على رغم ان الزعيم الدرزي اللبناني وليد جنبلاط لم يحضر مؤتمر "الوحدة المعروفية" لمكافحة التجنيد الاجباري المفروض على الشبان العرب الدروز في اسرائيل الذي التأم في 23 تشرين الثاني نوفمبر في قرية يركا في الجليل، ولم يرسل خطابا، ولم تقرأ له حتى تحية، فقد كان حاضرا، ولولاه لما عقد المؤتمر الذي رسم خطاب جنبلاط السياسي وفكره السياسي مبادئه وتوجهاته. وهو لهذا جوبه بحملة من حكومة اسرائيل وازلامها في الطائفة الدرزية وجرى التعتيم عليه اعلاميا. لكن هذا التجاهل لم يقلل من اهمية المؤتمر الذي لعب دورا كبيرا في بلورة موقف الدروز في اسرائيل من اكثر قضاياهم حساسية: التجنيد الاجباري. فقد رفض المؤتمر التجنيد رفضا قاطعا "لاسباب قومية ومبدئية وضميرية وأخلاقية وإنسانية" ودعا الشباب العرب في اسرائيل من كل الطوائف الى الانضمام لهذا الرفض. تعرض الدروز منذ قيام دولة اسرائيل الى مؤامرة لسلخهم عن أمتهم العربية. وليس التجنيد الاجباري سوى احدى أدوات هذه المؤامرة. وهناك من يشير الى ان التآمر لسلخ الدروز بدأ حتى قبل العام 1948. والصحيح ان القضية لا تتعلق بالدروز وحدهم، بل ان الحركة الصهيونية استهدفت منذ بدء الهجرة اليهودية الى فلسطين دق اسافين بين ابناء شعبها العربي واقامت اتصالات وعلاقات شملت اضافة الى الدروز البدو وبعض رجال الدين المسيحيين وقبائل مسلمة في فلسطين، ونجحت في تجنيد افراد من هؤلاء تحولوا لاحقا الى حلفاء ومتعاونين وخدموا العصابات الصهيونية المسلحة في حربها لتشريد الشعب الفلسطيني. وفي 1949 عاد رئيس وزراء اسرائيل ووزير دفاعها ديفيد بن غوريون تجميع هؤلاء المحاربين وضم اليهم متطوعين عربا آخرين من فلسطينيي 1948 وشكل منهم "وحدة الاقليات" في الجيش الاسرائيلي التي لا تزال قائمة. وكان هدف بن غوريون الايحاء للعالم بان اسرائيل دولة ديموقراطية على الطراز الغربي يعطى فيها العرب حقوقا مساوية لليهود ويتم ائتمانهم حتى على قضية الامن. كما اراد اظهار ان المواطنين العرب في اسرائيل موالون لها لدرجة انهم يخدمون في جيشها ضد ابناء جلدتهم. وفي اطار هذه السياسة اختار بن غوريون الدروز والشركس ليفرض عليهم الخدمة العسكرية الاجبارية مثل اليهود. فاستدعى 16 شيخا من اقطاب الطائفة الدرزية سنة 1954، وبعد خطاب "حار" عن العلاقة المميزة بين اليهود والدروز "تاريخيا ودينيا" ابلغهم انه قرر ضم الشبان الدروز الى الخدمة الاجبارية "حتى يكونوا تماما مثل اليهود في الحقوق والواجبات". لم يتوجه بن غوريون بطلب كهذا الى المسلمين بل اختار منهم للجيش مجموعة صغيرة من البدو فقط. كما لم يتوجه بطلبه الى المسيحيين الذين كانوا في قيادة العمل الوطني آنذاك توفيق طوبي واميل حبيبي وصليبا خميس وبولس فرح وجمال موسى ورمزي خوري وزاهي كركبي وغيرهم. وهكذا وقع الدروز ضحية سياسة بن غوريون الذي تفاهم مع قادتهم على استثناء النساء ورجال الدين وتلامذة المدارس الدينية والمتزوجين غير المتدينين من الخدمة، مما دفع الكثيرين منهم الى الزواج في سن الثامنة عشرة لتجنب التجنيد. عمليا لم تفرض الخدمة سوى على ثلثي الشبان الدروز الذكور. وبالطبع لم تضع اسرائيل ثقتها التامة بهم وابقت العديد من الابواب مغلقا امامهم. وفي اواسط آب اغسطس الماضي، وبعد خمسين سنة من مشاركة الدروز في الجيش تمت ترقية ضابط واحد منهم الى رئاسة اركان الجيش هو الميجر جنرال يوسف مشلب بعد تعيينه قائدا للجبهة الداخلية في الجيش الاسرائيلي. ولم تحظ القرى العربية الدرزية باي امتيازات بسبب خدمة ابنائها في الجيش، بل بقيت على غرار سائر القرى العربية تعاني من الاهمال والنقص في وسائل التعليم وارتفاع معدل البطالة، مما اضطر العديد منهم الى اختيار الاستمرار في الخدمة العسكرية التطوعية المدفوعة الاجر بعد انتهاء مدة خدمتهم الاجبارية. وبدلا من الاهتمام