الهلال يفقد خدمات مالكوم امام الخليج    الأهلي ينتصر على الفيحاء بهدف رياض محرز    «الصحة الفلسطينية» : جميع مستشفيات غزة ستتوقف عن العمل    منتدى المحتوى المحلي يختتم أعمال اليوم الثاني بتوقيع 19 اتفاقية وإطلاق 5 برامج    اعتماد معاهدة الرياض لقانون التصاميم    القبض على 4 مقيمين في جدة لترويجهم «الشبو»    المملكة توزع 530 قسيمة شرائية في عدة مناطق بجمهورية لبنان    انطلاق مهرجان الحنيذ الأول بمحايل عسير الجمعة القادم    «طرد مشبوه» يثير الفزع في أحد أكبر مطارات بريطانيا    فيتنامي أسلم «عن بُعد» وأصبح ضيفاً على المليك لأداء العمرة    شقيقة صالح كامل.. زوجة الوزير يماني في ذمة الله    هل يعاقب الكونغرس الأمريكي «الجنائية الدولية»؟    «الزكاة والضريبة والجمارك» تُحبط 5 محاولات لتهريب أكثر من 313 ألف حبة كبتاجون في منفذ الحديثة    باص الحرفي يحط في جازان ويشعل ليالي الشتاء    «الأرصاد»: أمطار غزيرة على منطقة مكة    الرعاية الصحية السعودية.. بُعد إنساني يتخطى الحدود    فريق صناع التميز التطوعي ٢٠٣٠ يشارك في جناح جمعية التوعية بأضرار المخدرات    الذهب يتجه نحو أفضل أسبوع في عام مع تصاعد الصراع الروسي الأوكراني    الملافظ سعد والسعادة كرم    استنهاض العزم والايجابية    "فيصل الخيرية" تدعم الوعي المالي للأطفال    الرياض تختتم ورشتي عمل الترجمة الأدبية    رواء الجصاني يلتقط سيرة عراقيين من ذاكرة «براغ»    حلف الأطلسي: الصاروخ الروسي الجديد لن يغيّر مسار الحرب في أوكرانيا    «قبضة» الخليج إلى النهائي الآسيوي ل«اليد»    «السقوط المفاجئ»    حقن التنحيف ضارة أم نافعة.. الجواب لدى الأطباء؟    مشاعل السعيدان سيدة أعمال تسعى إلى الطموح والتحول الرقمي في القطاع العقاري    الثقافة البيئية والتنمية المستدامة    عدسة ريم الفيصل تنصت لنا    المخرجة هند الفهاد: رائدة سعودية في عالم السينما    «استخدام النقل العام».. اقتصاد واستدامة    «بازار المنجّمين»؟!    مسجد الفتح.. استحضار دخول البيت العتيق    إجراءات الحدود توتر عمل «شينغن» التنقل الحر    أشهرالأشقاء في عام المستديرة    د. عبدالله الشهري: رسالة الأندية لا يجب اختزالها في الرياضة فقط واستضافة المونديال خير دليل    تصرفات تؤخر مشي الطفل يجب الحذر منها    فعل لا رد فعل    المياه الوطنية: واحة بريدة صاحبة أول بصمة مائية في العالم    محافظ عنيزة المكلف يزور الوحدة السكنية الجاهزة    ترمب المنتصر الكبير    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    أخضرنا ضلّ الطريق    أشبال أخضر اليد يواجهون تونس في "عربية اليد"    5 مواجهات في دوري ممتاز الطائرة    إنعاش الحياة وإنعاش الموت..!    رئيس مجلس أمناء جامعة الأمير سلطان يوجه باعتماد الجامعة إجازة شهر رمضان للطلبة للثلاثة الأعوام القادمة    إطلاق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    فرع وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية بحائل يفعّل مبادرة "الموظف الصغير" احتفالاً بيوم الطفل العالمي    "التعاون الإسلامي" ترحّب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة التعاون معها    استضافة 25 معتمراً ماليزياً في المدينة.. وصول الدفعة الأولى من ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة    «المسيار» والوجبات السريعة    أمير الرياض يرأس اجتماع المحافظين ومسؤولي الإمارة    أمير الحدود الشمالية يفتتح مركز الدعم والإسناد للدفاع المدني بمحافظة طريف    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    سموه التقى حاكم ولاية إنديانا الأمريكية.. وزير الدفاع ووزير القوات المسلحة الفرنسية يبحثان آفاق التعاون والمستجدات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هذه تركيبة الطاقم الأميركي الحاكم وهذه مآزقه في فهم السياسة الخارجية
نشر في الحياة يوم 26 - 09 - 2002

في عددها اليوم 26 أيلول/ سبتمبر 2002 تنشر مجلة "نيويورك ريفيو أوف بوكس" الأميركية مقالة لفرانسيس فيتزجيرالد، تحمل عنوان "جورج بوش والعالم".
