كانت اسرائيل منذ نشأتها هدفاً مفضلاً للاستخبارات السوفياتية. وفي سنة 1970 ارسل الاتحاد السوفياتي اليها ألوف الجواسيس المدربين، دسهم بين صفوف المهاجرين اليهود الى الدولة العبرية. واستقبلتهم الاستخبارات الاسرائيلية بأذرع مفتوحة. وفي الوقت نفسه اقامت اسرائيل شبكة جواسيس لها في روسيا. فما هو مصير هؤلاء الجواسيس ؟ وهل ما زالت هناك حاجة لهم؟ في آخر استطلاع رأي نشر في اسرائيل حول الانتخابات النيابية المقبلة، جرى تخصيص فصل خاص لمواقف اليهود القادمين من روسيا ودول رابطة الشعوب المستقلة الاتحاد السوفياتي سابقاً. فتبين ان المظاهر اليمينية التي تجلت في مواقفهم في انتخابات 1999، تعمقت وزادت حدة. اذ انهارت نسبة التأييد لحزب العمل من 24 في المئة سنة 1999 الى 8 في المئة. وانقرض حزب "ميرتس" اليساري في صفوفهم حصل على 2.5 في المئة عام 1999 ولم يحصل على شيء في هذا الاستطلاع. وارتفعت نسبة تأييد ليكود الى 34 في المئة بقية الاصوات ستذهب، حسب هذا الاستطلاع، الى الاحزاب الروسية التي ستخوض المعركة بثلاثة احزاب كما يبدو. وكالعادة، حاولوا معرفة سبب هذا التطرف. فوجدوا ان هناك اسباباً عدة منها "عقدة اليسار" التي حملوها معهم من روسيا. فهم يكرهون الشيوعية، ويربطون بها كل ما هو يساري. ولما كان انصار السلام الاسرائيليون محسوبين على اليسار، فإن اليهود الروس يقفون مع القوى التي ترفض السلام وبالتالي اليسار. وهم غاضبون على السلطة الفلسطينية بسبب العملية التفجيرية امام النادي الليلي على شاطئ "الدولفيناريوم" في تل ابيب، والتي قتل فيها 22 شاباً وفتاة من اليهود الروس. ويصدقون ان السلطة الفلسطينية، وعلى رأسها ياسر عرفات، تؤيد هذه العمليات وتشجعها. لكن هناك سبباً آخر يقولونه بصوت عال هو: الصداقة الحميمة التي تربط بين رئيس الوزراء، ارييل شارون، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين. فقد زار شارون الكرملين مرتين في هذه السنة. وهذه سابقة في تاريخ العلاقات بين البلدين. لكن المسألة لا تقتصر على "عدد الزيارات" و"حرارة الاستقبالات" فحسب انما تتخذ بعداً عميقاً واستراتيجياً ايضاً، جانب منها معروف، ويتكلم الاسرائيليون عنه بشكل مكشوف وهو: المطلب الملح بوقف صفقات الاسلحة غير التقليدية بين روسيا وبعض الدول العربية والاسلامية ايران، سورية، العراق وغيرها. والمطلب الروسي بالحصول على مساعدات اسرائيلية مالية وعسكرية تحديث اسلحة قديمة. إلا أن هناك قضية اخرى لا يتحدثون عنها كثيراً، وهي قضية "الجواسيس الروس في اسرائيل"، هؤلاء الذين يبلغ عددهم عدة آلاف من سكان اسرائيل، لا يعرف مصيرهم بالضبط. كم ضُبط منهم بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وانكشاف الوثائق الداخلية لجهاز "كي. جي. بي" التي راح يعبث بها من يشاء؟ وهل حوكموا او طردوا او صدر عنهم عفو؟ وكم عدد الناجين "ولم يحترقوا" حسب لغة الاستخبارات وما زالوا يعملون؟ وماذا عن الجواسيس في الاتجاه المعاكس، الروس الذي يتجسسون لمصلحة اسرائيل؟ هذه القضايا كلها تعالج تحت نار هادئة وفي قنوات بالغة السرية. ولكن مما لا شك فيه انها مثل غيرها من القضايا المطروحة على بساط البحث بين البلدين، تعالج بأجواء من الودية الحميمة، خصوصاً منذ وصول شارون الى الحكم واعتباره الرئيس بوتين صديقاً شخصياً له. اذ يتكلم معه بالروسية مباشرة وبلا مترجمين. وكثيرون من محبي الاستطلاع يرغبون في معرفة قصة هؤلاء الجواسيس ومصيرهم. وكيف تنتهي او لا تنتهي. البداية الجاسوسية كما هو معروف، نوع من الخصومة المتفق عليها بين الدول. فكل دولة تعرف انها تتعرض للتجسس، بمختلف انواعه سياسي، أمني، اقتصادي، علمي من دول اخرى، لأنها هي نفسها تكون انشأت جهازاً للتجسس على تلك الدول. والدفاع عن النفس في وجه التجسس بات نظاماً اساسياً في حياة الدول. لكن مستوى الرغبة في التجسس بين اسرائيل وروسيا الاتحاد السوفياتي سابقاً كان أعلى من أية رغبة لأي تجسس في العالم، باستثناء ذلك التجسس الصاخب بينها وبين الولاياتالمتحدة. فاسرائيل أرادت من روسيا الكثير: موقفها من الدول العربية، مستوى دعمها العسكري والسياسي والاقتصادي لهذه الدول، العرب المتواجدون بكثرة في روسيا خصوصاً أولئك الذين يتلقون التدريب العسكري على الاسلحة ووسائل القتال الروسية اليهود الروس واوضاعهم المعيشية وتوجههم لاسرائيل ومن يخدم السلطة السوفياتية ومن يتمسك بصهيونيته او بيهوديته ويريد الهجرة الى اسرائيل. وقد اقامت الاستخبارات الاسرائيلية جهازاً خاصاً للعمل في روسيا من اجل تلك الاهداف وغيرها يدعى "نتيف"، تابع لمكتب رئيس الحكومة مباشرة، مثل "الموساد" الاستخبارات العاملة في الخارج "والشاباك" الاستخبارات العاملة في اسرائيل وداخل المناطق الفلسطينية نشاطه سرّي للغاية، وموازنته مفتوحة، ونفوذه كبير. في المقابل، أرادت روسيا الاتحاد السوفياتي أولاً بالطبع في البداية درس توجه القيادة الاسرائيلية الايديولوجي، وهل هي اشتراكية كما تدعي أم لا؟ وما هو امكان التعاون في مواجهة "الامبرياليات الاميركية والبريطانية والفرنسية في الشرق الاوسط". وفي الواقع أرادت موسكو معرفة حقيقة الخطط العسكرية الاسرائيلية بعيد قيام الدولة العبرية، حيث ان حكومتها بزعامة دافيد بن غوريون طلبت كميات هائلة من الاسلحة الروسية وفي الوقت نفسه حاولت الحصول على اسلحة من دول اخرى في الغرب، فأرادت موسكو بالطبع ان يكون لها نفوذ داخل المؤسسة الاسرائيلية بأي ثمن، خصوصاً كي تقف على انواع الاسلحة الاميركية المتطورة التي في حوزة اسرائيل. من جهتها استغلت اسرائيل يهود الاتحاد السوفياتي، فحاولت غرس روح اليهودية ثم الصهيونية فيهم وتغليبها على روحهم الوطنية. والاتحاد السوفياتي من جهته حاول استغلال المجموعة نفسها، مركزاً على الشيوعيين منهم وعلى المحاربين في صفوف الجيش الاحمر، خصوصاً أولئك الذين قاتلوا ضد النازية ابان الحرب العالمية الثانية. ويمكن القول ان الطرفين نجحا في تحقيق انجازات في المهمات التي وضعها كل منهما