بمقياس ردود الأفعال، يمكن اعتبار صدور كتاب "صناعة المحرقة" لنورمان فينكلشتاين حدثاً من أحداث العام 2000. فما أن نزلت إلى الأسواق في شهر تموز يوليو الماضي طبعته البريطانية الأولى، حتى أثار ضجة عارمة حفزها موضوعه الذي يتعرض للاستغلال السياسي لمعاناة اليهود في الحقبة النازية، والأسلوب السجالي الجريء لكاتبه المعروف بمعارضته إسرائيل والمنظمات الصهيونية العالمية. وقامت "دار الآداب" في بيروت بتعريبه ترجمة سماح إدريس. وقد تباينت التعليقات والنقاشات حول اطروحات فينكلشتاين بين التحفظ والهجوم الذي وصف كاتبه بأنه يهودي كاره لهويته، وقارنه بالمؤرخ اليميني البريطاني ديفيد إيرفينغ. لا يمكن للمرء أن يقف محايداً إزاء جرائم المحرقة الهولوكوست. فالحدث بحد ذاته مفزع ومقزز : ملايين من البشر ساقتهم أجهزة النظام النازي إلى الموت لمجرد انتمائهم الديني أو العرقي أو السياسي أو الجنسي. بالنسبة إلى اليهود، على وجه الخصوص، ما زالت المحرقة تمثل اللحظة الحاسمة في تاريخهم ووعيهم لهويتهم المعاصرة، ومرور نصف قرن عليها لم يكن كافياً لإيداعها في سجل الماضي، أو على الأقل لرسم حدود فاصلة بينها كحدث تاريخي وبين طرق سردها وغايات تأويلها. وفي غياب الفصل المطلوب بين الحدث نفسه وذاكرة ضحاياه، بين التجربة الفعلية واسترجاعها اللاحق من منطلقات إنسانية أو سياسية متحيزة، يكون باب المراجعة والشك مفتوحاً ومشروعاً في آن. من هذا الباب دخل فينكلشتاين ليعلن بصراحة وإصرار أن الكثير مما قيل ويقال عن المحرقة لا يمتّ بصلة إلى حقيقتها، وأن معاناة اليهود في الفترة النازية استخدمت لأغراض أيديولوجية لا تخدم الضحايا ولا فهم التاريخ. يحدّد فينكلشتاين مهمة كتابه الصغير في تحليل صناعة ثقافية تخصصت بترويج الكتب والمؤتمرات والنصب التذكارية والمتاحف والأفلام عن المحرقة، وأنتجت منظومة متماسكة من المعتقدات والأساطير حولها، وفرضت قيوداً ومحرمات على كل ما يمكن أن يقال عنها، ونصّبت من النخبة اليهودية سلطة مادية ومعنوية لا تتوانى عن اتهام من يخالفها في الرأي بموالاة النازية ومعاداة السامية وما إلى ذلك. في واحدة من الجمل العديدة التي تشهد على الأسلوب الجريء والمباشر لفينكلشتاين نقرأ: "أعتقد أن "اكتشاف" اليهود الأمريكيين للمحرقة النازية كان أسوأ من نسيانهم لها". فالمنظمات اليهودية الأميركية لم تنتبه، برأيه، إلى المحرقة إلا في وقت متأخر نسبياً عقب حرب حزيران/ يونيو 67 تحديداً، في حين أنّها لم توليها اهتماماً خاصاً خلال عقدي الخمسينات والستينات، بل كانت تميل إلى التستر عليها. فموقفها آنذاك جاء متماشياً مع الموقف الرسمي الأميركي الذي لم يكن قد انحاز بعد بشكل سافر لمصلحة إسرائيل، ومع أولويات الحرب الباردة التي جعلت من ألمانيا الغربية حليفاً لأميركا. في سعيها لدفع تهمة الولاء المزدوج عن نفسها، لعبت تلك المنظمات دوراً سافراً في "تسخين" أجواء الحرب الباردة داخل أميركا بإسنادها للحملة المكارثية. أما إعادة اكتشاف المحرقة، فحصلت فعلياً حين لم يعد مصير إسرائيل مهدداً بالفناء من قبل العرب بعد