بتحسين اوضاعهم رصدت الحكومات الاسرائيلية موازنات كبيرة لمشروع سلخ الدروز عن محيطهم العربي وتشجيع ما اسمته "التراث الدرزي" و"التقاليد الدرزية" و"المحاكم الدرزية" بهدف جعلهم يشعرون بانهم "أمة" وليس احدى طوائف الشعب الفلسطيني. ومع تنامي وعيهم الوطني واكتشافهم الاعيب السلطات الاسرائيلية، بدأت تظهر لدى الدروز بوادر تذمر تحولت سريعا الى تمرد على "الاستقلال" الدرزي المزعوم من جهة وعلى الخدمة الاجبارية من جهة ثانية. وفي السبعينات تشكلت حركة لرفض الخدمة وتعزيز الانتماء القومي العربي الفلسطيني دعيت "لجنة المبادرة الدرزية" برئاسة الشيخ أمين فرهود لكن باشرف من الحزب الشيوعي الاسرائيلي راكاح. واذا اعتمدنا الرقم الادنى 20 في المئة يكون عدد الرافضين 100 في كل سنة، يدخلون السجون العسكرية مرة تلو الاخرى ويتعرضون لمختلف صنوف المعاناة والتعذيب النفسي والجسدي والملاحقة الدائمة وتهديد لقمة العيش. وقد سطر عديدون بينهم بطولات في المعركة ضد التجنيد. واعتبر الشاعر الفلسطيني الدرزي سميح القاسم الذي رفض جميع ابنائه الخدمة الاجبارية ودخلوا السجون بسبب ذلك ان "الهدف من تجنيد شبابنا لم يكن عسكريا لمدّ الجيش الاسرائيلي بقوات اضافية، بل كان الهدف سياسا واضحا. لقد أرادوا تجزئة الجماهير العربية المتبقية في وطن الاباء والاجداد الى طوائف والى عشائر حيث تتوفر الطوائف. ونحن نخشى ان تنطلي سياسة فرق تسد هذه على شعبنا". ويشعر الدروز في اسرائيل ان الخدمة في الجيش لم تغير من اوضاعهم شيئا. فالبلدات الدرزية تعاني مثل غيرها من البلدات العربية من نقص المشاريع الحيوية مثل المجاري والارصفة والنوادي والخدمات الصحية والطبية، اما الوضع التعليمي فمأسوي حيث يجتاز 24 في المئة فقط من الشبان الدروز امتحان الشهادة الثانوية في مقابل 45 في المئة في اسرائيل و33 في المئة لدى سائر العرب، بينما نسبة التعليم الجامعي متدنية جدا لا تصل الى اربعة في المئة. وقام الاسرائيليون ايضا بتفعيل سياسة مصادرة الاراضي العربية في المناطق الدرزية الواقع معظمها في مناطق جبلية استراتيجية. فمن مجموع 141 الف دونم كانت تملكها القرى الدرزية سنة 1948 لم يبق اليوم سوى 13 الف دونم. وهناك ايضا التمييز ضد الدروز داخل الجيش نفسه. اذ لا تتاح لهم الخدمة في كل الاسلحة وتغلق في وجههم اختصاصات عدة مثل سلاح الطيران والاستخبارات وقسم التطوير التكنولوجي والذرة وغيرها. وفي السنة الماضية اصيب جندي درزي يدعى مدحت يوسف بجروح داخل ضريح النبي يوسف في نابلس، وظل ينزف خمس ساعات قبل ان يتوفى من دون ان تنقذه القوات الاسرائيلية. ويجمع الدروز على انه لو كان مدحت يهوديا لما تركوه يموت ولانقذوه بعملية عسكرية كبرى من دون تردد. ولعل السبب الاهم لرفض الخدمة الالزامية هو الشعور الوطني لدى الدروز. لكن هذه القضية طافحة بالاشكالات. فقد حاولت اسرائيل طوال عقود سلخ الدروز عن تاريخهم العربي دينا ولغة وحضارة وابتكرت لهم "قومية" خاصة هي "القومية الدرزية"، وللاسف فان الجهل قاد كثيرين الى تبني هذه القناعات "الدرزية" الضيقة. وأحد الاسباب الرئيسية لنجاح "الدرزنة" او التقوقع في الدرزية على حساب العروبة هو ضعف القوى الوطنية وتفسخها. فليس سرّا ان نسبة القوى السياسية الوطنية بين المعروفيين في اسرائيل التي تعارض الدرزنة والخدمة الاجبارية، تقل كثيرا عن نسبة مؤيديهما، وعلى رغم ذلك تتنازعها الصراعات الحزبية وتجهض كفاحها وتشوه سمعتها امام الجمهور الدرزي. كان الوطنيون، قبل حوالي اربع سنوات، منضوين في جسم واحد هو "لجنة المبادرة الدرزية" المتحالفة مع الحزب الشيوعي في اطار الجبهة الديموقراطية للسلام والمساواة، لكن هذه اللجنة انقسمت الى ثلاثة اجنحة، أولها بقيادة محمد نفاع الامين العام للحزب الشيوعي الذي احتفظ باسم لجنة المبادرة، والثاني بقيادة