كانت الدكتورة نعمت أحمد فؤاد محقة جداً، عندما أطلقت على كتابها الذي وضعته عن أم كلثوم عنوان "عصر من الفن" فهي من خلال تعمقها في دراسة هذه الشخصية الفذة، أدركت أن النجاح الكبير الذي حققته أم كلثوم، والمستوى الذي وصلت اليه، انما كانا نتاج عصر كامل من الفن. فقد تضافرت عدة أسباب هامة ومجتمعة في اطلاق هذه المأثرة الفنية الرائعة التي سيطرت على عصر بل قرن بكامله هو القرن العشرون. البداية كانت مع نشأة أم كلثوم الأصيلة في كنف والدها الشيخ ابراهيم الذي لقنها القرآن تجويداً وترتيلاً وحفظاً ونطقاً، اضافة الى التواشيح الدينية والمدائح النبوية التي كانت مدرسة أم كلثوم واخوتها الأولى منذ الصغر. كانت تلك المدرسة هي التي شذبت وأغنت صوتها وحصيلتها اللغوية والنغمية فأجادت في طريقة اخراج الصوت وتربيته، وحفظ المقامات ومخارج الحروف، ولفظها. ومن البديهي القول إن هذه طريقة أثبتت نجاحها عند أغلب مطربي ذلك العصر الكبار من السيد درويش وحتى سيد مكاوي، لأنها طريقة عريقة وموروثة منذ القدم بالفطرة والسليقة من دون أي تكلف. وتشاء الظروف الرائعة التي خدمت أم كلثوم كثيراً، أن تظهر هذه الفنانة في عصر بدأت فيه الاختراعات والتكنولوجيا بالظهور، من تسجيل واذاعة وغيرها كوسيلة للانتشار والتسجيل. وكان أن ارتبط الراديو وظهوره، ببثه لحفلات أم كلثوم الشهرية، والتي أصبحت موعداً للمستمعين من الخليج الى المحيط موعداً آسراً ينتظره الجميع. ولقد ساعدت الاسطوانة و"الجرامافون" على تسجيل صوتها، بينما كانت هذه الظاهرة غير موجودة عند مطربات القرن الذي سبقها فضاعت أغانيهم واندثرت تقريباً وبقيت ذكراهم مقتصرة على ذكر أسمائهم وبعض صفاتهم التي حدثتنا عنها الكتب والمراجع. ثم ظهرت السينما فأضافت شهرة وترسيخاً فوق الشهرة الصوتية اذ ظهرت أم كلثوم فيها بالصورة والصوت معاً، فخلدت هذه الشخصية الفذة أكثر وأكثر. وهكذا كانت تكنولوجيا العصر في خدمتها ووسعت انتشارها وتعلق الجمهور بها أكثر وأكثر. غير أن القوة الحقيقية وراء ذلك الصوت النادر والمدروس، وراء أم كلثوم التي وصلت الى القاهرة في أوج قوة صوتها وتدريبه، كان وجود عمالقة آخرين ومواهب فذة تبادلت مع هذا الصوت وصاحبته المعرفة والعلم والتشجيع والحب، فأثمر ذلك التبادل أجمل الثمرات وأندرها. فكان محمد القصبجي مبدعاً في كل ما لحن لها وانطلقت موهبته الكامنة وأصالته على سجيتها أمام سحر الصوت وامكانياته الخارقة، ما شجعه على كتابة ليس فقط أجمل الألحان ولكن أصعبها أداء أيضاً. كانت ألحاناً من النادر على غير هذا الصوت اداؤها والتفنن في هذا الأداء. ومن أمثال مونولوجاته الرائعة "ان كنت أسامح وانسى الأسية"... أو "منيت شبابي" أو "ياما ناديت" أو مونولوج "يا نجم" أو "يا مجد ياما اشتهيتك" والتي قدمت أغلبها وغيرها في الفيلم السينمائي الرائع "نشيد الأمل" الذي تضمن أجمل ألحان القصبجي الرائعة والتي اتخذت مدرسة خاصة بها متجددة ضمن النطاق والقالب الشرقي الأصيل. لقد ثبت دائماً ان محمد القصبجي، هو الذي أعطاها أجمل الألحان الراقية بعد أبو العلا محمد، منذ وصولها الى القاهرة، وحماها من الألحان الهابطة، كما انه من المؤكد ان نشأتها المحافظة الدينية الريفية قد ساهمت إسهاماً قوياً في حمايتها من الإسفاف، ما جعلها تعطي الغناء والمغنى بعداً راقياً محترماً بعيداً عن الابتذال. ولقد جمعت أم كلثوم حولها العديد من الأدباء والعلماء وأبناء الطبقة المثقفة الراقية، ومنهم صديقها الشاعر الكبير أحمد رامي الذي كان هو والقصبجي بمثابة جناحيها اللذين طارا بها في أجواء وعوالم جديدة. هما اللذان كرّسا حياتهما وأعمالهما لخدمة هذا الصوت الرائع. ويكفي أن نعلم أن كل الأغاني الجميلة والتي طارت شهرتها بعيداً في عالم الغناء كانت من تأليف وتلحين هذا الثنائي الرائع: أحمد رامي ومحمد