لنفسه. واصبح لكل منهما جيش من الجواسيس يعمل لدى الطرف الآخر. ولعل الهجرة اليهودية الواسعة من دول الاتحاد السوفياتي، خصوصاً في سنة 1970 عندما اقنع وزير الخارجية الاميركي هنري كيسنجر، ثم الرئيس الاميركي رونالد ريغان الزعيم السوفياتي ليونيد بريجنيف بالسماح لعشرات ألوف اليهود بالهجرة الى اسرائيل. ثم في سنة 1989، في عهد الانفتاح والبيريسترويكا ابان حكم ميخائيل غورباتشوف، عندما هاجر مئات الألوف خلال عقد واحد. ووصل عدد اليهود من اصل روسي في اسرائيل الى حوالي 1.5 مليون نسمة 1.1 مليون منهم وصلوا خلال فترة 1989- 2001. وبفضل انهيار الاتحاد السوفياتي والصداقة الاسرائيلية - الروسية ابان الحكومات الجديدة تقلص نشاط "الموساد" هناك بشكل جدي، الى درجة ان الحكومة الاسرائيلية قررت الغاء تنظيمها في روسيا "نتيف" الذي لم يعد سرياً. واصبح اهتمامها الاساسي منصباً على التسليح الروسي للدول العربية وايران والخوف من نقل اسلحة غير تقليدية او خبرات متطورة في انتاج السلاح النووي والكيماوي. أما روسيا، فأعادت تنظيم جهاز مخبريها بعدما احترق كثيرون من عملائها في عهد الانفتاح. ومع انها قلصت هذا الجهاز لأسباب داخلية وضيقت مساحة اهتمامها باسرائيل، إلا انها بقيت حريصة على معرفة مدى القدرات العسكرية للدولة العبرية ومراقبة تطورها واهدافها. وعلى رغم الصداقة الحميمة بين بوتين وشارون، فإن روسيا تتابع بشيء من القلق الخطط العسكرية الاسرائيلية تجاه العراقوايران وسورية ولبنان، وتتابع بقلق اكبر العلاقات المتطورة بوتائر سريعة بين اسرائيل وعدد من دول رابطة الشعوب المستقلة في القوقاز وغيره اذربيجان وتركمانستان وجورجيا وطاجيكستان وغيرها. ويقول اوليغ غورديفسكي، أحد أكبر وأهم الجواسيس لمصلحة الغرب في روسيا، الذي خدم 12 سنة متواصلة وارسل خلالها عشرة آلاف تقرير تضمنت حوالي مئة الف ورقة، ان اسرائيل كانت وما زالت من اهم اهداف الاستخبارات الروسية: "لقد أرسلوا لإسرائيل ألوف الاشخاص المدربين على الجاسوسية. بعضهم بدأ يعمل علناً، وآخرون كانوا "طاقة نائمة" اي لم يكونوا فعالين لفترة طويلة. وتم تفعيلهم بعد سنوات من وصولهم الى اسرائيل، كما خطط لهم. وبعض هؤلاء يهود. لكن بينهم كثيرون من غير اليهود، وبعضهم درس الدين اليهودي جيداً وكذلك الاوضاع في اسرائيل حتى يتمكن من الظهور كيهودي". لقد استطاع الجواسيس الروس وغيرهم نقل معلومات ضخمة عن اسرائيل الى الاتحاد السوفياتي ثم الى روسيا، فعلى سبيل المثال نقلوا كل اسرار مصانع الاسلحة الكيماوية القائمة في بلدة نس - تسيونه اليهودية الى مشارف النقب، اي على مقربة من المفاعل النووي في ديمونة. ومصانع نس - تسيونه أُقيمت قبل المفاعل النووي بسنوات تحديداً في سنة 1952 وما زالت تعمل حتى الآن. وقد كشف النقاب عنها بشكل علني سنة 1997 في عهد حكومة بنيامين نتانياهو، وذلك بالصدفة، عندما شكا سكان المنطقة من دفن النفايات الكيماوية في الارض واحتجوا على ان هذه المصانع تلوث البيئة وتسبب الامراض. بيد ان موسكو كانت على علم بكل اخبار ونشاطات هذه المصانع منذ السنوات الاولى لإنشائها وتتبعتها خطوة خطوة، بعدما قامت بتجنيد نائب المدير العام للمصانع والمسؤول الاول عن اجازة الابحاث العملية فيه، البروفسور ماركوس كلينبرغ، ليعمل في "كا.