في قصيدة (الصدى) القصيرة التي يرقشها الشاعر كهايكو ياباني. تستدعي معجما طبيعيا يؤنسن عناصر الطبيعة ويمنحها علامات بشرية (للنهر رئة/ للتراب مخالب/ للنخل يدان/ للرمال أوردة/...) يوشك الماء أن يتخثر في رئة النهر: هذا التراب يمزق وجهي وهذا النخيل يمد إلي يده. يوشك النهر أن يتقيأ أجوبة الماء من قال أن النهار له ضفتان وأن الرمال لها أورده. عوالم جديدة تشكل هذه الانزياحات استراتيجية شعرية مذهلة في شعر محمد التبيثي، وهي متصلة بشكل جذري وقطعي بصيرورة الشاعر ومعينه الثقافي والاجتماعي. فهو ابن الجزيرة العربية الضاربة الجذور في التربة العربية بتاريخها وثقافتها المجيدة. ويأتي رمز الفرس باذخا برمزيتها الإيحائية. في قصيدة الفرس يتغنى الشاعر بغواية الصحراء. يطوب الخصب والجمال ويجعلهما ذروة الدلالة. لهذا جاءت قصيدة (الفرس) زخمة بالاستيهامات الجسورة. يأبى دمي أن يستريح تشده امرأة وريح. فرس تناصبني غوايات الرمال كسرت حدود القيظ.. واتجهت شمال. أرقيت عفتها بفاتحة الكتاب قبلتها.. فاهتز عرش الرمل وانتثرت قوارير السحاب. أسرجتها بالحلم والشهوات والصبر الجميل عانقتها.. فامتد صدري ساحلا مرا تنوء به تواريخ النخيل ناجيتها: صدئت لياليك القديمة فاحرقي خبث النحاس وأشرعي زمن الصهيل. مذ أهدرتك موانئ البحر القديم وأرمدت عينيك منزلة الهلال وقف السؤال غمرت جنوب الشمس غاشية الشمال. مذ كنت خاتمة النساء المبهمات يبست عيون الطير واشتعلت حشاشات الرماد إن قام ماء البحر! يأتي وجهك النامي على شفق البلاد يأتي طليقا، موثقا بالريح والريحان والصوت المدجج بالجياد. إن قام ماء البحر! صاغ الرمل بين مقاطع الجوزاء مهرا عيطموسا فاتحا من قمة الأعراف ممتد..... إلى ذات العماد. وما من شك أن الرغبة في الجموح والانطلاق وسبر المجهول تنمو بكثافة في شعر محمد التبيثي طلبا لارتياد الآفاق. وعندما نقول إن التبيثي في شعره يختلق الارتحال والاشتعال، فإننا نقصد ببساطة أن الشاعر يصبو إلى الحرية. لا تحتوي لغة التبيثي على خلفيات إيديولوجية، بل هي ناصعة البياض كنهر من فضة. ولكن التوق إلى الانعتاق هو رغبة للتخلص من الضغوطات الاجتماعية. عندما يتحدث الشاعر عن الذكريات والنسيان والفرح والانتشاء والسوداوية، فهو يسمح لذاته أن تتنقل خارج ذاتها، ويسمح لملكته الشعرية أن تنسج من الاستعارات عوالم شعرية جديدة. لكن الشاعر لا يثق في منجزه ثقة عمياء حتى وإن زف بصوت (البشير) انتصاراته الدونكيشوتية. المعنى اللا نهائي لكن الشاعر هنا لا يقف عند حدود الذات وحدود الحياة، بل يتعداها إلى حدود العلامة وحدود الأسطورة. ومن الواقع إلى النبوءة. لا مفر للشاعر من التحرر من النطاق المحدود إلى الجوهر اللا محدودة، ومن المحلية والخصوصية إلى الفرادة الكونية. هي العلاقة الحميمية بين الشاعر والقصيدة التي لا يمكن أن تتجلى في المعنى المبتكر والنسيج الشعري الجديد والمعنى اللا نهائي الذي لا يتوقف تدفقه ولا يختتم تأويله. هذا المبتغى ناضل من أجله محمد التبيثي. فللننظر إلى قصيدة (البابلي) ذات النفس الملحمي. في هذه القصيدة صدى للنفي والإثبات والموت والحياة بين القحط والخصب وبين التكرار للعود الأبدي. البابلي في القصيدة يخوض ملحمة الحياة والموت والعدم والوجود. يمتزج في دورة الحياة ويختلط بنسغ التكوين. يمضي ولا يعود ويتفرد ويتعدد. يتوحد وينشطر. وكأن التكوين والتأسيس قد بدا للتو بالماء والتراب والنار والهواء (وعاد إلى منبع الطين...) يبدو واضحا أن الشاعر قد وجد ضالته وفضاءه الشعري الأثير لمحاورة المتن الشعري التراثي والأسطوري. جاعلا من هدير البابلي الملحمي مطية ذكية لاختبار قدرته على السرد الشعري لأحداث يتجلى فيها الصراع الملحمي والوجودي. وبين هذا الكر والفر تتجلى القيم الإنسانية المنتصرة للحياة والحرية. ولا يتوقف نهر الشاعر المتدفق، باحثا عن جغرافيات وتضاريس جديدة. تشكل مرجعية أساسية، ونسيجا بوليفونيا يركب أثر