مع ان الديبلوماسيين يواصلون الحديث عن وجود خلافات على قضية مدينة الخليل فمن الواضح ان عملية اعادة انتشار القوات الاسرائيلية في المدينة تكاد تكتمل. اذ حدد الطرفان مناطق المدينة التي ستخضع للسيطرة الفلسطينية وتلك التي ستظل تحت سيطرة اسرائيل، كما ان بعض الوحدات الفلسطينية المسلحة دخلت المدينة وبدأ الجانبان القيام بدوريات مشتركة. علاوة على ذلك أخلت القوات الاسرائيلية المباني التي كانت تتمركز فيها داخل الخليل. والواقع ان الاتفاق الرسمي على اعادة الانتشار الذي سيثبت هذه التطورات لا يختلف كثيراً عن الاتفاق الذي كانت السلطة الفلسطينية توصلت اليه مع حكومة حزب العمل بزعامة شمعون بيريز. وفي هذا ما يعطي الفرصة لرئيس الوزراء بنيامين نتانياهو ليعلن انه ملتزم اتفاقات أوسلو وفي المقابل يستغل التعديلات الطفيفة من ناحية ثانية لكي يثبت للاسرائيليين مدى اهتمامه بأمن المستوطنين اليهود الأربعمئة الذين يقطنون داخل المدينة، وقدرته على انتزاع تنازلات من الفلسطينيين لم يكن في مقدور سلفه انتزاعها منهم. كذلك سيحاجج نتانياهو بأن الاتفاق الجديد يبرّر كل ما حدث منذ انتخابه في أيار مايو الماضي، وبصورة خاصة "انتفاضة" ايلول سبتمبر. لكن هناك من يستطيع مخالفة نتانياهو هذا الرأي. فمنذ انتخاب نتانياهو يمكننا القول ان مكانة ياسر عرفات تعزّزت بين أبناء شعبه وفي العالم العربي أيضاً، كما انتقل العبء من كاهله الى كاهل اسرائيل لكي تثبت مجدداً للعالم التزامها احلال السلام. كما ان اتفاق الخليل لا يبرّر اطلاقاً الموت والدمار اللذين حدثا في الأسبوع الأخير من ايلول، وإنما يكشف عن الثمن الباهظ الذي لا بد للحكومة الاسرائيلية الجديدة - وهي أول حكومة ليكودية تتنازل عن "جزء من أرض اسرائيل" - من ان تدفعه وهي تواجه الامكانات الضيقة التي تعرضها رعايتها لاتفاق أوسلو. فبعد اعادة الانتشار في الخليل لا تزال هناك قضايا عالقة وفي مقدمتها قضية المعتقلين الفلسطينيين، وسلامة المرور للفلسطينيين بين الضفة الغربية وقطاع غزة، واعادة انتشار القوات الاسرائيلية في أنحاء أخرى من الضفة الغربية التي كان ينبغي ان تبدأ في أيلول سبتمبر الماضي. وأمام هذه القضايا سيجد نتانياهو انه يواجه قيوداً مماثلة لتلك التي فرضتها عليه قضية الخليل. فهو يعرف الذي يفضل ان يفعله، لكنه يدرك في الوقت نفسه ما الذي تفرضه عليه الظروف. اذ ان نتانياهو يؤمن بأن المستوطنات هي العامل الأساسي في تقرير حدود اسرائيل ومدى سيطرة السلطة الفلسطينية على الأراضي المحتلة. وهو يعارض قيام أي دولة فلسطينية مع انه على استعداد لتوسيع نطاق صلاحيات السلطة الفلسطينية في قطاع غزة من دون الضفة الغربية. وهو في ذلك لا يختلف في الواقع عن اسحق رابين أو شمعون بيريز لأنهم جميعاً يؤيدون "قيام وجود فلسطيني شرط ألا يصل الى مرتبة الدولة". من هذا المنطلق ينظر نتانياهو الى الأراضي المحتلة على أساس تقسيمها الى ثلاث مناطق: واحدة يقطنها الفلسطينيون، وثانية للمستوطنات الاسرائيلية وثالثة خالية من السكان. ولذا فهو يريد انشاء تكتلات من المراكز السكانية الفلسطينية واليهودية ثم تقسيم المناطق الباقية بطريقة تضمن تحقيق مفهومه لمتطلبات الأمن