اضاف الحكم القضائي بسجن ضابط المخابرات المتقاعد احمد البخاري غموضاً جديداً حول قضيته التي عاش المغاربة والعرب على ايقاعها طوال الصيف. وكان البخاري، الذي كشف في بداية الصيف تفاصيل جديدة عن اغتيال المعارض المغربي المهدي بن بركة، قد حكم عليه اخيراً في قضية اصدار شيكات من دون رصيد بما مجموعه 18 ألف دولار، بالسجن عاماً ودفع غرامة تصل الى 35 ألف دولار. وكان قد نشب جدل حول قضية الشيكات داخل المحكمة، اذ ان بعض تلك الشيكات سبق ان لوحق البخاري وحُكم عليه بسببها بالسجن وهو ما جعل محاميه عبدالرحيم الجامعي يقول ان الهدف من محاكمة موكله صرف انتباه الرأي العام المغربي، وعزا ذلك الى "تلاعب سياسي من جانب اجهزة المخابرات". واضاف ان المحكمة تركت الموضوع الاساسي، وهو ما كشف عنه البخاري في شأن اغتيال بن بركة واختطاف وتصفية معارضين ومتابعته التهم بقضية لا قيمة لها. وعلى رغم ان "قضية البخاري" كما باتت تعرف في المغرب لا تزال تطرح اسئلة معلقة، فإن ما أمكن جمعه من معلومات يتيح اثارة بعض الافتراضات: بدأ موضوع البخاري بحوارين مع صحيفة "لوموند" الفرنسية، واسبوعية "لوجورنال" الفرنسية التي تصدر في الدار البيضاء، كشف فيهما ما اعتبره تفاصيل الساعات الاخيرة في حياة بن بركة الذي كان ابرز معارضي حكومة العاهل المغربي الراحل الملك الحسن الثاني في الستينات. وشرح البخاري الطريقة التي تم فيها اختطاف بن بركة، واتهم الجنرال محمد أوفقير وزير داخلية المغرب السابق الذي ظل يتمتع بنفوذ واسع حتى بداية السبعينات، والجنرال احمد الدليمي الذي كان يدير احد اهم اجهزة المخابرات المغربية حتى مطلع الثمانينات، اضافة الى قيادته للجيش المغربي في الصحراء. وكان الجديد الذي تحدث عنه البخاري اسلوب تعذيب بن بركة. وأفاد بأنه توفي نتيجة التعذيب، واثر حقنه بمادة مخدرة تمهيداً لنقله إلى الرباط بطائرة عسكرية. وذكر ان جثة الزعيم الحزبي الراحل نقلت الى ضاحية السويسي في الرباط حيث تمت اذابتها في حوض مليء بحامض كيماوي، لتختفي معالم الاختطاف والاغتيال الى الابد. وبعد نشر رواية البخاري حول تصفية بن بركة، التي قال انه ألمّ بها من خلال عمله في جهاز الاستخبارات الذي كان يعرف باسم "كاب - 1" وكان مكلفاً تسيير مقسم الهاتف الخاص بالجهاز في الرباط، واستمع الى كل المكالمات الهاتفية المتعلقة بالعملية التي اطلق عليها الاسم الحركي "بويا البشير"، اضافة الى معلومات اخرى حصل عليها من زملائه في المخابرات، ذكر ان بعضهم حضر تعذيب بن بركة داخل فيلا في احدى ضواحي باريس. وقال البخاري ان بن بركة عُلّق على حبل بعدما رفض الاجابة عن اسئلة الدليمي، وأُبقي متدلياً من السقف وكان يُضرب اثناء ذلك ضرباً مبرحاً على ايدي الدليمي وفرنسيين استؤجروا لهذا الغرض. وذكر البخاري ان أوفقير قام بتمزيق صدر بن بركة بخنجر. وساد اعتقاد في المغرب بأن "رواية البخاري" هي الأقرب الى الحقيقة، وبأن "لوموند" ما كانت ستنشرها لو لم تتأكد مما ورد فيها. ولكن هل تحدث البخاري بمبادرة منه، ل"إراحة ضميره" كما قال! ام ان جهة ما دفعته الى الحديث بهدف اغلاق ملف بن بركة في عهد اغلقت فيه الملفات العالقة، وشهد تحسناً غير مسبوق في مجال الحريات واحترام حقوق الانسان؟ يرى بعض المصادر انه لا يمكن ان يكون ترتيب مقابلة صحافية مع البخاري، تنشر في اليوم نفسه على صفحات "لوموند" الفرنسية و"لوجورنال" المغربية أمراً عفوياً أو نتيجة اجتهاد صحافي قام به الصحافي ستيفان سميث المحرر في "لوموند" وأبو بكر لجامعي رئيس تحرير "لوجورنال". وطبقاً لما نشر، فإن البخاري بادر بالاتصال مع الصحيفتين، وبالتالي فإن "وقتاً كافياً" للتأكد من صدقية معلوماته كان متاحاً. ويرجح آخرون انه تم الايعاز للبخاري بالحديث لإسكات أصوات أخرى تعرف أكثر، ولوحظ ان البخاري لم يذكر مرة واحدة اسم ادريس البصري وزير الداخلية المغربي السابق الذي بقي نحو ربع قرن الشخصية الأوسع نفوذاً