المقالة ربما كانت بين الأكثر تعريفاً بالطاقم الحاكم في واشنطن، وبمعضلات سياسته الخارجية، ما يبرّر نشرها بشيء من الإعداد والتدخل. وهي تتناول التغير الذي تعرّضت له السياسة الأميركية في ظل بوش، لا سيما بالمقارنة مع عهد أبيه، فتلاحظ أن الأب انتمى الى التيارين المحافظ و"الواقعي" وتأثر كثيراً بمواقف هنري كيسنجر وريتشارد نيكسون، خصوصاً في مجال التعامل مع الصين والاتحاد السوفياتي. واذ لم يدرك بسرعة مدى ثورية اصلاحات ميخائيل غورباتشوف أو أهمية الصراعات الداخلية في دول مثل أفغانستان ويوغوسلافيا، فقد كان مؤمناً بالتعددية وضرورة احترام القانون الدولي. وقام بالكثير، مستعملاً خبرته الديبلوماسية، لاقناع غورباتشوف ومارغريت ثاتشر وفرنسوا ميتران بالموافقة على توحيد ألمانيا. كما شكّل التحالف الذي خاض حرب الخليج ونظّم مؤتمر مدريد للسلام في 1992، والتزم دوماً موقف التدبر والحذر، وحرص أثناء ثورات شرق أوروبا وتفكك الاتحاد السوفياتي على تجنب استثارة ردود الفعل من المحافظين في موسكو. لا بل نجح مع مستشاريه برنت سكوكروفت وجيمس بيكر، وأيضاً بدعم من كولن باول رئيس هيئة الأركان المشتركة وقتها، في التوصل الى أكبر خطوة لنزع السلاح عرفها التاريخ شملت تعطيل ألوف الأسلحة النووية.
وقد يتخذ التباين بين موقفي بوش الأب والإبن شكل المفارقة الحادة عندما نرى ان الكثيرين من مسؤولي الأمن القومي في ادارة الأب يعملون الآن في ادارة الابن. لكن علينا ان نضع في الاعتبار أن الفرق بين الادارتين يتطابق مع الفرق بين وضع الحزب الجمهوري في عهدي دوايت ايزنهاور ونيكسون ووضعه، خصوصاً على الصعيد الايديولوجي، في السبعينات والثمانينات اذ بات يستمد قوته من جنوب الولايات المتحدة وغربها الأوسط. وتمثل هذا الحزب "الجديد" في شكل قوي بإدارة رونالد ريغان، وفي شكل أضعف في ادارة بوش الأب. لكن مفهوم الجمهوريين الجدد للسياسة الخارجية لمرحلة ما بعد الحرب الباردة إنما بدأ يتبلور في ظل ادارة بوش الأب.
وفي نظر برنت سكوكروفت، ثمة سبب أكثر خصوصية في التمايز بين السياستين الخارجيتين للأب والابن. فالصراع الأيديولوجي بين باول وآخرين في الادارة يعود في رأيه "الى صدفة، هي تباين طبائع الأشخاص، بقدر ما لأسباب أخرى. كان بيننا الكثير من الخلافات والفروق في المنظور، لكنها بقيت كلها داخل الادارة. فقد كان الرئيس يقرر، وينتهي الأمر. من هنا فالقضية جزئياً كيفية التعامل مع الصراع. أما الآن فالأمور أكثر علانية".
