بعد ضغوط ديبلوماسية عنيفة انعقدت القمة الثانية الهادفة لمحاربة مرض الإيدز بإشراف الأممالمتحدة وبحضور 68 دولة بينها 11 دولة عربية، وانتهت بإعلان بيان عام يضع مرض العصر من ضمن اهتمامات الجمعية العمومية. غير أن عنف المناقشات التي خصصت لها ثلاثة أيام لتناول مختلف أوجه التصدي لهذا المرض، سلطت الأضواء على الشرخ الذي يفصل بين مختلف المجتمعات التي تشكل "القرية" العالمية، ونظرتها إلى المرض وطرق معالجته. ومثل العادة ركزت الصحافة العالمية على "المواجهة" بين "الدول الإسلامية-العربية والغرب" حول مفاهيم الحرية الإجتماعية وبالتالي حقوق الإنسان واختلاف قيم قياسها. وهذا يفسر الضغوط التي سبقت انعقاد القمة، والتي استمرت في أروقة الأممالمتحدة ووراء أبواب المسؤولين فيها للخروج ب"نص عالمي" يجعل معالجة الإيدز "مهمة عالمية". ويعود الاختلاف إلى خصوصية هذا المرض، وسبل "التقاط" الفيروس الذي يحمله، إضافة إلى "سمعته" التي ترافقه والتي لها وقع مختلف باختلاف المجتمعات. ومنذ مطلع الثمانينات وبداية موجة انتشار الإيدز التي بدأت في الدول الغربية والدول الصناعية المتقدمة، قبل أن تعود لترتد إلى الجنوب وتفتك بالالوف من سكان أفريقيا ان لم يكن بالملايين. وإذا وضعنا جانباً القصص الخيالية التي تنتشر بين الطبقات الشعبية في بعض البلدان ومنها ما يقول ان "الغرب وعلى رأسه أميركا أراد التخلص من فقراء أفريقيا، فأرسل هذا الفيروس ليبث مرضاً فتاكاً!"، فإن الاختلاف بين الشمال والجنوب يعود إلى اختلاف المعايير الاجتماعية بسبب اختلاف العادات والتقاليد، مما ينعكس على طرق التعاطي لمواجهة هذا المرض. ومن أبرز نقاط الخلاف بين الدول الإسلامية والعربية من جهة، تساندها بعض الدول المدعومة من الفاتيكان، والدول الأوروبية من جهة أخرى، هو تسليط الضوء على مثليي الجنس وضرورة انفتاح المجتمع على هذه المجموعة. وقد "اشتبك" ممثلو الدول الإسلامية والعربية مع ممثلي مجموعة من الدول منذ الاجتماع الأول بسبب حضور ممثل "المنظمة الدولية لحقوق الانسان للشاذين جنسياً"، اذ يرفض الفريق الأول حتى الإشارة إلى كلمة "شذوذ" لئلا يظهر أمام الرأي العام في بلاده، كمن يدعم الانفتاح على عادات غريبة يرفضها المجتمع المحافظ. بينما ترد الدول الغربية تحت سقف عدم التمييز العنصري والحرية الشخصية في اختيار نمط الحياة وحقوق الإنسان في حرية ممارسة حياته الجنسية وتقرير نوعية العلاقات الجنسية بين الأفراد. والواقع أن الفريقين يواجهان ضغوط قوية، فالرأي العام الأوروبي مع مفهومه الواسع للحرية، بات تحت تأثير مختلف اللوبيات وجماعات الضغط العاملة لرفع التمييز عن الشاذين، والتي بات يضرب لها ألف حساب خصوصاً في عالم السياسة، حتى أنها استطاعت إقرار الاعتراف بالشاذين جنسياً كعنصر بشري مستقل. وساهم هذا في تسهيل استعمال قوانين قمع العنصرية والتمييز العنصري الموجودة أصلاً لحماية عروق مضطهدة مثل مهاجري أفريقيا السوداء، وقبلهم اليهود ضمن حركة محاربة