أخيراً، انتهت الدراما الرئاسية في الولاياتالمتحدة بفوز المرشح الجمهوري جورج دبليو بوش وتنازل المرشح الديموقراطي آل غور واعترافه بالهزيمة. باستطاعتنا الآن محاولة إلقاء بعض الاضواء على المستشارين الاساسيين الذين سيشكلون طاقم السياسة الخارجية في ادارة دبليو بوش القادمة، خصوصاً الاعضاء المسؤولين عن ملف الشرق الأوسط وعملية السلام العربية - الاسرائيلية. تكتسب هذه المحاولة أهمية قصوى بسبب عدم اهتمام دبليو بوش الشخصي في العلاقات الدولية وافتقاره الى الخبرة السياسية، ومن ثم حاجته للاعتماد على مجموعة من المساعدين المقربين اليه والذين يحظون بثقته واحترامه. كيف تبدو الخارطة الأولية لطاقم السياسة الخارجية، التي تضم الفريق المسؤول عن ملف الشرق الأوسط؟ ينصب التركيز الآن على اعضاء الوزارة ومساعديهم، الذين ستعينهم الادارة المقبلة والذين سيلعبون دوراً اساسياً في صياغة السياسة الخارجية، ويمثلون العصب الفقري للسلطة التنفيذية. من هم هؤلاء؟ وهل يمكن استكشاف أفكارهم وآرائهم إزاء المنطقة العربية من خلال قراءة متأنية لمواقفهم الفكرية والسياسية؟ مما لا شك فيه ان ذهنية وثقافة طاقم السياسة الخارجية في ادارة دبليو بوش ستختلف جوهرياً عن نظيرتها في ادارة بيل كلينتون الديموقراطية - الليبرالية. الأسماء المتداولة والمحتمل تعيينها تملك خلفية ايديولوجية محافظة ترعرعت في بيئة قومية متشددة تحت قيادة الرئيس السابق رونالد يغان، وتأقلمت الى حد ما مع ادارة جورج بوش الأب، الأقل محافظة والأكثر براغماتية. اذاً، سيتكون طاقم السياسة الخارجية لإدارة دبليو بوش الجديدة من تيارين رئيسيين: تيار رونالد ريغان المتشدد وتيار مساعدي جورج بوش الأب البراغماتي. ينتمي معظم الشخصيات المحتمل تعيينها الى التيار الثاني المرن والعقلاني غير المتزمت والمنفتح على العالم الخارجي. يعكس تعيين دبليو بوش لمثل هذه الوجوه والشخصيات توجهه الوسطي وتأثير والده الفكري والسياسي على آرائه ومعتقداته سيلعب نائب الرئيس ريتشارد تشيني دور المنسق والمساعد والمستشار الأول لدبليو بوش في مجال السياسة الخارجية، حيث يرأس حالياً الفريق الانتقالي لإدارة دبليو بوش وبمساعده على تشكيل طاقمه السياسي. شغل تشيني منصب وزير الدفاع في ادارة بوش الأب وكان من المؤيدين المتحمسين للتدخل الاميركي في الخليج في عام 1990 واخراج القوات العراقية بالقوة من الكويت. بالإضافة الى ذلك، عمل تشيني والرئيس المنتخب مع عدة شركات نفط ولهم مصلحة شخصية وقومية في استمرار بناء علاقة ودية مع حلفاء الولاياتالمتحدة التقليديين في الخليج. ففي حين يعتبر تشيني ان للولايات المتحدة واجباً "اخلاقياً" للدفاع عن اسرائيل وحماية مصالحها، يشدد على اهمية العلاقات مع الدول العربية وتطويرها وتدعيمهم. تغيظ هذه الرؤية اصدقاء اسرائيل في الولاياتالمتحدة، الذين يعتبرون ان العلاقة الخاصة بين واشنطن وتل ابيب استراتيجية وتاريخية لا يمكن مقارنتها بالعلاقات الاميركية - العربية التي تعتمد على التواصل الاقتصادي وتفتقر الى العمق الحضاري - الثقافي. الشخصية الثانية المهيئة للعب دور محوري في ادارة دبليو بوش، رئيس هيئة الاركان السابق الجنرال كولن باول، المرشح لمنصب وزير الخارجية. من الصعب جداً قراءة ما يدور في رأس الجنرال، الذي أدار حرب الخليج بمهارة بارعة، من أفكار ورؤى تتعلق باستراتيجية الولاياتالمتحدة الخارجية لسبب بسيط إلا وهو شحاحة التصريحات والكتابات التي أدلى بها بخصوص هذا الموضوع. بالفعل، يُعرف عن الجنرال الأسود تكتمه الشديد وتواضعه واعتزازه بانتمائه الى مؤسسة الجيش وخدمته الميدانية في حرب فييتنام. لكن المعروف عنه، وهذا مهم جداً، انه عارض في البداية الدخول في حرب مع العراق، وعارض في النهاية توسيع نطاق الحرب والتقدم الى بغداد للاطاحة بالرئيس العراقي صدام حسين. أغضب موقف باول اسرائيل واصدقاءها في الولاياتالمتحدة، لرغبتهم في توجيه ضربة قاضية الى النظام العراقي، عدوهم اللدود! يمكن الاستنتاج من تجربة باول في ادارتي ريغان وبوش الأب الى انه سيكون حذراً من استخدام القوة التدريجية لحل الأزمات السياسية الخارجية وسيعتمد بثقل على الديبلوماسية والأساليب السلمية لحلها. كوندوليزا رايس، الاكاديمية والمسؤولة السابقة في ادارة ريغان، المرشحة لمنصب مستشارة لشؤون الأمن القومي. المعروف عن رايس انها خبيرة في الشؤون الروسية وتلميذة برانت سكوكروفت، مستشار الأمن القومي السابق في ادارة بوش الأب، ولا تملك خبرة واسعة في قضايا الشرق الأوسط. في محاولة لردم هذه الفجوة المعرفية، زارت رايس، منذ مدة قريبة، اسرائيل. يبدو انها اختصرت المنطقة بأكملها في زيارة للدولة العبرية!. تجدر الاشارة الى نقطة أخيرة وهي ان رايس تعتبر "الارهاب" من أهم التحديات التي تواجه الولاياتالمتحدة في الألفية الثالثة وهذا ما يفسر، ربما، محاولة بنيامين نتانياهو التواصل مع رايس لشرح وجهة النظر الاسرائيلية والأسباب التي تدفع بالجيش الاسرائيلي لضرب الفلسطينيين بهذه الوحشية والعنف. الشخصية الاخرى المؤهلة للمشاركة الفعالة في ادارة دبليو بوش ادوارد دجرجيان، السفير السابق الى كل من سورية ولبنان واسرائيل، في المركز الثالث في وزارة الخارجية كمساعد للوزير في الشؤون السياسية. تكمن أهمية تعيين دجرجيان في انه يملك خبرة واسعة وغنية في شؤون الشرق الأوسط - خاصة عملية السلام العربية - الاسرائيلية، ويعتبر من المحسوبين على بيكر شخصياً. عندما طرحت على دجرجيان اسئلة بخصوص وجهة نظره في عملية السلام، أجاب بصراحة متناهية: لن تستطيع الولاياتالمتحدة الحفاظ على مصالحها الحيوية في المنطقة الا إذا مارست "بحق دور الوسيط المحايد". واضاف السفير المخضرم ان المنهج الناجع للمفاوضات العربية - الاسرائيلية يعتمد على مشاركة دولية، متعددة الاطراف، على نفس الطريقة التي صاغها كل من الرئيس بوش ووزير خارجيته بيكر في مؤتمر مدريد للسلام في 1991: "علينا ان لا نبتعد أو نهرب من الأولويات أو الأساسيات. من المستحسن ان نستغل الأساليب والآليات الإيجابية ونشرك الفرقاء الآخرين، الروس والأوروبيين أو اليابانيين، لأن عملية السلام