لندن - "الحياة" - ما كان يقوله سكوكروفت، بكياسته المعهودة، هو أن بوش الابن، الذي جاء الى المنصب من دون معرفة بالشؤون الخارجية، لا يستطيع اتخاذ القرار أو ادارة الخلافات مثل والده الواسع الاطلاع والخبرة. وكان يتكلم أيضاً عن مثال آخر عن صدفة "الطبائع". ففي المذكرات التي كتبها بالاشتراك مع بوش الأب وصدرت في 1998 بعنوان "عالم قد تغيّر"، أوضح سكوكروفت وجود فروق كثيرة في المنظور بين كبار مستشاري الرئيس بوش، الا ان الفارق الرئيسي كان بين وزير الدفاع ريتشارد تشيني وكل الباقين. من ذلك، بحسب رواية سكوكروفت واعضاء آخرين في تلك الادارة، أن تشيني لم يثق أبداً بغورباتشوف، وكان يصر في 1989 على أن اصلاحاته شكلية، وان على الولايات المتحدة بدل التعامل معه الثبات على الموقف ومواصلة ضغوط الحرب الباردة. ودعا تشيني في أيلول سبتمبر 1991 الى خطوات تسرّع انهيار الاتحاد السوفياتي، حتى لو عنى ذلك تشجيع العنف واثارة عداء الروس على المدى البعيد. وعارض الفكرة، التي قدمها أصلاً رئيس هيئة الأركان باول، بأن تسحب الولايات المتحدة أسلحتها النووية التكتيكية من أوروبا وكوريا الجنوبية، كما طلب من باول، في مراحل التهيئة لحرب الخليج، درس امكان استعمال الأسلحة النووية التكتيكية ضد القوات العراقية في الصحراء.
لكن تشيني كان دوماً يمارس المخالفة بألطف شكل ممكن - الى درجة انه كان يعرف ب"الاعتدال" خلال السنين العشر التي قضاها في الكونغرس على رغم سجله التصويتي الحافل بالتشدد اليميني. كما قدّر فيه اعضاء ادارة بوش الأب ذكاءه وقدرته على العمل الهادئ، وفوق كل ذلك ولاءه. وأصبح في 1998 واحداً من مستشاري بوش الابن للشؤون الخارجية، قبل ترشيحه على قائمته لمنصب نائب الرئيس. وكان الاختيار غريباً بعض الشيء، لكن كثيرين، من ضمنهم مستشارو والده، رأوا ان من المفيد حصول "وريث العرش" المعروف باللامبالاة، على دعم تشيني الواسع المعرفة بواشنطن وبالشؤون الدولية. وبصفته المستشار الرئيسي لبوش، مارس تشيني نفوذاً كبيراً في مجال التعيينات.
أما كولن باول، فكان خيار بوش المفضل منذ زمن لوزارة الخارجية، كما اختار كوندوليزا رايس، معلمته في قضايا مثل موقع كوسوفو من العالم، لمنصب مستشارة الأمن القومي. لكن أكثر المناصب الأخرى المتعلقة بالأمن القومي كانت لا تزال مطروحة بعد فوز بوش. وكان المرشح الأول لوزارة الدفاع السناتور السابق عن ولاية انديانا دان كوتس، لكن المقابلة معه لم تكن ناجحة، فاختار بوش دونالد رامسفيلد بدله، "المرشد الروحي" لتشيني في واشنطن أواخر السبعينات وصديقه لأكثر من 30 سنة. وكان رامسفيلد رئيساً لجهاز البيت الأبيض أيام الرئيس جيرالد فورد ثم تولى وزارة الدفاع في تلك الادارة، واستطاع حرفها بحدة نحو اليمين، مفشلاً مساعي كيسنجر للتوصل الى معاهدة "سالت 2". ونجح في ايصال تشيني، الذي كان عمره 35 سنة وقتها، الى منصب رئاسة جهاز البيت الأبيض.
بول ولفوفيتز
عندما أصبح رامسفيلد وزيراً للدفاع للمرة الثانية عيّن بول ولفوفيتز نائباً له. وكان هذا الأخير رئيس "كلية الدراسات الدولية العليا" في جامعة جون هوبكنز، وكان آخر منصب رسمي شغله وزيراً مساعداً لشؤون السياسة في البنتاغون، عندما كان تشيني ذلك الوزير. وولفوويتز أنجز في شباط فبراير 1992، بالاشتراك مع زلماي خليلزاد الموظف في مجلس الأمن القومي وقتها، وعضو المجلس حالياً فضلاً عن كونه مندوب الرئيس الى أفغانستان، تقريراً كلّفه تشيني اعداده قبل سنتين على ذلك، عن مهمات أميركا السياسية والعسكرية في عالم ما بعد الحرب الباردة. وتسربت مسودة عن هذه الوثيقة التي عرفت باسم "توجيه التخطيط العسكري" الى "نيويورك تايمز" أوائل آذار مارس 1992.