ابن عمه سعيد نفاع الذي اختلف معه وانسحب من حزبه وانضم الى حزب التجمع الوطني الديموقراطي برئاسة النائب عزمي بشارة واصبح رئيس المجلس العام للحزب وشكّل حركة "ميثاق المعروفيين"، والثالث بقيادة الشيخ جمال معدي الذي انسحب ايضا من لجنة المبادرة بسبب خلافات واختار العمل الشعبي بلا انتماء حزبي مباشر. ولم يتوقف الامر عند حد الخلافات السياسية، خصوصا بين تياري محمد وسعيد نفاع، بل تفاقم ليتحول حملات تجريح واتهامات متبادلة في الصحف. عكرت هذه الخلافات والحملات الاجواء الدرزية وامتدت الى مختلف مناطقهم ووصلت اصداؤها الى لبنان، فحاول زعيم الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط التدخل لفضها ولململة الصف الوطني الدرزي بعدما ادرك خطورة انعكاساتها، خصوصا بعد انطلاق الانتفاضة الفلسطينية الثانية وانتشار انباء عن تورط عدد من الجنود والضباط الدروز في ممارسات قمعية ضد الشعب الفلسطيني على رغم ان بعضها كان مضخما. ورأى جنبلاط وجوب ان تتحد جهود الوطنيين الدروز ضد الخدمة الاجبارية، لان استمرار الخلافات هو اكبر خدمة تقدم لاسرائيل، فدعا مختلف الاطراف الى لقاء في العاصمة الاردنية لكن دعوته لم تلق التجاوب الكامل في البداية ورفضها تيار محمد نفاع. فاستغل انصار العلاقة الجيدة مع اسرائيل ذلك وطالبوا جنبلاط بعدم التدخل في شؤونهم. غير ان الزعيم الدرزي لم ييأس، وواصل محاولاته بصبر حتى أفلح في لقاء ممثلين عن لجنة المبادرة الدرزية ايضا، وتمكن من احراز اتفاق بين جميع الاطراف يعاونه في ذلك سميح القاسم وسائر الوطنيين في الطائفة. والتأم المؤتمر بحضور الجميع وتحول الى تظاهرة وطنية شارك فيها قياديون من طوائف عربية اخرى في اسرائيل. وخرج المؤتمر بقرارات وطنية لم تقتصر على رفض تجنيد الدروز بل شجبت ايضا ظاهرة التطوع في الجيش الاسرائيلي من طوائف عربية اخرى هناك حوالي اربعة آلاف جندي عربي متطوع في الجيش الاسرائيلي من المسلمين والمسيحيين، ودعا الى النضال من اجل السلام العادل وزوال الاحتلال الاسرائيلي. واعتبر سكرتير لجنة المبادرة الدرزية جهاد سعد ان "دعوة جنبلاط كانت بلا شك احد حوافز عقد المؤتمر"، واكد ان "الطائفة الدرزية جزء من الجماهير العربية، وهي لم تختر التجنيد انما فرض عليها القانون فرضا. ونحن اليوم نشهد ظاهرة تطوع الشباب من الطوائف الاخرى، وهذا مؤشر خطير يتطلب وحدة جماهيرية للتصدي له. الوضع الحالي يتطلب منا عملا مكثفا على غرار أي قضية مهمة اخرى مثل مصادرة الاراضي والسكن وسياسة التمييز وغيرها". اما سكرتير "ميثاق المعروفيين" سعيد نفاع فرأى ان "الخلاف الذي كان مستمرا تمحور حول منطلقات رفض الخدمة الاجبارية. وفي السنوات الاخيرة توسعت الاطر التي تعمل لمقاومة التجنيد الالزامي لكن الفوارق في الطروحات بقيت موجودة. فهناك من يرى ان رفض التجنيد يجب ان يتم من منطلقات قومية بحتة، وهذا طرحنا، وهناك من يرى ان الرفض يجب ان ياتي من منطلقات ضميرية وانسانية. هذا التباين ولّد نقاشا، وتوصلنا في نهاية الامر الى خلاصة ان الرفض نابع من منطلقات قومية ومن انتماء الطائفة العربية الدرزية الى الشعب الفلسطيني". واكد الشيخ جمال معدي الرئيس السابق للجنة المبادرة الدرزية ان "من يقول بان هذا المؤتمر او اي نشاطات تتبعه ستؤدي الى الغاء الخدمة الاجبارية غير واقعي. فالتجنيد قانون ملزم في اسرائيل لا يلغى الا بقرار من الكنيست. فهل يمكن الغاؤه مع وجود 110 نواب يهود و10 فقط من العرب؟". واضاف ان "المؤتمرات والاجتماعات واللقاءات والقرارات لن تجدي نفعا. هناك حاجة للعمل بين الشباب وتوعيتهم واشراكهم في القضية بشكل فعال. نحن لا نريدهم ان يسألونا فقط عما فعلناه لهم خلال الخمسين عاما الماضية بل ان يصلوا الى وضع يتخذون فيه هم قرار مستقبلهم، وهذا لا يتم الا بحملة توعية للاجيال الناشئة"