل ستتمثل تلك المرحلة في مهاجمة قوى "محور الشر" دولاً وجماعات تتهمها واشنطن بالارهاب؟ وهل كان بوش نفسه مدركاً الأبعاد الخطيرة للسياسات التي أرساها خطابه؟ أسئلة تتطلب الإجابة عنها رحلة الى عدد من العواصم المعنية. وهو ما ترصده "الوسط" في هذا التقرير من واشنطن وطهران والقاهرة وموسكو. كرس الرئيس جورج دبليو بوش أكثر من نصف المدة التي استغرقها خطاب "حال الاتحاد" للشؤون الخارجية. وهو رقم قياسي إذا قورن بخطابات الرؤساء السابقين للولايات المتحدة الذين راوحت الفترة التي خصصوها للعلاقات الخارجية بين 4 و19 في المئة من مجمل خطاباتهم. ومن المفارقات، بالطبع، أن بوش - مثل أسلافه - انتخب أساساً لأسباب تتعلق بالشؤون الداخلية. وتناولت عدم التصاقه بالشأن الخارجي نكات سياسية كثيرة، لعل أكثرها شيوعاً هذه الأيام قول أحدهم أن عدد الزيارات الخارجية التي قام بها بوش منذ إنتخابه رئيساً أقل بكثير من عدد الزيارات التي قام بها نائبه تشيني لغرف العمليات في المستشفيات! جاء خطاب بوش مفعماً بالخطابيات، مثيراً للاستفزاز بما تضمنه من تهديدات وتصنيفات. غير أن هذا الأمر ليس غير عادي. إذ إن المتخصصين في الشأن الأميركي يعرفون أن خطاب "حال الاتحاد" شبيه فحسب لطقوس قبلية تقام في أي مكان في العالم الثالث لتضخيم الذات والتغني بأمجاد القبيلة. وعلى النقيض من البرلمانات الشهيرة في كنداوبريطانيا وفرنسا، ليس هناك من يكون همهم داخل الكونغرس مقاطعة الرئيس إعراباً عن التأييد أو المعارضة. ولاحظت صحيفة "واشنطن بوست" أن أعضاء الكونغرس صفقوا للرئيس بوش 76 مرة في غضون 46 دقيقة! إن فكرة الهيمنة الأميركية ليست حديثة أو طارئة بالنسبة الى الأميركيين. في عام 1972 التقيت السناتور الجمهوري الراحل باري غولدووتر، الذي خسر انتخابات الرئاسة لمصلحة الرئيس ليندون جونسون العام 1964. ومما قاله في ذلك اللقاء الذي تم في منزله: "إن الولاياتالمتحدة تولت الدور الذي كانت تقوم به في العالم بريطانيا على عهد الملكة فكتوريا. ولذلك فهي جديرة بأن تحترم وتُكره في آن معاً". قيل ذلك قبل الانهيار المفاجئ للإتحاد السوفياتي، الذي أتاح للولايات المتحدة أن تصبح القوة العسكرية العظمى الوحيدة في العالم. لكنه قيل أيضاً قبل أن ينجح الاتحاد الاوروبي في فرض نفسه قوة اقتصادية عظمى موازية للولايات المتحدة. هل تستخدم أميركا دور الشرطي المدجج بالسلاح الذي يستطيع تخويف العالم بالتصرف منفردة؟ وهل تملك حقاً الكفاءة الثقافية واللغوية لتبسط سيطرتها وتحكم قبضتها على العالم بأسره؟ هل تملك هذه الدولة التي تعتبر بوتقة لانصهار ملايين من المهاجرين القدرة على تحويل نفسها صورة مصغرة لأمم متحدة تتوافر على ترسانة نووية ضخمة؟ أم ستبقى السلطة فيها بيد المسيحيين البيض الاثرياء واليهود مع تمثيل رمزي للسود والنساء؟ هذه الأسئلة ليست موجهة الى القراء، بل هي الأسئلة التي تثيرها الأوضاع في أميركا منذ هجمات 11 أيلول سبتمبر. وتوفر محاولة تقديم إجابات عنها وقوداً لا غنى عنه لأجهزة الإعلام الأميركية التي يستغرقها كلياً الخوض في هذه القضايا والتساؤلات. وتثير تلك التساؤلات علامات استفهام إضافية بشكل يشبه المتواليات الهندسية التي لا تنتهي. هناك حقاً جدل حول حكمة السياسة الموالية لاسرائيل، ونقاش لا ينقطع عن أقصر الدروب لخطب ود العالمين العربي والاسلامي في أعقاب هجمات أيلول. وحين نشر مكتب التحقيقات الفيديرالي اف.بي.آي. إعلانات في الآونة الأخيرة طالباً تجنيد عملاء يجيدون اللغة العربية، تلقى أكثر من ثلاثة آلاف طلب. ويعني ذلك أن الولاياتالمتحدة تستطيع - إذا شاءت - أن تشغل جميع الوظائف في سفاراتها لدى الدول العربية، من السفير الى حراس الأمن - بموظفين أميركيين ناطقين بالعربية. وبوسعها أن تفعل ذلك أيضاً في الصين وأميركا اللاتينية. ويقود ذلك بدوره الى تساؤل مهم: هل تستطيع الإدارة الأميركية الحالية أن تتأقلم سريعاً - إذا ما تبينت لها ضرورة ذلك - مع متطلبات التغيير واستجابة لمعايير الحكمة التقليدية لتسعى الى الحد من غضب دول وجماعات دينية متشددة؟ ولعل النهج الذي اختطه خطاب "حال الاتحاد" مدعاة للتساؤل عما إذا كان بوش والمجموعة المحيطة به والمؤثرة في تفكيره مقتنعين حقاً بأن بمستطاعهم وضع حد للإرهاب من خلال الترويع والتخويف والقوة؟ اعترف ديبلوماسي عربي مخضرم يعمل منذ وقت طويل في واشنطن ويقيم علاقات وثيقة مع أقطاب الإدارة الأميركية، خصوصاً الوزير باول الذي يعد أكثرهم براغماتية واعتدالاً، بأن السياسة الأميركية تجاه العالم، وبوجه خاص تجاه العالمين العربي والاسلامي، أضحت لغزاً يستعصى على الفهم. فقد رسخ، أثناء حملة انتخابات الرئاسة السنة الماضية، انطباع قوي بأن المرشح الديموقراطي ألبرت غور متطرف في ولائه لجماعات الضغط التي تمثل القوى الصهيونية التي تملك الأموال. وأدى ذلك الى تجيير 83 في المئة من أصوات الأميركيين المسلمين، وغالبيتهم من أصل باكستاني، لمصلحة بوش. وضمن له ذلك أصوات غالبية الأميركيين العرب، على رغم أن نحو 80 في المئة منهم مسيحيون. ولهذا فإن هؤلاء الناخبين يتساءلون في حيرة حقيقية: لماذا إذن يبدو بوش متسامحاً مع العنف المعربد والغارات الجوية والهجمات بالدبابات التي يشنها رئيس وزراء إسرائيل آرييل شارون على العرب؟ كان طبيعياً أن يضطر بوش الى إظهار احترامه للدين الاسلامي. لكنه، في الوقت نفسه، يتحدث عن الديانة اليهودية كأنها مساوية في أهميتها للإسلام والمسيحية. أميركا وفلسطين والإسلام يتوقف انتهاج سياسة خارجية ناجحة حيال العالم الاسلامي والدول العربية على رغبة أميركا في استخدام سطوتها وجبروتها، مثلما فعل الرئيس الراحل داويت ايزنهاور سنة 1956، لحمل إسرائيل على التصرف في حدود ما يبيحه القانون الدولي. ويعني ذلك إلزامها تنفيذ قرار مجلس الامن الدولي الرقم 242، الذي يطالبها بسحب قواتها الى خطوط هدنة العام 1948، وإخلاء المستوطنات اليهودية في الاراضي العربية المحتلة. لكي يفعل بوش شيئاً من ذلك، يتعين عليه أن يتجاوز قبضة اليمنيين المتشددين في إدارته، خصوصاً