وأكدت المسودة، بحسب الصحيفة، أن المهمة كانت ضمان عدم بروز أي قوة عظمى في أي مكان من العالم. واقترحت توخياً لذلك اقناع كل الدول الصناعية المتقدمة بأن الولايات المتحدة ستحمي مصالحها المشروعة من خلال ادامة ما يكفي من القوة العسكرية، وأن على الولايات المتحدة "إدامة الآليات اللازمة لردع المنافسين المحتملين حتى عن مجرد التطلع الى القيام بدور اقليمي أو دولي أوسع". ووصفت المسودة الصين وروسيا بأنهما مصدر خطر محتمل، كما حذرت من أن ألمانيا واليابان وغيرهما من الدول الصناعية قد تجد ما يغريها بالعودة الى التسلح والحصول على أسلحة نووية اذا شعرت بخطر على أمنها، وان هذا قد يضعها على سكّة منافسة الولايات المتحدة. وبناء على ذلك أوصى كاتبا التقرير البنتاغون باتخاذ خطوات، بينها استعمال القوة اذا دعت الضرورة، لمنع انتشار أسلحة الدمار الشامل في دول ككوريا الشمالية والعراق وبعض جمهوريات الاتحاد السوفياتي سابقاً. ولم تذكر الوثيقة شيئاً عن العمل الجماعي من خلال الأمم المتحدة. واذا كانت اعترفت بفائدة التحالفات العسكرية فقد أكدت "ان علينا ان نتوقع مستقبلاً صيرورة التحالفات تجمعات وقتية لا تستمر في حالات كثيرة بعد انتهاء الأزمة المعينة". وكان كل هذا أبعد ما يكون عن تصور الرئيس بوش الأب لدور أميركا في العالم، اذ على اميركا بحسب التصور الجديد السيطرة على العالم وردع كل المنافسين مهما كان الثمن.
نتانياهو والتخلص من أوسلو
كتب كولن باول في مذكراته "رحلتي الأميركية" 1995 أن تشيني وولفوويتز جعلا البنتاغون أثناء ادارة بوش الأب "ملجأ للمتشددين من عهد ريغان". وقام رامسفيلد وولفووتيز بالشيء نفسه اثناء ادارة الابن، اذ أعطيا كل المناصب المدنية، من أرفعها الى أخفضها، للمتشددين، فعيّنا دوغلاس فيث لمنصب ولفوفيتز السابق. وكان فيث خلال ادارة ريغان تحت رعاية ريتشارد بيرل، "الصقر" الرئيسي في تلك الادارة بيرل نفسه الآن رئيس "مجلس سياسة الدفاع"، وهي الهيئة الاستشارية للبنتاغون. وكان فيث خارج الحكومة في التسعينات لكنه عمل من دون توقف لمنع المصادقة على "ميثاق السلاح الكيماوي" الذي فاوضت عليه ادارة بوش الأب. وفي 1996 كتب بالاشتراك مع بيرل تقريراً استشارياً الى رئيس وزراء اسرائيل الجديد، الليكودي بنيامين نتانياهو، دعياه فيه الى "التخلص الحاسم" من عملية اوسلو للسلام وإعادة مطالبة اسرائيل بالضفة الغربية وغزة. وعندما لم يقم نتانياهو بذلك نشر فيث مقالة دعا فيها الى اعادة احتلال الأراضي التي تسيطر عليها السلطة الفلسطينية، وكتب: "الثمن المدفوع بالدماء سيكون مرتفعاً"، لكن العملية ستكون شكلاً ضرورياً من أشكال "انتزاع السم - الطريق الوحيد للخروج من شِباك أوسلو".
