استذكرت المانيا اخيراً مرور 30 عاماً على توقيع اول اتفاق بين "الشرق والغرب" الالمانيين ينظم مرور الافراد والسلع من برلين الغربية واليها، عبر بوابة براندنبورغ الواقعة في اراضي الدولة الشيوعية. وهكذا فإن رسم بعض الملامح التاريخية الخاصة بهذه البوابة يشكل المدخل ايضاً للحديث عن المانيا الموحدة، وقد استعادت قبل اثني عشر عاماً لحمتها السياسية، في محاولة للتعرف على ملامح الافراز المتحقق اجتماعياً واقتصادياً من عملية الدمج. ربما كانت فكرة البوابة البرلينية تاريخياً ذات ابعاد اقتصادية بحتة، اذا وضعنا في الاعتبار الهدف الذي اعلنه عام 1734 القيصر فريدريشن هيلم الاول، عندما امر بإنشاء 15 باباً تتبع لها، وذلك لمواجهة عمليات التهرب من دفع الرسوم الجمركية، وان ألحق بتبريره هدفاً ثانوياً يتعلق بالرغبة في مواجهة هروب الجنود الالمان من معسكراتهم. ومن الطرائف ذات الصلة ببوابة براندنبورغ امر نابليون، خلال فترة الاحتلال الفرنسي لالمانيا، بتفكيك نصب "لص الخيول" المجسّد فوق البوابة، ونقله الى باريس، ليوضع فوق قوس للنصر يُنشأ خصيصاً لهذا الغرض. لكن المشروع لم يُنفذ، ونتيجة لحروب التحرير التي نشبت في القرن التاسع عشر امكن للالمان استعادة المجسد واعادة نصبه في مكانه الاصلي. وحضر القيصر فيلهيلم الثالث حفلة رفع الستار عنه العام 1814، ليحوّل المناسبة حدثاً سياسياً يذكّر باندحار نابليون، بعد هزيمته المريرة. واللافت ان هذه البوابة عادت خلال الحرب العالمية الثانية لتتعرض لاضرار جسيمة، وتم اصلاحها بعد انتهاء الحرب العالمية بزهاء عشر سنوات على يد خبراء من المانيا الغربية لتتسلمها الحكومة في برلينالشرقية، التي استبعدت منها شارة النصر والصليب. وبعد الشروع ببناء جدار برلين، العام 1961، تحولت البوابة رمزاً لتقسيم المدينة لم يكن القيصر الالماني الذي امر بها يفكر به او يريده. فما اراده حتماً هو عودتها قبل اثني عشر عاماً لتجسد الارادة الالمانية بالوحدة، ولكن وسط هذه الظروف الايجابية تعرضت بوابة براندنبورغ الى احدث اضرار ألحقت بها من متظاهرين كانوا يحاولون ازالة اي معالم قد تكون وقفت في طريق وحدة المانيا. بعد مضي اكثر من عقد يبدو ان قضية الوحدة الالمانية ما زالت تشكل ارقاً لأبرز ساسة البلاد، ففي مطلع العام 2000 ظهر رئيس البرلمان البوندستاغ فولفغانغ تيرزه ليدق بنفسه جرس الانذار بشأن مسيرة تطوير البنى المختلفة في المانياالشرقية، مشيراً بوضوح الى ان الآليات السياسية وتقنيات الروافد الاقتصادية ما زالت دون المستوى المقبول، فالارقام التنموية في تراجع، وحجم البطالة في ارتفاع. ويبدو ان انتماء رئيس البرلمان الى الشرق الالماني مكّنه من ادراك تفاصيل لم يدركها غيره من الغربيين، خصوصاً الساسة، اذ ان ما يؤرق تيرزه هجرة اكثر من مليون ونصف المليون من الخبرات الشرقية خلال الاعوام الماضية، وجميعهم تقريباً من الشباب مع استمرار وتيرة الهجرة. نمو شرقي ضعيف لكن للحكومة رأي مختلف تماماً، اذ ان وزير الدولة المكلف شؤون الشرق الالماني الولايات الالمانية الجديدة لا يشارك رئيس البرلمان موقفه، ويُصر على تحقق مكاسب كبيرة في المجال الاقتصادي على وجه الخصوص، بحسب البيانات التي وفرتها المؤسسات الاقتصادية التي قامت في الشرق منذ اعلان الوحدة. والثابت ان مؤشرات الارتفاع الاجمالي في ناتج الاقتصاد الوطني في الولايات الالمانية الجديدة لم