يقول الرئيس بيل كلينتون: "ان مفاوضات الوضعية النهائية بين اسرائيل والفلسطينيين تسير على خير ما يرام". ويضيف: "ان لدى الطرفين خطة حقيقية للمستقبل". تُرى ما هي هذه "الخطة"التي أشار اليها الرئيس الأميركي؟ ربما كان يشير الى جدول المحادثات الزمني المعدّل الذي اتفق عليه رئيس الوزراء الاسرائيلي ايهود باراك ورئيس السلطة الوطنية الفلسطينية ياسر عرفات، وهو الجدول الذي ينص على التوصل الى "اتفاق على الاطار العام" في شهر حزيران يونيو المقبل يتبعه اتفاق على الوضع النهائي - أي على تسوية جميع القضايا المعلقة التي تثير الخلاف بين اسرائيل والفلسطينيين ووضع نهاية للصراع المستمر بين الدولة العبرية والحركة الوطنية الفلسطينية منذ أكثر من مئة عام! صحيح أن باراك كان يأمل في احدى المراحل في التوصل الى مثل هذا الاتفاق الجامع الشامل. ولكن لا بد وأن الرئيس الأميركي يدرك جيداً ان باراك كان الوحيد الذي يحدوه الأمل في الوصول الى مثل ذلك الاتفاق، وأن القيادةالاسرائيلية هذه الأيام، بمن فيها باراك نفسه، يئست من امكان تحقيق اتفاق من هذا القبيل - سواء في أيلول سبتمبر المقبل أو في أي وقت آخر في المستقبل المنظور. فحقيقة الأمر هي أن الاسرائيليين والفلسطينيين أيضاً قرروا إحياء خطة لتمديد فترة الاتفاق الموقت، بصورة تكفل تلبية رغبة ياسر عرفات في دولة اسمها فلسطين، ورغبة اسرائيل النهمة في الأراضي الواقعة الى ما وراء حدود العام 1967. ومن المفارقات ان ايريل شارون كان أول من وضع هذه الخطة العام 1997. والحقيقة أيضاً هي أنه لم تكن هناك أي علاقة على الاطلاق بين العملية الرسمية للانتقال من الوضعية الموقتة الى الوضعية النهائية مثلما نصت اتفاقات اوسلو، وبين اعتراضات وأفضليات صنّاع السياسة الاسرائيلية، أو بين تلك العملية وقدرة الفلسطينيين على تحقيق مثل ذلك الهدف. إذ أن نظرة اسحق رابين الى اوسلو كانت محدودة بل وانتهازية، ولم تكن لديه أي خطة لانهاء الصراع. فقد وصف عملية المصالحة مع منظمة التحرير الفلسطينية طبقاً لما قاله كبير مفاوضيه يوري سافير، بأنها "أداة جديدة لتحقيق الأهداف الاسرائيلية التقليدية". إن عدم التفكير في ما هو أبعد من مجرد تحقيق الأهداف القصيرة المدى ليس مستغرباً بين السياسيين. فطالما سمعنا خلال السنوات الأخيرة، ومن وقت لآخر، بعض ساسة حزب العمل الاسرائيلي، مثل حاييم رامون، يتحدثون عن تفضيلهم التوصل الى اتفاق مع الفلسطينيين على "فترة موقتة" تدوم سنوات طويلة. وحتى يوسي بيلين وأبو مازن كانا يعرفان أن الاتفاق الذي حمل توقيعيهما ترك قضايا عدة معلقة، من بينها مدينة القدس ومسألة اللاجئين، لأنه لا يمكن حلها خلال أي جدول زمني محدد حتى ولو امتدت فترة هذا الجدول لعقود من الزمن. ولم تكن تلك المعرفة تعكس أفضليات سياسية مدروسة بقدر ما كانت تعكس ادراك الطرفين لحقيقة بسيطة وهي أنه مهما بلغ حسن النيات ومهما كانت منجزات الفترة الموقتة أو ازدياد الثقة المتبادلة بين الطرفين فإن كل هذا لا يمكن أن يسد الفجوة بين الاسرائيليين والفلسطينيين عند الحديث عن العناصر الرئيسية لاتفاق الوضعية النهائية وبصورة خاصة الأرض والمستوطنات واللاجئون والقدس. وهكذا لم يستطع مهندسو أوسلو، على رأي المثل، أن يحوّلوا القش الى ذهب. إذ أن الحافز الأساسي الذي