وعين رامسفيلد لمنصب بيرل السابق في ادارة بوش الأب، أي وزير الدفاع المساعد لشؤون الأمن الدولي، جي. دي. كراوتش، الذي كان مسؤولاً في وزارة الدفاع أثناء تلك الادارة وعارض لاحقاً "ميثاق الأسلحة الكيماوية" كما انتقد قرار بوش الأب سحب الأسلحة النووية التكتيكية من كوريا الجنوبية. وفي 1995 دعا كراوتش، من موقعه خارج السلطة، الى توجيه ضربة عسكرية للمنشآت النووية ومصانع الصواريخ في كوريا الشمالية، متقبلاً كما يبدو خطر الحرب في شبه الجزيرة الكورية تبعاً لذلك.
ومن جهته، عين باول في وزارة الخارجية "أمميين" من أمثاله كريتشارد أرميتاج وريتشارد هاس. لكنه عيّن أيضاً، تحت إلحاح من تشيني، جون آر بولتون وزيراً مساعداً للشؤون الدولية والسيطرة على التسلح. وبولتون من أتباع السناتور المتشدد جيسي هيلمز، ومن الذين يؤكدون على "أحادية" التصرف الأميركي على المسرح الدولي. وهو من قال مرة: "ليس هناك شيء يسمى الأمم المتحدة". وأوضح: "هناك مجتمع دولي يمكن قيادته من قبل القوة الحقيقية الوحيدة المتبقية في العالم، وهي الولايات المتحدة، عندما يكون ذلك لمصلحتنا ونستطيع تحريك الآخرين".
من أقلية إلى أكثرية
هكذا فان ما كان موقف الأقلية في ادارة الرئيس بوش الأب أصبح موقف الغالبية في ادارة الابن. لكنه كان أيضاً موقف الغالبية في الحزب الجمهوري. وعبّر بوش الابن عن العناصر الرئيسية للموقف عندما تقدم للترشيح الى الرئاسة عن الحزب الجمهوري، فقال في خطاب رئيسي عن شؤون الدفاع ألقاه في تشارلستون في ولاية كارولاينا الجنوبية، وأعده بمساعدة ولفوويتز: "إنه لأميركا زمن القوة العسكرية التي لا منافس لها، وزمن الأمل الاقتصادي والنفوذ الثقافي. انه بحسب قول فرانكلن روزفلت: السلام الذي يأتي به الانتصار الساحق". كذلك تحدث في هذا الخطاب، وأيضاً خطابه عن السياسة الخارجية في السنة نفسها، عن فضائل الديموقراطية والاقتصاد الحر، لكنه، خلافاً لوالده، لم يذكر شيئاً عن حكم القانون.
وأكثر ما يثير الاستغراب في هذه الخطب هو ذلك المزيج من الانتصارية والتشاؤم شبه المطلق تجاه بقية العالم. ينطبق هذا على الصين وروسيا. وعدّد في خطابه في تشارلستون قائمة من التهديدات لأميركا، مصدرها تجار البلوتونيوم وعصابات الاجرام المنظم ومفخخو السيارات والارهاب النووي والبيولوجي والكيماوي والصواريخ العابرة القارات في كوريا الشمالية.
وهو، في خطاب التنصيب، أغفل أي ذكر للشؤون الخارجية، مكتفياً بتحذير "اعداء الحرية" من أن الولايات المتحدة "ستواجه العدوان وخبث النوايا بتصميم وقوة". لكن لهذا التشاؤم تماسكه المنطقي: فمن الطبيعي اذا قررت الانفراد بالتصرف، من دون حلفاء أو اعتماد على حكم القانون، ألا ترى في الخارج سوى مصدر للأخطار.
بيد أن بوش الابن اعترف مرة أثناء حملته الانتخابية بأنه في الحقيقة لا يعرف من هو العدو. وقال: "أثناء نشأتي في عالم مليء بالأخطار كنا نعرف بالضبط من هم الاعداء. كانوا هناك وكنّا ضدهم. هويتهم كانت واضحة. أما الآن فلسنا متأكدين من هم، لكن نعرف انهم موجودون". كما اعترف تشيني في كلمة الى مجلس العلاقات الخارجية في شباط فبراير بأنه عانى من الحيرة نفسها قبل 11/9، وقال: "عندما اختفى عدو أميركا العظيم فجأة تساءل كثيرون عن الاتجاه الجديد لسياستنا الخارجية. وتكلمنا دوماً كعادتنا عن المشاكل على المدى البعيد والأزمات الاقليمية في انحاء العالم، لكن لم يكن هناك تهديد عالمي مباشر محدد تتفق عليه أي مجموعة من الخبراء"، مضيفاً: "كل هذا تغير منذ خمسة أشهر. العدو معروف، ودورنا الآن واضح".