تشيني ورامسفيلد، والى حد ما مستشارته في شؤون الأمن القومي كوندوليزا رايس. فقد تحول هؤلاء المتشددون ممثلين لأعتى جماعات الضغط الصهيونية، وأبرزها اللجنة الاميركية-الاسرائيلية للشؤون العامة ايباك ومعهد سياسات الشرق الأدنى. ويجد هؤلاء الوزراء سنداً من كبار مساعديهم، كنائب وزير الدفاع ولفويتز، ورئيس مجلس الدفاع ريتشارد بيرل الذي كان مسؤؤل المتابعة السابق لشؤون "ايباك" في الكونغرس. يتمسك هؤلاء اليمينيون بأنه لا ينبغي للفلسطينيين أن يقاوموا الاحتلال، بل يجب عليهم أن يتفاوضوا معه. ويجب عليهم إلا يردوا على الاغتيالات التي تنفذها اسرائيل ضد قادتهم باغتيالات مضادة، بل يجب عليهم أن يضمنوا أن فلسطين خالية تماماً من أي قطعة سلاح! على رغم أن تلك الحجج تضعف موقف أميركا في الشرق الأوسط، إلا أن الواقع يقول إن بوش يعير أذنيه في الوقت الراهن لأولئك اليمينيين، بدلاً من الاستئناس بآراء البراغماتيين كوزير الخارجية ومساعده لشؤون الشرق الأدنى بيل بيرنز والخبراء الذين قدموا المشورة مراراً للبيت الأبيض في عهود سابقة، مثل غراهام فولر وروبرت ماللي وغيرهما. ويتمسك هؤلاء بأن الاحتلال، وهي حالة لم تعرفها الولاياتالمتحدة منذ حرب العام 1812، يحتم المقاومة. ودأب مساعد وزير الخارجية الحالي بيرنز، وهو سفير سابق لأميركا لدى الأردن، على الاستشهاد بمقولة تنسب الى رئيس وزراء بريطانيا الراحل ونستون تشرشل، مخاطباً البريغادير شارل ديغول في 1940: "الجندي الجيد الوحيد في عهد الاحتلال هو الذي يموت في زمن الاحتلال". إزاء ذلك الجدل بين اليمينيين والبراغماتيين، يبقى التساؤل الدائم عن مصير القوات الاميركية المنتشرة في الخليج وعلى السواحل القريبة منه. إذا كان الانحياز الأميركي الأعمى لاسرائيل يعد السبب الأساسي وراء هجمات "الثلاثاء الأسود" على واشنطن ونيويورك، أفليس منطقياً التكهن بأن الجنود الاميركيين في المنطقة الذين يقدر عددهم ب 25 ألفاً سيكونون الهدف المقبل لأي هجمات "إرهابية"؟ أم أن واشنطن ستستغل "ديبلوماسية التسليح" التي تجعل بلدان منطقة الشرق الأوسط معتمدة على انتاجها الحربي لإطالة أمد وجودها العسكري هناك؟ لقد تمسكت مصادر في وزارة الدفاع البنتاغون تحدثت اليها "الوسط" بأن دولاً عربية متحالفة مع الولاياتالمتحدة يجب أن تأتي تالية لاسرائيل حين يتعلق الأمر ببيع آخر ما تفتقت عنه تكنولوجيا التسلح الأميركية. هل يسع الدول العربية المعنية أن تتحول الى التسلح الأوروبي؟ يقول المصدر الأميركي: "التحول الى السلاح الأوروبي الصنع يتطلب وقتاً، كما أننا سنبدي اعتراضات لا يمكن إخفاؤها". وأضاف: "إذا كانوا العرب يريدون التحول الى مصادر تسليح روسية فسنغلق الأبواب بوجه ذلك"! هل تستطيع أوروبا أن تغامر لتكون بديل التسلح العربي المنشود؟ من الواضح أن الدول الاوروبية لن تخوض معارك مع واشنطن لتكون الشريك الأول للجيوش العربية. إذ إن العلاقات الأوروبية-الأميركية نفسها تمر بفترة ضبابية محيرة، لأن أوروبا تبيع سلعها لأميركا أكثر مما تشتريه من السلع الأميركية. غير أن ما يجمع الطرفين ويقرب بينهما تحالفهما في منظمة حلف شمال الأطلسي التي تجعل كلاً منهما بحاجة الى الآخر. وقد بدا واضحاً أن أميركا تضع اعتباراً خاصاً للنفوذ الأوروبي، اتضح ذلك خلال حملة التنديد بمعاملة السلطات الاميركية لاسرى تنظيم "القاعدة" ومقاتلي حركة "طالبان" في قاعدة خليج غوانتانامو في كوبا. ولكن واشنطن ما لبثت أن جاءت بحكاية "محور الشر"، قبل أن تتلاشى الضجة التي أثارتها معاملتها لسجناء غوانتانامو. وسارع ولفويتز وبيرل الى اعتبار أن تنديد بوش ب "محور الشر" يمثل لحظة مثالية لتنفيذ "أفغانستان أخرى" في العراق، على رغم عدم وجود تحالف دولي متماسك وصلب ضد العراق، وعلى رغم المخاوف العربية المعلنة من أن ضرب العراق قد يؤدي الى إطاحة صدام حسين، لكنه سيفتت العراق الى دويلات سنية وشيعية وكردية. ويرى الخبراء في شؤون السياسة الأميركية أن خطابات الرؤساء الأميركيين لا تكتسب أهميتها مما تتضمنه من أقوال، بل مما تسكت عنه من أقوال أيضاً. ويلاحظون أن بوش تحدث عن "محور الشر"، لكنه لم يهدد باتخاذ أي إجراء عسكري ضد أي من القوى التي ذكرها بالاسم في كلمته. وفي ما يتعلق بايران على وجه التحديد، تقول مصادر مقربة الى وزير الخارجية باول الذي تحدث مراراً بطريقة إيجابية عن الرئيس محمد خاتمي، والى الامين العام للأمم المتحدة كوفي أنان الذي تردد أنه يبذل مساعي صامتة لتقريب الشقة بين واشنطن وطهران، إن التهديدات الاميركية لايران "خطابية" أكثر منها خطاً جوهرياً في الاستراتيجية الأميركية. صحيح أن الجانب الأكبر من خطاب "حال الاتحاد" كُرّس للشؤون الأميركية التي تهم الناخبين والمواطنين. غير أنه حتى على هذا صعيد فإن الخطاب سكت عن جوانب كثيرة: إذ لم يشر من قريب ولا بعيد الى فضيحة انهيار شركة "انرون" النفطية العملاقة. ولم يتحدث عن المساعي التي يمكن بوش أن يبذلها للتغلب على كثير من الجوانب المعتمة في المجتمع الأميركي. وحدا ذلك بكثيرين الى القول إن على أميركا التي تسعى الى زعامة العالم يجب عليها أن تنبري في البداية لمعالجة الأمراض التي تنخر مجتمعها وتجعله لا يصلح نموذجاً أخلاقياً لبقية بلاد العالم: فهناك نسبة من المواليد غيرالشرعيين أكبر منها في أي دولة صناعية أخرى، وغالبيتهم لأمهات ما زلن في مقاعد الدراسة دون الجامعية. كما أن عدد نزلاء سجونها آخذ في زيادة مطردة. وهناك نحو 400 ألف بندقية بأيدي المواطنين، ويسمح لأي طفل تجاوز السادسة عشرة من عمرة باقتناء واحدة منها. فضلاً عن أن الفارق بين الفقراء والأغنياء في الولاياتالمتحدة يزداد كل عام. وتمنح الادارة الحكومية للعاطلين عن العمل معونات قيمتها أقل مما تنفقه على إطعام السجناء ثلاث وجبات يومياً خلف القضبان. لهذا كله يمكن القول إن الأسئلة التي تثيرها تصرفات الإدارة الأميركية وردود الفعل الصادرة ضدها من البلدان الاخرى تولد قدراً من الأسئلة يماثل تلك التي تثير حيرة الأميركيين في الداخل. فهم أنفسهم لا يعرفون الى أين ستمضي أميركا!.