الاسرائيلية. أما بالنسبة الى المستوطنات اليهودية المعزولة التي لا يمكن دخولها في هذه الترتيبات، فهو يعتزم ان يحذو حذو السابقة التي أرستها مستوطنة "نيتزاريم" في قطاع غزة التي تحظى بحماية عسكرية كبيرة. كذلك يعتزم فرض السيطرة الاسرائيلية على جزء كبير من المنطقة "ج" التي تمثل نسبة سبعين في المئة من مساحة الضفة الغربية ولا يوجد للسلطة الفلسطينية أي سيطرة فيها على الاطلاق، وحيث توجد المستوطنات اليهودية والمنشآت والمرافق العسكرية الاسرائيلية والأراضي التي تملكها الدولة، من خلال تصنيف ذلك الجزء بأنه "مناطق أمنية". أما القدس فهي بالنسبة الى نتانياهو مسألة لا يمكن الخوض في بحثها اطلاقاً بل ولا يمكن ادراجها على جدول الأعمال. في الخامس من ايلول سبتمبر الماضي أعلن نتانياهو في خطابه أمام اللجنة المركزية لليكود: "ليس هناك شيء اسمه دولة فلسطينية. ليست هناك دولة ولن تكون هناك دولة فلسطينية. ودعوني أضيف الى ذلك أمام الملأ: نعم هناك شرق أوسط جديد، شرق أوسط لن تظهر فيه أي سيادة اجنبية أو دولة بين الأردن والبحر. وسيظل الوجود اليهودي والمستوطنات اليهودية في يهودا والسامرة الضفة الغربية وسيعيش هذا الوجود وستعيش هذه المستوطنات وسيزدهران ويدومان الى الأبد. نعم، نعم، وفي قطاع غزة، وبالتأكيد في تجمع القطيف". واقع الأمر هو ان الخريطة التي وضعتها "أوسلو الثانية" كانت من بنات أفكار اسحق رابين، بل وهي نسخة طبق الأصل من خطة ارييل شارون لاقامة "كانتونات" فلسطينية معزولة وغير متصلة في الضفة الغربية وقطاع غزة تحيط بها المستوطنات والطرق الاسرائيلية. ومن الواضح ان نتانياهو ومستشاريه سعداء بهذه الخريطة التي تحدد سيطرة السلطة الفلسطينية ضمن اطار ضيّق باللون الأصفر، في مناطق صغيرة. ويقول الصحافي الاسرائيلي بن كاسبي: "ان نتانياهو سيعدّل في هذه الخريطة بصورة طفيفة هنا أو هناك، لكنه لن يتنازل عن أي شيء جوهري. ومن هذا المنطلق سيبدأ مفاوضات الوضعية النهائية". كذلك شرح ابراهام تامير كبير مستشاري نتانياهو للشؤون الاستراتيجية ما يحبذه رئيس الوزراء في شهر آذار مارس الماضي. اذ قال ان اتفاق الوضعية النهائية يجب ان يستند الى "اتفاق لندن" في نىسان ابريل 1987 الذي اقترح اشتراك الفلسطينيين والأردن واسرائيل في السيطرة على الأراضي المحتلة. والى ان يتم الاتفاق على ترتيبات الوضعية النهائية لا بد من تجميد تنفيذ ما تبقى من عناصر اتفاق أوسلو الثاني، وبشكل خاص اعادة انتشار القوات الاسرائيلية في المنطقة ب التي تؤلف 25 في المئة من مساحة الضفة الغربية والمنطقة ج التي تؤلف الباقي من المساحة. ويعتقد نتانياهو ومستشاروه بأن تطبيق اتفاق أوسلو الثاني حسب الجدول الزمني الموضوع لاعادة انتشار القوات الاسرائيلية سيجبر اسرائيل على التخلّي عن عناصر القوة الأساسية التي لديها، أي السيطرة على الأرض، قبل التوصل الى الاتفاق على الوضعية النهائية. ولهذا السبب يريدون الفصل الكلي بين أوسلو والوضعية النهائية. وفي هذا السياق يشير المسؤولون الاسرائيليون الى ان وثيقة الرابع من ايلول سبتمبر التي حددت صلاحيات اللجنة المشرفة على المحادثات الفلسطينية - الاسرائيلية لا تذكر شيئاً عن