تزد العام 2000 عن 1.3 في المئة، وتلك محصلة تعد ضعيفة وفق المعدلات المعروفة للتنمية، بل لم تصل الى حدود النمو المتحقق في الغرب الالماني ذاته، اضافة الى ان الانتاجية في الشرق ظلت خلال العام نفسه بحدود 70 في المئة مما هو الامر في الغرب. ويسود الافق في الولاياتالشرقية تفهم عام لوجهة نظر رئيس البوندستاغ لأسباب عدة ربما يرجع ابرزها الى كونه من المثقفين الذين يحظون باحترام كبير في الشرق، وبتقدير في الغرب، وكذلك الى تشكيله جزءاً من النظام الحاكم، لوجوده في طليعة الحزب الديموقراطي الاشتراكي الذي يقوده المستشار غيرهارد شرودر. وتظهر نظرة سريعة للطبيعة الاجتماعية والطبوغرافية لألمانيا الشرقية ان عدد السكان لم يعد يتجاوز الخمسة عشر مليوناً الا بقليل بعدما كان يبلغ حوالي سبعة عشر مليوناً. وهناك توقعات بهجرة مليون خلال السنوات العشرين المقبلة، ما يعني ان اعمار ثلثي السكان ستتشكل حينئذ من البالغين سن التقاعد، الامر الذي لا يبشر بخير في بلد مثل المانيا، يعاني سكانه اصلاً من سلبية المعادلة بين المتوفين والمواليد خصوصاً في الشرق. ويشكل هذا الوضع جموداً كبيراً في الحياة الاسرية داخل الولاياتالشرقية التي كانت تشهد في ظل عقود الحكم الشيوعي بعض التماسك الاقرب الى التضامن. فغالبية هذه الاسر لم تعد تلتقي باستمرار، وبات واضحاً ان هجرة ابنائها من الشباب كانت الاساس وراء هذا التحول، ومن يتفقد المدن الكبيرة او الصغيرة يستطيع الخروج بالاستنتاج السلبي ذاته الذي توصل اليه رئيس البرلمان، ولم يعد ينفع في شيء القول بوجود هجرة معاكسة من الولايات الغربية مع وضوح ان اهداف الغالبية من هؤلاء المهاجرين مرحلية تتحدد بأفق زمني قصير، وترتبط بمحاولة الاستفادة من التسهيلات الاقتصادية التي وفرها لشرق المانيا النفوذ الالماني في المفوضية الاوروبية ومددت هذا العام ثلاث سنوات اخرى، وسبب عدم استمرار هذه المحاولة وفقدانها القدرة على الدوام يكمن في فشل معظم المشاريع الصغرى التي يقف وراءها غربيون، اما لضعف في الكفاءة ومن ثم في التخطيط او لوجود نية مسبقة في تحقيق الفائدة الذاتية التي لن تتضرر من اعلان افلاس المشروع، القائم اساساً على قروض مصرفية. هجرة الشباب ويلاحظ اليوم على نطاق واسع اقفال العديد من فروع المؤسسات الخدمية الكبرى، ولا يشكل استثناء ملاحظة تكرار مثل هذا الاقفال في الشارع الواحد او حتى في محلة ضيقة بعينها. لكن تبقى هجرة الشباب الشرقيين الاكثر خطورة وتأثيراً سلبياً على التنامي المفترض تكافؤه بين ابناء الدولة الواحدة وكيانها. ويعبر مسؤولون في الولاياتالشرقية الجديدة عن انزعاجهم ازاء العجز عن وقف الهجرة الى الولايات الغربية، والسبب يكمن في فقدانهم الحوافز المادية في جملتها، الممنوحة للمهاجرين ذات الصلة بوتيرة الاجور، التي ما زالت متدنية في الشرق على رغم مضي اكثر من عشر سنوات على اعادة توحيد المانيا، ولا يوجد حتى الآن اي نية في وقف هذه الهجرة لما في الامر من تأثيرات سلبية على حرية التنقل والاقامة التي صارت مضمونة ليس للألمان فحسب بل لمواطني دول الاتحاد الاوروبي بشكل عام. ويبدو ان هذه الاجواء وانعكاساتها السلبية ألقت بظلال من الشك على المستقبل السياسي للبلاد. ومن ملامح هذه الانعكاسات عزوف اعداد كبير من الشرقيين عن منح اصواتهم لممثلي الاحزاب، خصوصاً حزبي الديموقراطي الاشتراكي الحاكم والديموقراطي المسيحي