في المغرب حتى اقالته في تشرين الثاني نوفمبر 1999، اضافة الى ان أحد أهم اجهزة المخابرات في المغرب كان يعمل تحت أمرته. لكن يبدو ان البخاري "خرج عن النص" بعدما أصيب بداء الإسهاب في التصريح لوسائل اعلام داخل المغرب وخارجه، فراح يتحدث عن معرفته بتفاصيل عمليات اختطاف معارضين آخرين وتعذيبهم، وعن "مقبرة جماعية"، ذكر ان متظاهرين ضد النظام في آذار مارس 1965 في الدار البيضاء دفنوا فيها. وهي أحداث قيل ان بن بركة أوحى بها وخطط لها لذلك تمت تصفيته. فقد اختطف في تشرين الأول اكتوبر من السنة نفسها. وتأكد ان البخاري "خرج عن النص" حين بادر ثلاثة من ضباط المخابرات المتقاعدين الذين قيل ان لهم علاقة بعملية بن بركة برفع دعوى قذف وتشهير عليه. ولم تمض فترة قصيرة حتى وجد البخاري نفسه معتقلاً في قضية الشيكات التي أرسل بسببها الى السجن. ويرى محامو البخاري وجمعيات حقوقية وناشطون في حقوق الانسان ان الغرض اسكات البخاري بإرساله الى السجن، حتى لا يستمع قاضي التحقيق الفرنسي لإفادته في ايلول سبتمبر الجاري حسبما هو مقرر. وكان البخاري أعلن استعداده للمثول امام قاضي التحقيق الفرنسي المكلف ملف بن بركة. اما التفسير الثاني فيذهب الى انه قام بما طلب منه ولا داعي لبقائه طليقاً "يثرثر" مع صحافيين يرغبون في كتابة أي شيء عنه طالما ان "قصصه" أضحت مقروءة. وثمة تفسير آخر يذهب الى ان زج البخاري في السجن يعني ارساله الى غياهب النسيان، وحمايته تالياً من احتمالات الانتقام في حرب صعبة للغاية هي حرب اجهزة الاستخبارات مسار "مهني" غامض وشيكات "طائرة" بلا عدد التحق احمد البخاري بجهاز الشرطة في كانون اول ديسمبر عام 1957، أي بعد أكثر من عام من استقلال المغرب. وعمل في مدينة مراكش في السنة التالية وهناك سيتلقى انذاراً كما يقول سجل عمله، بسبب "عدم الانضباط". من مراكش انتقل الى الدار البيضاء حيث تلقى من جديد انذاراً اذ وجهت له "تهمة الاخلال بالواجب المهني". وفي السنة نفسها تلقى "توبيخاً" بسبب تغيبه عن العمل وبعد ستة أشهر من تلك الواقعة فصل من الشرطة بعدما وجهت له تهمة ترك عمله من دون اذن. لكن البخاري سيعاد توظيفه من جديد في تشرين الأول اكتوبر و هذه المرة في جهاز المخابرات الذي كان يعرف باسم "كاب 1" وهنا تطرح علامات استفهام حول المسار المهني للبخاري. اذاً من الواضح ان هناك ثغرة في الموضوع، اذ كيف يتم تعيين رجل شرطة فصل من عمله في جهاز للمخابرات؟ وتقول اوساط مطلعة ان عملية فصل البخاري كانت للتمويه خصوصاً انه سيفصل من جديد في أيار مايو 1965 من جهاز المخابرات بعدما كان ترقى الى درجة مفتش شرطة صف ضابط، وكانت التهمة التي وجهت له آنذاك هي المشاجرة وهو في حالة سكر. وربما كانت عملية الفصل اقتضتها "مهمة ما" كلف بها. وسيقدم البخاري للمحكمة بتهمة المشاجرة عام 1965حيث حكمت عليه محكمة في الدار البيضاء بغرامة مالية في تشرين الثاني نوفمبر. وفي آذار مارس عام 1966 أعيد من جديد للعمل في جهاز المخابرات "كاب 1". عمل البخاري بعد ذلك في مدينة القنيطرة شمال الرباط. وفي عام 1970 أُوقف عن العمل وكان ترقى الى رتبة ضابط شرطة بعد ان وجهت له تهمة "الاخلال بواجبه الوظيفي "لكن بعد شهرين أُعيد من جديد للعمل. وفي آذار عام 1971 جرى فصله نهائياً من الأجهزة الأمنية. وليست هذه هي المرة الاولى التي يحكم فيها على البخاري بالسجن، فقد سبق وان حكم عليه عام 1978، وكان آنذاك أسس شركة تجارية صغيرة أفلست فسجن مع غرامة بتهمة اصدار شيكات من دون رصيد. ثم حكم عليه بسنة سجن عام 1998 بتهمة اصدار شيكات من دون رصيد، وهذا الحكم هو الذي استند عليه دفاع البخاري من أجل المطالبة بإسقاط الدعوى الاخيرة حيث صدر ضده حكم بالسجن من جديد قبل ايام بسنة سجن بتهمة اصدار شيكات من دون رصيد، وكان قد صدر ضده حكم بالسجن عام 1999 وهو ما يزال في السجن ينفذ العقوبة التي صدرت عام 1998، والتهمة دائماً اصدار شيكات من دون رصيد.