وما كان يقوله تشيني، في شكل أكثر تماسكاً من رئيسه، هو ان الغاية الرئيسية لسياسة أميركا الخارجية هي مواجهة عدو ما، وقد برز في النهاية خلَف للاتحاد السوفياتي يستحق المواجهة، هو الارهاب الدولي.
لكن ادارة بوش لم تبد ذلك التركيز على الهدف الجديد الذي أشار اليه تشيني، بل ان بوش ومستشاريه استغلوا الدعم الشعبي الضخم اثر 11/9 للاستمرار في متابعة أهدافهم الأصلية، مثل التفوق النووي واطاحة صدام حسين، مضفين تبريراً جديداً على الهدف الأخير عندما اعتبروه جزءاً من الحرب على الارهاب.
وفي الشهور السابقة على 11/9 رأى رامسفيلد ومستشاروه أن لا حاجة الى اتفاق على الاسلحة الاستراتيجية، لأنها تستهلك الكثير من الوقت، وأن الحرب الباردة قد ولّت، والروس الآن اصدقاؤنا. لكن السبب الأقرب الى التصديق كان ذلك الذي ظهر في تقرير عن التخطيط النووي الأميركي أعده معهد للأبحاث ينتمي الى التيار المحافظ، وصدر متزامناً مع تنصيب الادارة الجديدة. وكان من بين واضعي التقرير ستيفن ج. هادلي وروبرت جي. جوزيف، مسؤولا التخطيط النووي في مجلس الأمن القومي حالياً، اضافة الى ستيفن جي. كامبون، الذي أصبح وزيراً مساعداً للدفاع لشؤون السياسة. واعتبر هؤلاء في تقريرهم أن الولايات المتحدة تواجه عالماً مليئاً بالتقلبات قد يكون أكثر خطراً مما كان عليه اثناء الحرب الباردة، وأن معاهدات السيطرة على السلاح النووي تعيق مرونة أميركا في تكييف قواتها النووية للتهديدات المقبلة. وكتبوا أن "واشنطن لا يمكنها ان تعرف اليوم اذا كانت روسيا، أو حتى الصين، ستكون طرفاً صديقاً أو محايداً أو عدواً أو شريكاً في تحالف معادٍ مستقبلاً".
والافتراض المضمر في التقرير ان وضع العالم هو الذي تصوّره الفيلسوف توماس هوبز، حيث لا مجال لتطابق المصالح الوطنية بين الدول، ولا ضمان لأمن الولايات المتحدة سوى من طريق استقلاليتها المطلقة في القرار وتفوقها العسكري الشامل.
تحديد العدو
في كانون الثاني يناير من هذه السنة، أكملت وزارة الدفاع الأميركية تقريرها المعنون "مراجعة الوضعية النووية"، وعندما تكلم ج. د. كراوتش الى الصحافيين عن هذه الوثيقة التي لا تزال تعتبر سرية بدا من الواضح ان سياسة الادارة تجاه السلاح النووي مستمدة من تقرير معهد الأبحاث. فقد قال كراوتش: "أمامنا وضع قد تجد الولايات المتحدة نفسها فيه تواجه خصوماً محتملين عديدين، لكننا لسنا متأكدين من هم".
وفي تموز يوليو الماضي أدلى رامسفيلد بشهادة أمام الكونغرس تكلم فيها عن احتمال "البروز المفاجئ لمنافس قوي يعادل الاتحاد السوفياتي القديم"، وقال لاحقاً: "نحن ندخل مرحلة من المفاجآت والشكوك، حيث سيكون البروز المفاجئ لتهديدات غير متوقعة سمة معتادة في بيئتنا الأمنية". وأضاف وكأنه يحاول البرهنة على رأيه: "لقد فوجئنا في 11/9، وليس لأحد ان يشك في أننا سنفاجأ مرة أخرى".
وفي مقال نشره في "فورين أفيرز" عاد ليلحظ الدفاع عن موجودات الولايات المتحدة في الفضاء، والقدرة القتالية تحت سطح البحار، والدفاع الصاروخي. وكتب: "التحدي أمامنا هو الدفاع عن أمتنا ضد المجهول والغامض وغير المرئي وغير المتوقع".