كان يوجه جميع كبار القادة والساسة الاسرائيليين، من عمل وليكود، طوال فترة عملية أوسلو هو استعادة "الاحساس بالتوازن" الذي ساد في الضفة الغربية وقطاع غزة حتى اندلاع الانتفاضة الفلسطينية. بمعنى آخر ان ما يريده باراك هو "الهدوء... لا السلام". ويدين باراك بالفضل في مفهومه ل"الهدوء" مثلما تدين خريطته الراهنة للضفة الغربية، الى أريل شارون الذي لم يكف عن الحديث علانية منذ عام 1997 عن ضرورة تشكيل ائتلاف حكومي اسرائيلي قادر على تسخير فكرة الدولة الفلسطينية مثلما وردت في اوسلو لخدمة المصالح الاسرائيلية. ففي تشرين الثاني نوفمبر 1997 اجتمع شارون الى ساندي بيرغر مستشار الأمن القومي الأميركي لبحث السبل الكفيلة بعدم تقويض الدولة الفلسطينية التي وصفها شارون آنذاك بالأمر الواقع لأمن اسرائيل ومصالح الاستيطان في الضفة الغربية. وعقب ذلك الاجتماع أعلن مسؤول أميركي ان "شارون كان واقعياً ومعتدلاً". لكن شارون خرج من اجتماعه الى بيرغر وقد تعززت ثقته بأن الفلسطينيين "مهتمون بنوعية الأرض التي ستنتقل الى سلطتهم أكثر من اهتمامهم بمساحة تلك الأرض". وشرح شارون ذلك بقوله: "ان اسرائيل تفضل دولة فلسطينية في أجزاء من يهودا والسامرة أي الضفة الغربية على حكم ذاتي فلسطيني في كامل يهودا والسامرة". لكن هذه الدولة لم تكن جزءا من التفكير في الوصول الى اتفاق الوضعية النهائية وهو الاتفاق الذي قال عنه شارون انه غير محتمل، وانما هي عنصر أساسي في تصوره للوصول الى ما وصفه ب"أقل من السلام". وقد شرح ذلك في مذكرة رسمية تحت عنوان: "الأمن والتعايش: نهج بديل لكسر الاستعصاء بين اسرائيل والفلسطينيين" قدمها في تشرين الثاني نوفمبر 1998. إذ قال: "هذه هي رؤيتي للوضع الآن: من الممكن الوصول الى اتفاق مع الفلسطينيين في المرحلة الموقتة، وهو اتفاق مشابه نوعاً ما لمفهوم عدم الاعتداء. وفي هذا ما يتيح الفرصة أمام الفلسطينيين للاحتفاظ باتفاقات أوسلو والتمسك بها ويعطي اسرائيل الوقت الكافي لدراسة الوضع والتأكد من أن الظروف والشروط الضرورية للسلام الحقيقي الدائم قد تحققت فعلا". وكان رأي شارون يمثل اجماعاً وطنياً اسرائيلياً آنذاك، كما أن امكان تشكيل حكومة وحدة وطنية تتبنى برنامجه في العام 1998 كان قائماً. كذلك اجتمع شارون الى أبو مازن وأبو علاء في محاولة لاقناعهما بالتخلي عن أوسلو ومواعيدها الزمنية وتبني خطة للتوصل الى اتفاق موقت "شبه دائم" ينطوي على نوع من الدولة الفلسطينية في غزة وبعض أجزاء الضفة الغربية. لكن مساعيه باءت بالفشل. ولم تكن فكرة وضع جدول زمني على مدى عقود كاملة لتنفيذ مفهوم الوضع النهائي فكرة اسرائيلية بحتة. اذ أن بعض الفلسطينيين أيضاً يعتقد بأن أفضل ما يمكن أن يحققه المفاوضون في ظل الواقع الراهن واستحالة ارغام اسرائيل على الانسحاب الى خطوط العام 1967 هو الاتفاق على حلول جزئية لبعض القضايا الوضعية النهائية وتأجيل القضايا الباقية. واليوم، أصبح باراك لا شارون، هو الذي يتبنى مهمة ايجاد بديل سياسي وديبلوماسي مقبول لاتفاق الوضع النهائي. فبعدما كان باراك يعتقد فيما مضى أنه يمكنه الحصول على تنازلات فلسطينية في مقابل اعتراف اسرائيل بالدولة الفلسطينية في اطار اتفاق الوضعية النهائية، صار يعتزم كما يقول أحد المسؤولين الفلسطينيين "مبادلة الاستقلال