كالنحلة تنتقل من زهرة الى زهرة، أو كالطير يقفز من غصن الى آخر، يتنقل محيي الدين اللاذقاني في رحلته الدونكيشوتية من محطة إلى أخرى، في كتابه الصادر أخيراً عن "المؤسسة العربية للدراسات والنشر" في بيروت، بعنوان "طواحين الكلام". ينحاز الشاعر السوري منذ الصفحة الأولى الى حزب النساء: فمن تحليل لنفسية المرأة، وعلاقتها بالرجل الى نظرة الفلاسفة والكتاب الى المرأة وظلمهم الصارخ لها، مروراً بأقوال لبلزاك الذي يشبه الزوجة برجل المباحث، ولامارتين الذي يشبه المرأة بكتاب غلافه فاتن ومضمونه فاسد. وحتى لا يظن القارئ ان اللاذقاني قد غلّب العشق على كتابه، يتنقل عبر محطات التراث، مستهلاً بقول للنفري: "وقال لي أنت ضالتي وأنا ضالتك، وما منا من غاب". ثم يترك التراث إلى "هلوسات الزمن العربي" : من موجة الديموقراطية التي ركبها حتى أتباع ستالين، الى حزب الكوسا الذي سيطر على وسائل الاعلام، ووجد فقه اللغة يخدمه.... وينصح اللاذقاني أعضاء حزب الكوسا بعدم الوقوع في الخطأ، وإعلان دولة لهم بعدما مكنهم اختراعهم العجيب من الاستيلاء على دول عدة، من دون انتخابات أو جبهة كوسوية تقاوم الامبريالية بأكياس الخضار التي لم تعد بمتناول الشعب، بعدما تحولت الى سر من أسرار الدولة العليا. ويخوض الصحافي والناقد المقيم في لندن في النقاش الأزلي حول "الفن للفن أم الفن للحياة؟"، فيستشهد بقول لتشيخوف "أنا فنان ولست داعية"، وفي هذا اشارة واضحة لانحياز الكاتب للفن من أجل الفن. لكنه ما يلبث أن ينقض ذلك، مشيراً الى اختلاف لغة الخطاب الفني عن لغة الخطابين السياسي والإعلامي. وفي مقالة أخرى بعنوان "روح الفن" يقول: "حين يقف الطفل في وجه الدبابة العسكرية، يقف الفن مع الطفل. وحين تسحق القوى الغاشمة كرامة الانسان، يقف الأدب في صف الانسان". ويقف اللاذقاني ويوقفنا معه عند محطة الشعر والغناء، فيذكرنا بأغنية لفيروز تشدو بقصيدة بدوي الجبل: "أخادع النوم إشفاقاً على حلم/ حان على الشفة اللمياء مخمور/ وزار طيفك أحلامي فعطرها/ يا للطيوف الغريرات المعاطير". ثم يذكرنا بأغنيات أم كلثوم "التي تفتح نوافذ الخيال على سهل من الطلاوة السهلة الممتنعة. وتتحلّى مقالات اللاذقاني بالظرف وخفّة الدم والسخرية. وهكذا يجد القارئ نفسه مشدوداً إلى الكتاب، مستمتعاً بكل مقال، ومتزوداً بمعرفة منوعة ومكثفة، من خلال أسلوب رشيق ولغة خالية من التكلف والتسطيح، وصور ضاحكة وكلمات متراقصة.