اللاسامية. ولم يتردد بعض المسؤولين الغربيين في التنديد بالتمييز العنصري الذي يصيب الافارقة والنساء والشاذين جنسياً. أما في الدول العربية والإسلامية فإن التعاطي الإعلامي مع هذه الظواهر الاجتماعية تحرج العديد من الحكومات فهي أولاً تتناقض مع عادات بلدانها، إضافة إلى أن مجرد البحث فيها يمكن أن يفسر بتسامح تجاه دعوات الأخذ بالتقاليد الغربية، وما يرافقها من اتهامات بالتسبب بالانحلال الأخلاقي للمجتمعات، قد تستغلها جهات كثيرة لأسباب بعيدة جداً عن الإيدز ومرضاه. ولكن التقاطع والتنافر بين الشمال الصناعي والثري والجنوب الفقير لا يتوقف على تحديد معايير اجتماعية فقط للمرض ولأسبابه، بل يتعداها إلى أساليب معالجة وباء العصر. فإذا كانت أولى ظواهر المرض قد تفشت في الدول الغربية، فإن الوضع الحالي يشير إلى أن القسم الأكبر منهم متواجد في أفريقيا السوداء 90 في المئة من 36 مليون مصاب حالياً. وفي حين أن عدد المرضى يتراجع في الدول المتقدمة لأسباب عدة منها المبالغ المالية الباهظة التي تنفقها الدول المعنية لمحاربة الوباء لدى المصابين في المراحل الأولى من مرضهم، وهذا ما تعجز عنه الدول الفقيرة، إضافة إلى انتشار التوعية والوقاية الصحية لدى المجموعات الشاذة. وهنا تتضح صورة ما يفرّق الشمال عن الجنوب، فإذا كانت الدول الغربية تستطيع تعميم أساليب الوقاية لأن المصابين من الفئات الشاذة لا يجدون ضيراً من التصريح بمرضهم وبالتالي من الحديث عن "انحرافهم"، فإن هذا الأمر يدخل في نطاق المحرمات في الدول المحافظة التي تتعارض هذه الانحرافات مع تقاليدها. لا بل أن الإحصاءات التي تقدمها المصادر الصحية في الدول الإسلامية تشوب الشكوك صحتها ومطابقتها للواقع، ذلك أن مفهوم الحرية الفردية في الدول التقليدية يختلف عما هو عليه في الدول الغربية. وتقدر الدكتورة السعودية ثريا عبيد المديرة التنفيذية لصندوق الأممالمتحدة للسكان عدد المصابين في الدول العربية بحوالي 400 ألف مصاب أي ما يعادل تقريباً 2 بالألف من عدد السكان. وفي حين يقول العديد من المسؤولين عن أمور الصحة أن السبب الرئيسي لإصابة هؤلاء بمرض الإيدز يعود الى تعاطي المخدرات بواسطة الحقن غير المطهرة أو الى علاقات "جنسية طبيعية" بين الرجال والنساء، فإنهم يتغاضون عن العلاقات الشاذة بين الأفراد. وإذا كان الخلاف بين الدول العربية والإسلامية والدول الغربية هو خلاف على القيم الإجتماعية، فإن الجميع متفق على أن الخطر الأكبر على البشرية يقع في القارة الأفريقية حيث ينتشر الوباء بسرعة. ففي بعض الدول تبلغ نسبة المصابين حوالي 40 في المئة من السكان! ويتوقع أن يذهب ضحية المرض حوالي 100 مليون شخص في السنوات العشرين المقبلة 90 في المئة منهم من أفريقيا! وتكمن المشكلة الرئيسية في أفريقيا في انعدام الإمكانات المالية الضرورية لمعالجة المصابين خصوصاً في المراحل الأولى من المرض حيث تكون هناك امكانية للشفاء. فحسب آخر دراسة تناولتها قمة الايدز فإن تكلفة معالجة المصاب