في موسكو برهن رئيس الوزراء الاسرائيلي مجدداً ان عداءه للحقيقة اصيل، واثبت ان السلام بالنسبة اليه كما القُماشة الحمراء للثور، واكد انه اكتسب لقب "البلدوزر" عن جدارة واستحقاق. فخلال الزيارة التي استغرقت ثلاثة ايام ارتكب ارييل شارون من الحماقات السياسية قدراً عطل الى حد ما جهوداً بذلها الموالون لاسرائيل في روسيا على امتداد اكثر من عشر سنين بهدف دفع موسكو نحو موقف منحاز لاسرائيل أو على الأقل غير منحاز للموضوعية. وبهذا المعنى، فإن شارون انجز ما عجز العرب عن تحقيقه. وقد مهد شارون للزيارة بحملة واسعة في الاعلام الروسي الذي يسيطر اليهود على اهم مفاتيحه، وحفلت تصريحاته كالعادة، بالأصناف المعروفة من الاكاذيب والمغالطات، واضيفت اليها نبرة من التغطرس والتعالي على روسيا وقيادتها. فهو أبدى "انزعاجه" من أداء الوفد الروسي في مجلس الأمن الدولي وطلب من موسكو ان تنضم اليه لمكافحة "الارهاب العربي والاسلامي" وطالبها بوقف التعاون العسكري مع ايران والعراق. وقد أحرجت هذه التصريحات قيادة روسيا التي يسكنها 20 مليون مسلم ولها علاقات تقليدية واسعة مع العرب ما دفع الرئيس فلاديمير بوتين الى تذكير ضيفه بالحدود التي لا ينبغي تجاوزها. والى ذلك، فإن الاسرائيليين حينما يطالبون بوقف التعامل العسكري مع ايران يدركون ان ذلك يعني خسارة 300 - 400 مليون دولار سنوياً هي قيمة المبيعات الروسية من الأسلحة، في حين ان كل الميزان التجاري مع اسرائيل كان الى قبل سنة واحدة لا يتعدى 500 مليون دولار. كما استاءت موسكو من إلحاح شارون على عقد مقارنة بين الحالتين الشيشانية والفلسطينية، ما دفع وزارة الخارجية الروسية الى إصدار توضيح يؤكد وجود اجماع دولي على ان الشيشان جزء من روسيا في حين ان الأراضي الفلسطينية هي مناطق محتلة وبالتالي فإن التعامل معها يتم في ضوء القوانين الدولية. وقد تحدث شارون خلال المحادثات الرسمية عن دور الاتحاد السوفياتي في مقارعة النازية وعن الروابط الحضارية والثقافية مع روسيا، لكنه لم ينبس بحرف واحد عن دور لموسكو في الشرق الأوسط، بل ان ديبلوماسيين مطلعين اكدوا انه طلب من روسيا ان تلتزم، سلفاً، بالصمت في حال قيامه بعملية عسكرية واسعة ضد الفلسطينيين. ولم تنته الحماقات عند هذا الحد، اذ ان رئيس وزراء دولة تعداد سكانها ستة ملايين نسمة تواقح فألغى لقاء مع رئيس البرلمان في دولة نووية وعضو دائم في مجلس الأمن، كما ألغى مقابلة مع بطريرك عموم روسيا الذي يعد من أبرز زعماء الارثوذكس في العالم. ولم يقدم الاسرائيليون توضيحاً رسمياً واكتفوا بالإشارة الى ان شارون "مشغول" بمتابعة الوضع في اسرائيل على رغم انه وجد ما يكفي من الوقت لحضور ثلاث جلسات مطولة مع أعيان الجالية اليهودية لكي يطالبهم بالانتقال السريع الى اسرائيل لأنها "بحاجة الى مليون مهاجر" ولكي يدعوهم الى استثمار أموالهم في الدولة العبرية بينما روسيا تستجدي القروض من الخارج. وبذا فإن شارون لم يخف رغبته في استنزاف روسيا وامتهان رموزها، وثمة دلائل على ان اللقاء مع البطريرك ألغي لأن الأخير كان احتج على منع الحجاج الارثوذكس من الوصول الى الأماكن المقدسة خصوصاً في بيت لحم. ولم يشأ رئيس الوزراء الاسرائيلي الاستماع الى آراء رئيس الدوما غينادي سيليزينوف المنتمي الى جبهة القوى اليسارية المطالبة بتنفيذ قرارات مجلس الأمن والرافضة لتبؤ اسرائيل موقعاً فوق الشرعية الدولية.وبهدف التغطية على الفضائح عقد شارون عشية مغادرته موسكو لقاءات صحافية اكد خلالها "نجاح" الزيارة وقال انه اتفق مع القيادة الروسية على قضايا كثيرة بينها تشكيل لجنة "مكافحة الارهاب". الا ان مصادر في وزارة الخارجية الروسية نفت بشدة تشكيل مثل هذه اللجنة على رغم ان موسكو لا تنفي احتمال تبادل معلومات ذات طابع أمني ضمن الأطر المتعارف عليها في التعامل مع دول عدة بينها الكثير من البلدان العربية. وباستثناء هذا "الإنجاز" فإن الزيارة الشارونية قد تحدث فجوة في العلاقات الروسية - الاسرائيلية التي بدا انها تسير نحو ما يشبه الشراكة. وهذا لا يعني ان موسكو ستعود الى مواقع غادرتها منذ خمس عشرة سنة، اذ لا شك ان اللوبي اليهودي ما برح متنفذاً للغاية في روسيا وسيبذل قصارى الجهود من أجل "تصحيح" الوضع. غير ان شارون وفرّ للعرب فرصة ذهبية، اذ صار في امكانهم توسيع الثغرة والانفتاح اقتصادياً وسياسياً على روسيا التي لا تزال، رغم ضعفها دولة نووية كبرى وعضواً دائماً في مجلس الأمن.