الشرق الأوسط والعراق
في أواسط آذار مارس اتجه تشيني في رحلة الى الشرق الأوسط للحصول على دعم لحملة أميركا الهادفة الى تدمير نظام صدام حسين. وكانت القوات الأميركية وقتها لا تزال منشغلة بأفغانستان، فيما وصل الصراع الاسرائيلي - الفلسطيني الى مستوى لا سابق له من الضراوة. وأبلغه الزعماء العرب الذين زارهم أن هجوماً أميركياً على العراق في ظروف كهذه سيُعتبر حرباً بين الغرب والاسلام. بعد ذلك بأسبوعين أعلن ولي العهد السعودي الأمير عبدالله والقادة العرب الآخرون في القمة العربية في بيروت أن الهجوم على العراق يشكل خطراً على الأمن الوطني لكل الدول العربية. وقدموا في الوقت نفسه خطة للسلام تضمنت، للمرة الأولى، التوصل الى تطبيع كامل للعلاقات مع اسرائيل. وأخبر الأمير عبدالله الرئيس بوش انه سيضغط على ياسر عرفات اذا ضغط بوش على ارييل شارون للعمل على التوصل الى اتفاق. واعتبر كولن باول العرض السعودي مشجعاً، ودعمه بوش في خطاب في 4 نيسان ابريل، لكن المسؤولين الآخرين خالفوهما الرأي. وعندما ذهب باول الى الشرق الأوسط بناء على طلب من بوش تجاهله شارون. وفي النقاش داخل الادارة حاجّ تشيني ورامسفيلد بأن على اميركا الثبات على مبدئها في محاربة الارهاب، وان ذلك يعني دعم شارون، مثلما دعمته منذ تسلم بوش المنصب.
وأعلن الرئيس ومسؤولون آخرون أن من الضروري اسقاط صدام حسين بسبب روابطه بالارهاب وتطويره أسلحة الدمار الشامل. لكنهم لم يوضحوا حتى الآن السبب في اعطاء وضع العراق الأولوية على مصادر التهديد الأخرى للأمن القومي.
ولم يربط بوش بين تخطيطه للحرب على العراق وانسحابه من عملية السلام في الشرق الأوسط، عدا القول إن "الوضوح الأخلاقي" يتطلب الهجوم على الارهاب بكل أنواعه. ويبرز صدام حسين في الخطاب الذي يستعمله بوش على انه يشكل خطراً على الولايات المتحدة. لكن رامسفيلد وولفوويتز، قبل سنوات من تسلم بوش السلطة، كانا يدعوان الى اسقاط صدام لما يمثله من خطر على الصعيد الاقليمي، خصوصاً على اسرائيل. وفي 1998 وجه الاثنان، بالاشتراك مع الشخصية البارزة من تيار المحافظين الجدد وليام كريستول وآخرين مرتبطين ب"مشروع القرن الجديد" الذي يقوده، رسالة الى الرئيس بيل كلينتون تحذر من أن حصول صدام حسين على وسائل ايصال أسلحة الدمار الشامل يشكل خطراً على القوات الأميركية في المنطقة، وعلى اسرائيل والدول العربية المعتدلة، وأيضا على امدادات النفط.
وبعد أربعة أشهر وجهوا رسالة الى قادة الجمهوريين في الكونغرس تحذر من أن صدام عند حصوله على هذه الأسلحة سيتمكن من ابتزاز "اصدقائنا وحلفائنا في الشرق الأوسط وأوروبا"، وان ذلك سيجعله "القوة المحركة لسياسة الشرق الأوسط، بما فيها قضايا مهمة كعملية السلام". ولم يكن في الرسالتين أي ذكر للارهاب أو القول بأن صدام يشكل خطراً على الولايات المتحدة.
وفي ندوة مفتوحة عقدها "معهد واشنطن" في حزيران يونيو أضفى ولفوفيتز شيئاً من الوضوح على رأيه في العلاقة بين صدام وعملية السلام، اذ رأى ان غزو بوش الأب للعراق لم يحل دون نشوب حرب نووية بين العراق واسرائيل فحسب، بل أيضاً "أجبر ياسر عرفات على السير نحو السلام بعد زوال خيارات أكثر راديكالية مثل العراق". وأضاف: "لقد فشل احتواء العراق، وعلى الولايات المتحدة التعجيل بنهاية صدام اذا كانت فعلاً تريد مساعدة عملية السلام".