جي.بي". الدفاع الاسرائيلي لقد كانت الاستخبارات الاسرائيلية مدركة لخطر ارسال جواسيس الى اسرائيل، يندسون في صفوف القادمين الجدد من روسيا، مثلما كانت واعية لهذا الخطر في صفوف القادمين اليهود من الدول العربية ايضاً. لذلك كانت الاستخبارات الاسرائيلية تعقد جلسات تحقيق مع مهاجرين معينين للوقوف على تفاصيل حياتهم ونشاطاتهم، وجمعت معلومات كثيرة عن كل من تشتبه بهم. لكن لم يدر في خلد الاستخبارات الاسرائيلية ان عدد الجواسيس يقدر بالآلاف وليس بالمئات. لذلك وقعت في المصيدة الروسية في كثير من الحالات. لكنها ظلت تحاول الكشف عنهم وغسل دماغهم بطرق غير مباشرة وتشجيعهم على قطع العلاقات مع الاستخبارات الروسية، من خلال محاضرات جماعية وفردية عن هذا الموضوع. وتقول لهم "اذا كان احدكم تورط مع الاستخبارات الروسية، فمن الأفضل ان يقول الآن حتى نصحح الخطأ ان امكن. فإذا فعل نرجوه ان يوقف هذه العلاقة حتى لا يتورط في قضايا امنية شائكة فيصبح ذنبه مضاعفاً". وعندما انهار الاتحاد السوفياتي ووقعت شروخ في مؤسساته، بما في ذلك الاستخبارات، تم اكتشاف المزيد من الجواسيس لمصلحة روسيا في اسرائيل، بعد وصول قوائم طويلة بأسمائهم، فجرى اعتقالهم والتحقيق معهم، الا ان اسرائيل استفادت من عدد منهم فاستخدمتهم "جواسيس مزدوجين"، يخدمون اسرائيل ويوصلون الى الروس فقط المعلومات التي تريدها الاستخبارات الاسرائيلية. وفي اطار العلاقات المميزة مع روسيا، تم الاتفاق مبدئياً على التعامل معهم بمرونة. فكثيرون منهم لم يقدموا الى المحاكمة. وبعضهم حصل على عفو. وتم وضعهم تحت الرقابة برضاهم التام. ومعظمهم خرج من دائرة الرقابة بعد ان أثبت ولاءه واخلاصه. واعتبر هذا الموقف الاسرائيلي بمثابة "مصالحة" مع الروس، توصل اليها شارون في زيارته الاولى للكرملين. وبموجبها تقرر طي صحفة الماضي وفتح صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين في هذا المجال، مبنية على التعاون الوثيق بين استخبارات البلدين. وتطور هذا التعاون بشكل خاص بعد احداث 11 ايلول سبتمبر، حيث قامت اسرائيل بتزويد الروس بمعلومات حساسة ومهمة عن تنظيمات الشيشان الذين يحاربون من اجل الاستقلال عن روسيا و"باعت" روسيا خبراتها الواسعة في مطاردة التنظيمات السرية. واطلعتها على تفاصيل كثيرة تتعلق بالحرب الاسرائيلية على التنظيمات العسكرية السرية في فلسطين. ونشرت في موسكو وتل ابيب معلومات سنة 1997، تقول ان اسرائيل كشفت مخططاً لاغتيال الرئيس بوريس يلتسن آنذاك. وسلمت كل المعلومات للاستخبارات في موسكو. وأمام هذا التطور في العلاقات بين البلدين، كان من الطبيعي ان تنتفي الحاجة إلى جيش كبير من الجواسيس الروس في اسرائيل