أن أثبتت تفوقاً عسكرياً واضحاً عليهم في حرب 6719، وقيام تحالفها الاستراتيجي مع الولاياتالمتحدة. في موازاة ذلك تعاظم دور اليهود في الحياة الأميركية، حيث يشير المؤلف إلى أن مساحة التغطيات المخصصة لإسرائيل في جريدة "نيويورك تايمز" ازدادت بمقدار أربعة أضعاف في العام 1975، مقارنة بالفترة بين 1955-1965، وإلى ظهور اليهود كفئة مرفهة جداً داخل المجتمع الأميركي. ودليل ذلك أن بين الأربعين شخصاً الأكثر ثراء في الولاياتالمتحدة هناك 16 يهودياً، كما أن اليهود يشكلون فيها 40 في المئة من الحائزين على جائزة نوبل في الاقتصاد والعلوم، و20 في المئة من أساتذة الجامعات المهمة، و40 في المئة من شركاء المكاتب القانونية الرئيسية في نيويورك وواشنطن ص 32-33 من الطبعة البريطانيّة. يلتقي فينكلشتاين مع العديد من الكتّاب اليهود في الدعوة إلى تخليص المحرقة من إطار المصالح المادية والسياسية الضيقة. لكي نتعلم حقاً من المحرقة ينبغي أن "نقلّص بعدها المادي ونوسّع بعدها الأخلاقي". والتركيز على البعد الأخلاقي يضع فينكلشتاين في مواجهة مسألة التعويضات التي تتمسك بها "صناعة" المحرقة، والنخبة التي ترسم سياساتها. والمسألة تمثل، برأيه، عملية ابتزاز مكشوفة سواء تعلق الأمر بالرقم المطروح لعدد الناجين من معسكرات الموت النازية، أو بقضايا التعويضات المرفوعة ضد بعض الدول الأوروبية كألمانيا وسويسرا وبولونيا. فلئن كان عدد الناجين من المعسكرات النازية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية هو مئة ألف، فقد ارتفع بعد خمسين سنة إلى ما يقارب المليون! كيف حصل ذلك؟ يتساءل فينكلشتاين مقتبساً عبارة أمه المشككة بعدد من المدّعين بأنهم حقاً من الناجين من أهوال المحرقة. وأهميّة الاستشهاد هذا أن أم الكاتب إحدى الناجيات من المحرقة. إن الحافز وراء تضخيم العدد وتحريف المعطيات لا يعكس سوى حملة منظمة لإدامة المطالبة بالتعويضات. من ناحية ثانية، إذا كانت الحكومة الألمانية بدأت، منذ أوائل الخمسينات، بدفع تعويضات إلى المنظمات اليهودية بلغت قيمتها حتى الآن 60 مليار دولار، فإن المستفيدين الرئيسيين منها لم يكونوا الضحايا الأفراد، كما أشترط الطرف الألماني. بل تم صرف أغلب المبالغ لدعم الجماعات اليهودية في العالم العربي، ولتسهيل هجرة اليهود من أوروبا الشرقية، ولتمويل المتاحف والأقسام الجامعية المخصصة للمحرقة. في هذا السياق يناقش الفصل الثالث من الكتاب قضية الأموال المثارة في السنوات الأخيرة مع البنوك السويسرية، ويخلص إلى أن العدد الأكبر من الاتهامات جاء ملفقاً وينطبق على الطرف المتهِم أكثر من انطباقه على الطرف المتهَم. أخيراً، لعل نقطة القوة في كتاب فينكلشتاين السجالي تكمن في دعوته إلى تناول المحرقة النازية من منظور عقلاني نسبي، يضعها في سياقها التاريخي ويوقف التعامل معها بمنطق الابتزاز والمتاجرة. في نقده الجذري ل "صناعة المحرقة" يسير فينكلشتاين على خطى نعوم تشومسكي الذي يفند خطابات المنظمات الصهيونية، وأسس دولة إسرائيل ضمن تفنيده للهيمنة الإمبريالية في السياسة الأميركية