اعادة انتشار اضافية للقوات الاسرائيلية، وهي الوثيقة الوحيدة التي وقعتها حكومة نتانياهو مع السلطة الفلسطينية. وفي الخطاب الذي ألقاه نتانياهو في السابع من تشرين الأول اكتوبر الماضي أعلن تأييده لمبدأ "القفز" من أوسلو الى محادثات الوضعية النهائية. فمنذ سنوات والقيادة الفلسطينية تناشد اسرائيل ان تتبنى مثل هذه السياسة، لكن دون جدوى. وحين تبنّى يوسي بيلين مساعد بيريز وجهة النظر هذه كانت النتيجة انه استطاع التوصل الى اتفاق مفصل على الوضعية النهائية مع محمود عباس أبو مازن في أواخر العام الماضي. لكن تأييد نتانياهو لمحادثات الوضعية النهائية يأتي في وقت تتميز فيه الأجواء السياسية بالارتياب الشديد في سياساته واعتقاد الفلسطينيين بأنه يسعى في الواقع الى تقويض جهودهم الرامية الى الاستقلال بدلاً من تسهيلها، اذ قال فيصل الحسيني: "اعتقد بأنه يجب على اسرائيل ان تنفذ أولاً الاتفاقات المرحلية الانتقالية. واذا ما فعلت ذلك بسرعة وجدية فإن من المرجح ان تكون مفاوضات الوضعية النهائية مهمة جداً ولكن اذا ما أجلت تنفيذ الاتفاقات المرحلية فمن الذي سيضمن لنا انها ستلزم نفسها بمفاوضات جدية أو انها ستنفذ ما تتمخض عنه اتفاقات الوضعية النهائية؟ فقد تعلمنا درساً صعباً في الماضي، ونريد من اسرائيل الآن ان تثبت صدقيتها قبل المفاوضات النهائية". اثر ذلك أعلنت وزارة الخارجية الأميركية أيضاً تأييدها لهذا الموقف، اذ انها رفضت قبول وجهة نظر نتانياهو التي نقلها اليها وزير الدفاع الاسرائيلي اسحق موردخاي أثناء زيارته الأخيرة لواشنطن. وهناك الآن بعض المؤشرات الى ان نتانياهو يبحث، عقب المصاعب التي واجهها خلال الأشهر القليلة الماضية، عن وسيلة للتوفيق بين رغباته وبين الاقتناع العام بأنه يستطيع ان يعدل رغباته واراءه بطريقة تتلاءم مع متطلبات عملية أوسلو. وفي الأسابيع الأخيرة بدأ أعضاء حزب ليكود يدركون ان الهوة بين وجهة نظر زعماء حزب العمل من أمثال بيريز وإيهود باراك ويوسي بيلين ووجهة نظر نتانياهو ليست واسعة الى الدرجة التي كانوا يتخيلونها في السابق، مما يعني انه يمكن تضييقها. ولهذا طلب مساعدو وزير الخارجية ديفيد ليفي الاطلاع على الخطة التي وضعها أبو مازن وبيلين. كذلك طلبوا من يوسي ألفار الذي وضع خريطة مماثلة للاحتفاظ بالسيطرة الاسرائيلية على معظم المستوطنات والسماح في الوقت نفسه باقامة وجود أو "كيان" فلسطيني في معظم أنحاء الضفة الغربية، الاطلاع على تلك الخريطة للبحث في أي تعديلات ممكنة. وفي تصريح أخير لنتانياهو قال: "الحقيقة ان الاسرائيليين الذين يظنون انهم يؤيدون قيام دولة فلسطينية، لا يؤيدون ذلك في قرارة أنفسهم. ولهذا فإن الهوة بيننا ليست واسعة جداً". والمشكلة هي ان نتانياهو لا يستطيع حتى الآن ان يتصور، مثلما فعل حزب العمل، ان القيادة الفلسطينية يمكن في اطار التسوية النهائية، ان توافق على القيود الشديدة الواسعة النطاق على سيادتها. ولهذا ستؤدي محاولة حكومة نتانياهو لفرض أولوياتها ورغباتها في المفاوضات التي ستعقب الاتفاق على الخليل الى تفاقم الشكوك الفلسطينية وتأخير تنفيذ بنود أوسلو الثانية على رغم ضيق الهوة بين مفهومي بيلين ونتانياهو للحكم الذاتي