تتطلب زخماً ودعماً على كل صعيد". بالفعل، كلام دجرجيان يخيف اسرائيل ويشكل نقلة نوعية في الخطاب السياسي للولايات المتحدة لم تتعود الحكومة العبرية واصدقاؤها في الولاياتالمتحدة على سماع مثل هذا الكلام الصريح والعقلاني. لذا نجد ان جماعات الضغط الصهيونية في حال ترقب وانتظار وعدم قدرة على التنبؤ بتوجه الادارة الجديدة ازاء الشرق الأوسط. فلقد دللت ادارة بيل كلينتون الديموقراطية اسرائيل وحلفاءها لمدة ثماني سنوات وفتحت صدرها وقلبها وخزينتها للحليفة العبرية، دعم من دون حدود، من دون شروط، ودون قيود! مهلاً قليلاً قبل الاسترسال في عالم الاحلام. يضم التيار الآخر، كما ذكرنا سابقاً، ضمن مساعدي دبليو بوش بعض الشخصيات المعروف عنهم تعاطفهم الشديد مع آراء ومواقف حزب "ليكود" الاسرائيلي. من الاسماء المطروحة على مائدة الانضمام الى الادارة الجديدة: بول وولفوويتز، الذي شغل منصباً في وزارة الدفاع في ادارة ريغان، كمدير لوكالة الاستخبارات الاميركية. وتعيين ولفوويتز ليس فقط لتشديد القبضة الحديدية على العراق المحاصر بل ايضاً لتبني استراتيجية هجومية تطيح بالرئيس العراقي، حتى وان أدى ذلك الى تقسيم العراق الى دويلات طائفية - اثنية. يعتبر وولفوويتز ان عملية السلام العربية - الاسرائيلية الحالية مضرة بالمصالح الاسرائيلية ويجدر ايقافها أو تحسين شروطها لمساعدة الحليف العبري. ليس مستغرباً ان ترحب اسرائيل واللوبي الصهيوني بهذا التيار المتشدد وتدعم وصوله الى مراكز القرار. لا يمكن فهم واستيعاب الطريقة التي تصاغ بها السياسة الخارجية الاميركية إزاء المنطقة العربية من خلال التركيز فقط على خارطة الشخصيات المؤهلة لتبؤ مناصب رئيسية في الادارة الجديدة. ثمة ثوابت جوهرية في السياسة الاميركية، خصوصاً العلاقة الخاصة بين واشنطن وتل ابيب، لا يمكن القفز فوقها أو تخطيها دون تكاليف باهظة. ثانياً، لم تعد السلطة التنفيذية تستأثر بصياغة القرار تجاه الشرق الأوسط، بل تشارك مع السلطة التشريعية في ذلك. يلعب الكونغرس الاميركي حالياً دوراً محورياً في رسم السياسات الاميركية في المنطقة العربية. أصبح هامش المناورة محدوداً بالنسبة للمؤسسة الرئاسية عندما يتعلق الأمر بسياسات واشنطن في الشرق الأوسط. فالكونغرس الاميركي يتعاطف مع اسرائيل لدرجة خطيرة. ثالثاً، يواجه دبليو بوش نخبة متجذرة وصلبة ومنظمة في دعمها لاسرائيل، التي تستطيع بسهولة وضع العراقيل والحواجز امامه اذا تخطى حدوداً معينة في محاولة لصياغة سياسة اكثر توازناً ازاء مفاوضات السلام. لكل هذه الاسباب، فإن التفاؤل العربي ببزوغ فجر جديد في السياسة الخارجية الاميركية مبني على معطيات غير دقيقة، لا تأخذ بعين الاعتبار التركيبة المعقدة لمؤسسة السياسة الخارجية في واشنطن. في الوقت ذاته، حالة القلق والخوف والترقب الاسرائيلية مضخمة وملغومة ومبنية على سيناريوهات واستراتيجيات هجومية لمنع أي تصدع أو مراجعة للعلاقة الخاصة التي تربط واشنطن بتل ابيب. * استاذ في العلاقات الدولية والديبلوماسية في جامعة سارة لورنس نيويورك