لم يخطئ ولفوفيتز حين قال ان عرفات أصبح أكثر مرونة بعد حرب الخليج، لكنه أغفل عدداً من الحقائق. أولاً، الدول العربية المعتدلة كانت هي من أراد مؤتمراً للسلام، فيما عارض ذلك رئيس وزراء اسرائيل اسحق شامير. ثانياً، لم يكتف بوش الأب بالضغط على شامير للمشاركة في مفاوضات السلام لكي يبرهن للفلسطينيين على جديته، بل طالب الاسرائيليين بالحد من النشاط الاستيطاني في الضفة الغربية. وما يوحي اليه ولفوفيتز عندما يغفل هذا التاريخ هو ان اطاحة صدام ستمكن اسرائيل من اختيار السلام الذي تريد مع الفلسطينيين.
ويواصل وليام كريستول وزملاؤه خارج الادارة منذ 11/9 حض الرئيس على اعتبار قتال اسرائيل ضد الارهاب معركة أميركا نفسها، وكذلك على الهجوم على صدام حسين. وفي 15 نيسان كتب كريستول وروبرت كاغان مقالاً طالبا فيه بوش بالتخلي عن دور الوسيط في عملية السلام وتركيز الجهد على العراق، لأن "الطريق الى الأمن الحقيقي والسلام يمرّ عبر بغداد". والظاهر ان هذا لم يكن رأيهما وحدهما، فقد قال مسؤول اسرائيلي كبير لصحيفة "هآرتس" في لقاء عن خلفيات الوضع في واشنطن، إن مسؤولي البنتاغون يضغطون على البيت الأبيض لكي يقرر اسقاط صدام حسين قبل العودة الى عملية السلام، اعتقاداً منهم بأن التغيير في العراق سيؤثر في الشرق الأوسط كله. ويواصل المسؤولون الاسرائيليون، ومنهم ارييل شارون وشمعون بيريز، منذ ذلك الحين المطالبة بالهجوم على العراق في أقرب وقت ممكن.
الحرب في العراق
ولا يزال النقاش حول العراق في بدايته. وفي جلسات الاستماع التي عقدها الكونغرس حذّر خبراء من خارج الادارة من أن الحرب قد تطلق ثورة فلسطينية في الأردن وانتفاضات في أمكنة أخرى في الشرق الأوسط، اضافة الى تهديدها لامدادات النفط واحتمال هجمات ارهابية على الأميركيين. كما حذر خبراء غيرهم من أن اسقاط صدام سيضطر القوات الأميركية الى البقاء في العراق عدداً من السنين والقيام بأكبر عملية "لبناء الأمم" منذ تلك التي قام بها الجنرال ماك ارثر في اليابان. وفي آب أغسطس قال سكوكروفت، الذي التزم أكثر ما يمكن من اللياقة عند الكلام عن سياسات الادارة، إن الهجوم على العراق "قد يحول الشرق الأوسط الى مرجل". ثم حذر من الخطر الجسيم الذي ينطوي عليه الهجوم، معتبراً أن صدام عندما لا يبقى له ما يخسره قد يستعمل أسلحة الدمار الشامل ويهاجم اسرائيل، مضيفاً: "لكن النقطة الرئيسية والمؤكدة هي أن أي حملة على العراق، بغض النظر عن استراتيجيتها وكلفتها ومخاطرها، ستشغلنا فترة غير منظورة عن الحرب على الارهاب. الأسوأ ان هناك ما يشبه الاجماع العالمي ضد الهجوم ... واذا استمر هذا الموقف ستضطر الولايات المتحدة الى العمل في شكل شبه منفرد، ما يجعل العمليات العسكرية أكثر صعوبة وكلفة. الا ان الخسارة الأخطر ستكون في مجال الحرب على الارهاب". لكن النتائج الأبشع، كما مضى، قد تكون تأثيرات الحرب على المنطقة. فاذا بدا أن الولايات المتحدة تتجاهل الصراع الاسرائيلي - الفلسطيني المرير لكي تركز على العراق "سيتفجر الغضب ضدنا".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.