النصوص الأخرى التراثية، والحديثة فوق بعضها البعض. لتشكيل جنيالوجيا شعرية، تحرر الدال من تبعيته للمدلول، خصوصا أن قصيدة البابلي تحفظ المرجعية، وتمحوها في ذات الوقت. * مسه الضر هذا البعيد القريب المسجى بأجنحة الطير شاخت على ساعديه الطحالب والنمل يأكل أجفانه.. .. والذباب مات ثم أناب. وعاد إلى منبع الطين معتمرا رأسه الأزلي.. تجرع كأس النبوءة، أوقد ليلا من الضوء، غادر نعليه مرتحلا في عيون المدينة.. طاف بداخلها ألف عام وأخرج أحشاءها للكلاب. هوى فوق قارعة الصمت فانسحقت ركبتاه تأوه حينا.. وعاد إلى أول المنحنى باحثا عن يديه تنامى بداخله الموت فاخضر ثوب الحياة عليه. * مسه الضر هذا البعيد القريب المسجى بأجنحة الطير شاخت على ساعديه الطحالب والنمل يأكل أجفانه.. والذباب مات موت التراب. تدلى من الشجر المر.. ثم استوى عند بوابة الريح أجهش: بوابة الريح بوابة الريح بوابة الريح..... ويبدو واضحا أن البابلي في ترحاله عاد خائبا. فلا يمكنه أن يستعيد الأموات أحياء ولا الحصول على زهرة الخلود. وهو يشبه تماما جلجامش وأورفيوس اللذان عادا نادمين من محاولتهما الفاشلة للقضاء على الموت والاحتفاظ بالأحبة. العزلة والترحال الشعري العزلة الأشد عمقا والأشد ثراء. العزلة النموذجية هي عزلة الشعراء. وهي ليست عزلة عن العالم. بل هي عزلة عن الوجود الفعلي للشاعر. الحضور المفترض في الحياة لشاعر يرى ما لا يراه الناس. ويحق له أن يقول ما لا يراه الناس. لكن المدينة هي مدينة نحاس والناس في النهاية ليسوا سوى حجر. سحرهم الواقع المادي السطحي، فأبعدهم عن الجمال والروح والعمق الشعري. فما العمل؟ وماذا يمكنه أن يفعل الشاعر وهو يطرق بوابة الريح حاملا إلهامه المضيء بالكلمات لعله يمحو ظلمات العالم. يمكن الحديث عن مكان العزلة الذي يتجلى في فضاء الصحراء أو العوالم السفلية الشاغرة من كل تفاؤل. «لكن وسط زحمة الناس نحس حقيقة بالأسى والعزلة» كما قال بودلير. وهو ذات الإحساس الذي عبر عنه الشاعر إدمون جابس: «فعل الكتابة هو مبادرة فردية. الكتابة هي التعبير عن هذا الشعور بالوحدة؟ قد لا يكون هناك كتابة أو عزلة دون الشعور بالوحدة أثناء الكتابة» كذلك الشاعر محمد التبيثي، فهو يعبر عن إحساس بالغربة والوحدة والتيه منشدا قصيدته (البابلي): وعاد إلى منبع الطين معتمرا رأسه الأزلي.. تجرع كأس النبوءة، أوقد ليلا من الضوء، غادر نعليه مرتحلا في عيون المدينة.. طاف بداخلها ألف عام وأخرج أحشاءها للكلاب. هوى فوق قارعة الصمت فانسحقت ركبتاه تأوه حينا.. وعاد إلى أول المنحنى باحثا عن يديه تنامى بداخله الموت فاخضر ثوب الحياة عليه. يمكن القول إن شعر محمد التبيثي شعر أصيل يجمع بين المرجعية التراثية والطموح الحداثي، فهو يكتب اللحظة المحسوسة ليحولها إلى فكرة تجريدية، وغالبا ما نسمع صور الشاعر تنبثق من عدم اللغة وكأنها مندغمة بين طيات الإدراك الشعري. ولا يخلو هذا الإدراك الشعري من وعي بالإرث الأدبي والتاريخي. تتعايش عند بوابته المشرعة ذاكرة مترعة بالمتناقضات والممكنات، وهذا التعايش ضروري للشاعر كي يجسد رؤيته للحاضر، لكن بتدفق من الكلمات والصور والرؤية الكونية لا تخلو من استحضار للماضي وزخمه الرمزي. يرسم ديوان (التضاريس) ذاكرة مكان لا يمكن فصله عن ذاكرة جسد. لهذا وجدناه ينتقي أمكنة بحد ذاتها، وهو ليس اختيارا اعتباطيا، بل اختيار سيكولوجي تمليه إدراكات حسية ورؤية إبداعية تنتقل بين الإشارات والرموز والصور بقدرة انسياب على الترحال بين الفضاءات والأزمنة. فالقصيدة في لحظة ولادتها تولد نسيانا مضاعفا: نسيانا للدلالات الأصلية للألفاظ المستعملة، ونسيانا للنظام النحوي والمنطقي الذي تقوم عليه. وهذا ما يجعل النص الشعري لمحمد التبيثي جسدا حيا، يجعل مفاهيمه وألفاظه مخترقة بدينامية حيوية تمنحها قدرة على التناسل، وعلى قول الحياة والصيرورة. لأن اللغة مثلا في قصيدة (البابلي) أو قصيدة (تغريبة القوافل والمطر).