بالمرض في مراحله الاولى تكلف حوالي 12 ألف دولار للشخص، في حين أن معدل مدخول الفرد في الدول المعنية 40 دولة أفريقية من أفقر دول العالم لا يتجاوز دولارات معدودة سنوياً! وهذا يطرح مسألة حق الدول الفقيرة في معالجة سكانها من الوباء في ظل إمكاناتها المحدودة ودور الدول الغنية في محاربة وباء يمكن أن يرتد ليصيب سكانها من جديد. وبعكس ما يتصور بعضهم فإن الأمر لا يتوقف على المساعدات على رغم ضخامة المبالغ المطلوبة والتي تقدر بمئات ملايين الدولارات، بل أنها تمس جوهر إقتصاد صناعة الدواء وارباحه. فالشركات الكبرى المصنعة للدواء تستثمر مبالغ ضخمة في البحوث والمختبرات للتوصل الى الأدوية والعلاجات للأمراض المختلفة. ويدخل ضمن حساباتها للربح والخسارة الإمكانات المادية للمرضى المحتملين. والسؤال هو هل تتابع هذه الشركات والمختبرات أبحاثها في ظل انحسار موجة الوباء عن الدول القادرة على دفع ثمن العلاجات المطروحة أو التي سوف تطرح في الأسواق وهي على يقين من أن الدول الفقيرة غير قادرة مالياً على شراء هذه العلاجات؟ ثم أن هذه الشركات تود المحافظة على استثماراتها السابقة، فهي تمنع مصانع ومختبرات الأدوية في الدول الفقيرة والمتوسطة من صناعة هذه الأدوية من دون دفع حقوق براءات الاختراع التي يكرسها لها القانون. وهو ما يتفق على تسميته بالأدوية "المولدة" generic والتي تود الدول الفقيرة اللجوء إليها عبر تصنيعها وطنياً. وقد شهدت ساحة محاربة الإيدز معركة قضائية على جبهة محكمة منظمة التجارة العالمية، حين طالبت الولاياتالمتحدةالبرازيل بتعويضات كبيرة عن دواء لمعالجة الإيدز تصنعه مصانع برازيلية من دون دفع حقوق الشركات الأميركية. وكذلك فإن أفريقيا الجنوبية اطلقت عملية تصنيع لهذه الأدوية من دون الحصول على أذونات من الشركات صاحبة الحقوق. وقد تراجعت الولاياتالمتحدة عن مطالبها بعد موجة احتجاجات من قبل منظمات عالمية وأميركية، خصوصاً أن البرازيل من الدول التي تتسع رقعة المرض فيها. لقد وقعت الأممالمتحدة اتفاقاً مع خمس من كبرىات شركات تصنيع الأدوية للسماح للدول الفقيرة بالحصول على أدوية لمحاربة الإيدز بأسعار رخيصة، ويتوقع أن يستفيد من هذا البرنامج حوالي 23 دولة أفريقية، وأن تكون نتيجة هذا الجهد خفض كلفة المعالجة للمريض الواحد إلى ألف دولار في هذه الدول، غير أن هذا المبلغ الزهيد مقارنة بالوضع السابق، يظل مبلغاً كبيراً جداً بالنسبة الى الدول الفقيرة خصوصاً في ضوء تزايد أعداد المصابين لانعدام الوقاية وعدم كفاية التعريف بالمرض لدى شرائح واسعة من السكان في هذه البلدان مما يزيد من تفاقم الوباء، خصوصاً الموجة الجديدة الممثلة بالمواليد الجدد حاملي فيروس المرض. قد تكون قمة الأممالمتحدة لمعالجة مرض الأيدز قد سجلت تناقضاً بين مواقف الدول على طريقة التعاطي الإعلامي والاجتماعي مع المرض غير أنها سجلت أيضاً اتفاقاً على أن الإيدز هو وباء عالمي، يتطلب مجهوداً عالمياً لمحاربته قبل أن يفتك ب"القرية العالمية".