الفلسطيني بعدم انهاء الصراع" أي الاعتراف بالدولة الفلسطينية مقابل تأجيل حل القضايا المهمة مثل المستوطنات والقدس واللاجئين وحتى الحدود. وما يريده باراك قبل أي شيء آخر هو أن يضمن وضع اعلان الدولة الفلسطينية في اطار عملية السلام لا أن يكون ذلك الاعلان خطوة من جانب الفلسطينيين وحدهم. ومن أجل هذا الهدف بدأ الاسرائيليون في تحليل المعاني الممكنة المختلفة للدولة الفلسطينية لكي يصبح تعريفها العنصر الأساسي في خطة جديدة تحل مكان اتفاق الوضعية النهائية الذي لا يمكن التوصل إليه. ويقول أمنون روبنشتاين الوزير السابق في حكومة رابين: "ليس هناك ما يدعو اطلاقاً الى أن يقود اعلان دولة فلسطينية الى نشوء أزمة أو حدوث عنف. فاعتراف اسرائيل بمثل هذه الدولة لا يعني بالضرورة الاعتراف بالحدود التي يعلنها عرفات" لأن حدوده ستشمل كامل الضفة الغربية وقطاع غزةوالقدسالشرقية. حتى لو صدر اعلان الدولة الفلسطينية عن الجانب الفلسطيني وحده فإنه لن يكون بمثابة ضربة قاضية للعلاقات بين الدولة الجديدة واسرائيل. فما دامت الدولة الجديدة ستمتنع عن فرض سيادتها رسمياً على أنحاء الضفة الغربيةوالقدسالشرقية وأجزاء من قطاع غزة التي ترفض اسرائيل التنازل عنها، وما دامت اسرائيل قادرة على منع الاعتراف الدولي والمهم الأميركي بالسيادة الفلسطينية على كامل أراضي الضفة الغربيةوالقدسالشرقية وقطاع غزة فإنه لن يكون هناك أي داع للنزاع. والواقع أن الفلسطينيين بدأوا يلمحون الى أنهم يفهمون قواعد اللعبة الجديدة التي بدأت كتابتها. إذ قال نبيل عمرو وزير الشؤون البرلمانية الفلسطيني قبل فترة وجيزة: "ان أراضي دولتنا معروفة. فإذا ما أعلنا قيام الدولة قبل أن تتحقق لنا السيادة على المنطقة بكاملها فاننا سنعلن للعالم ان المناطق التي لا تخضع لحكمنا، لا تزال مناطق محتلة". ومن المرجح أن اسرائيل لن تعترض على مثل هذه الصيغة. ويمكن لهذه الصيغة أيضاً أن تؤمن لاسرائيل ضم أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة التي توجد فيها المستوطنات. ومن البديهي أن ترفض الدولة الفلسطينية الجديدة ذلك على أساس انها جزء من كيانها. لكننا الجميع يعرف أن نزاعات الحدود أمر مألوف ودائم في الشؤون الدولية وأنه ليس من الضروري أن تتحول تلك النزاعات الى اشتباكات مسلحة. وهكذا سنجد أنفسنا في مواجهة وضع جديد: فمثلما سترفض اسرائيل الاعتراف بحدود فلسطين الجديدة المعلنة سيشاهد القادة الفلسطينيون حسب تعبير أحد المسؤولين الفلسطينيين، كيف ستضم اسرائيل المستوطنات إليها، من دون ان يستطيعوا ان يفعلوا شيئاً حتى وان لم "يوافقوا رسمياً" على ذلك. لكن اعلان الاستقلال الفلسطيني على رغم عدم الوصول الى اتفاق على الوضعية النهائية، وقيام دولة فلسطينية في كامل الضفة الغربية وقطاع غزة مع أن هذه الدولة لا تسيطر في واقع الأمر الا على نصف تلك الأراضي، وضم اسرائيل رسمياً لنسبة عشرة في المئة من أراضي الضفة، كل هذا لا يعني بالضرورة عدم استمرار التعاون الأمني وقيام علاقات سلمية بين اسرائيل وفلسطين، ومتابعة عملية سلمية لا نهاية لها من أجل تقرير ملكية ما بين نسبة 20 و30 في المئة من الأراضي المتبقية المتنازع عليها. وهذا هو في الواقع التصور الذي يخالج صناع السياسة الاسرائيليين والفلسطينيين هذه الأيام!