المتحالف مع الحزب الاجتماعي المسيحي في ولاية بايرن المحاذية للولايات الشرقية. الا ان هذا الوضع انعكس ايجاباً على حزب الاشتراكية الديموقراطية وريث الحزب الشيوعي الحاكم في الدولة الملغاة، فقد حصد الشيوعيون القدامى زهاء نصف الاصوات في برلينالشرقية في آخر انتخابات شهدتها برلين الموحدة، الامر الذي ساعد في خلق مزيد من الاشكالات للائتلاف المسيحي الحاكم مع الاشتراكيين، المستمر منذ بداية الوحدة، ثم في حجب الثقة عنها بخطوة حاسمة اقدم عليها ممثلو الشيوعيين، وتمهيد السبيل عملياً لمشاركتهم في حكم برلين، تلك التي ظل يرفضها بإصرار المستشار شرودر. ولكن ما بين حجب الثقة في حزيران يونيو الذي حمل الاشتراكيين الى الحكم في برلين وظروف ما بعد الانتخابات حدثت تطورات لافتة اثرت في مستوى تفكير المستشار وطبيعته وأدت الى اذعانه في نهاية المطاف، ابرزها ما كتبه الرئيس الالماني السابق ريتشارد فون فايتسكر عما اسماه عدالة الديموقراطية اذا استطاع الذين يحصلون على غالبية الاصوات المشاركة في الحكم. وتكمن الاهمية البالغة لما قاله فايتسكر ليس في كونه رئيساً سابقاً رمزياً في المانيا، بل لأنه احد السياسيين البارزين في الحزب الديموقراطي المسيحي، الذي يقود المعارضة حالياً داخل البرلمان. ويرى مراقبون ان توجهات الخضر السياسية الاخيرة، خصوصاً ما يتعلق بمواجهة الارهاب، ومشاركة الدولة في هذه المواجهة، افقدتهم بعض النفوذ، ليس وسط انصارهم، بل في الوسط المؤازر ومانح الصوت الانتخابي، الذي سيصوت هذه المرة حسبما يعتقد لمصلحة الشيوعيين، ووريثهم الحزبي الاشتراكية الديموقراطية وهم قاب قوسين او ادنى للقفز فوق مواقع السلطة في برلين، عاصمة المانيا وأهم الولايات فيها سياسياً. نتائج التسرع وينظر على نطاق واسع في الولايات الالمانية الغربية الى ما يحدث من تحول فكري وغضب اجتماعي على انه تحصيل حاصل للتسرع في الغاء نظام الدولتين، وعدم ترك الامور تأخذ مجراها الطبيعي حتى يتم بشكل صحي توحيد الشعب المنقسم على نفسه. الا ان من يقرأ افكار المستشار السابق هيلموت كول الذي وحد البلاد يدرك ان ذلك التعجيل كان خياره الوحيد المقبول، وان لم يكن استراتيجياً. والسبب: خوفه من فقدان الفرصة التي أُتيحت لو حدث تغير لم يكن مستبعداً في المواقف السياسية لابرز قادة العالم خصوصاً ان بعض هؤلاء ادلى بدلوه المعارض بشدة لفكرة التوحيد مثل فرنسا وبريطانيا وبعض مراكز القرار الاقتصادي الدولي. وبين ذلك الكم الكبير من المواقف المختلفة يبقى موقف الزعيم السابق للحزب الديموقراطي الاشتراكي اوسكار لافونتين الذي رأى التريث فدفع ثمناً باهظاً يتمثل في اتهامه بخيانة البلاد. واعتزل لافونتين اللعبة الديموقراطية داخل حزبه نتيجة للاستقالة المفاجئة التي قدمها بعد فترة وجيزة من عودة الاشتراكيين الى الحكم. لكن ما لم يذهب وقد يبقى على الدوام هو صحة نظرته الى قضية الوحدة، التي ليس من الضرورة تعارضها مع النظرة المخالفة للمستشار السابق كول الذي قاد الوحدة التي قادته بعد ذلك الى التراجع، وقادت حزبه الى صفوف المعارضة. وهكذا فإن الوحدة في المانيا لم تتم بعد بالشكل الذي يرضي الواجهة التي قادت دعاتها في المانياالشرقية، والذي تم هو الحقائق الاضافية الجديدة التي افرزتها اعادة التوحيد، وتتلخص في ان امام المانيا الموحدة المزيد من الوقت الذي يتعين استثماره حتى يكتمل انجاز الوحدة التاريخي.