القصبجي منذ أغنية "ان كنت أسامح" التي بلغت شهرتها ان باعت حوالي مليون اسطوانة في ذلك الوقت أي في العام 1926 وحتى اغنية "رق الحبيب" الخالدة. الثنائي الآخر الذي رفد صوت أم كلثوم بأجمل الأغاني أيضاً والذي شكل مدرسة خاصة جداً تألف من بيرم التونسي والشيخ زكريا أحمد. كانا ثنائياً منسجماً جداً، بروح واحدة، قربت أم كلثوم في أغانيها أكثر من الناس في اغنيات مثل "أنا في انتظارك" و"هو صحيح الهوى غلاب" و"أهل الهوى يا ليل" و"الأولة في الغرام" و"برضاك يا خالقي" و"حبيبي يسعد أوقاته". ثم تجلت أجمل القصائد على يدي رياض السنباطي وبفضل موهبته الاستثنائية. لقد ارتبط اسم السنباطي بالقصيدة غالباً وشجعته أم كلثوم في تلك المرحلة لشدة حبها للقصيدة والشعر، فسمعنا أغاني رائعة من أشعار أحمد شوقي وحافظ ابراهيم مثل "ولد الهدى" و"مصر تتكلم عن نفسها" و"الى عرفات الله" و"سلو كؤوس الطلا" و"نهج البردة" ريم على القاع ثم قصيدة النيل من أي عهد و"الأطلال" الدكتور ابراهيم ناجي. كذلك فإن رغبة أم كلثوم في التطور ومجاراة العصر والتنوع، اعتمدت على مواهب أخرى في الكتابة والتلحين. وكانت الباحثة الدائمة عن آفاق جديدة في الكلمة واللحن فشجعت الكثيرين ما جعلنا نسمع ألحاناً جديدة لبليغ حمدي وكمال الطويل ومحمد الموجي من الذين شكلوا مرحلة جديدة من مراحل الغناء في مسيرة أم كلثوم الطويلة والفنية. اذ على ايديهم ولدت "الحب كله" و"أنا وأنت ظلمنا الحب" و"ألف ليلة وليلة" و"اسأل روحك" و"انساك". غير أن اللقاء الذي أثار ضجة كبرى وانتظره المعجبون بفن أم كلثوم طويلاً، كان لقاءها مع محمد عبدالوهاب عبر التعاون الذي تم بينهما بتشجيع من الرئيس جمال عبدالناصر. وبدأ بأغنية "انت عمري". وقد أطلق على ذلك اللقاء اسم "لقاء السحاب" عام 1964. وتميزت الأغنية بأسلوب جديد فاجأ أم كلثوم قبل أن يفاجئ غيرها بالمقدمة الموسيقية الطويلة وباستعمال آلة "الاورغ" الكهربائي والتي كانت خارج تصورها وشيئاً لم تعتد عليه من قبل. كانت تلك هي رغبة محمد عبدالوهاب الدائمة في البحث عن آلات جديدة وتطعيمها بالاوركسترا الشرقي، سواء في الآلات أو في الايقاعات، ليكون في تجدد دائم. وكلنا يذكر ايقاع الرومبا في اغنية "جفنه علم الغزل" منذ عام 1933 وإيقاع الفوكس في أغاني "الدنيا ساعة وصال" و"اجري اجري" و"المعادي" والبازودوبل في أغنية "يادي النعيم" و"انت وعزولي" و"يا مسافر وحدك"... ان تطعيم الموسيقى الشرقية بإيقاعات وآلات غربية ميز أغاني عبدالوهاب وأعطاها صفة العصرية والتجدد. ولم تفلت الحانه لأم كلثوم من ذلك التطعيم. لقد تعاونت أم كلثوم مع عبدالوهاب حوالي تسع سنوات قدمت فيها عشر أغنيات، كانت مثال الحس المرهف قال عنها عبدالوهاب "ان فيها ملامح عصر في طريقة الغناء والسلوك والشخصية والخلق، قدمت فناً بلا ابتذال، وسمت بأخلاق المهنة". والأغنيات العشر هي: "انت عمري" أحمد شفيق كامل 1964، و"انت الحب" أحمد رامي 1965، و"أمل حياتي" أحمد شفيق كامل 1965، و"فكروني" عبدالوهاب محمد 1966، و"هذه ليلتي" جورج جرداق 1968، و"على باب مصر" كامل الشناوي 1964، و"اصبح عندي الآن بندقية" نزار قباني 1969، و"دارت الأيام" مأمون الشناوي 1970، و"أغداً ألقاك" الهادي آدم 1971، و"ليلة حب" أحمد شفيق كامل 1973. عن صوت أم كلثوم ومواصفاته كتب الموسيقي المايسترو سليم سحاب ان لصوت أم كلثوم ستة عناصر قوة أولها المساحة اذ يغطي صوتها ديوانين من وسط موقع صوت البارتيون الصوت الرجالي المتوسط في تصنيفات الأصوات الغربية، وهذا نادر للغاية في أصوات المغنيات في العالم. ثم "التملك من الصوت": فقد كانت تستطيع ان تؤدي بسهولة جملاً غنائية صعبة للغاية، بزخرف صوت يصل الى حد الإعجاز. ثم "قوة الصوت": فقد كان غناؤها يعتمد على الضغط المباشر على الحنجرة ولذا كان الضغط الهائل على حنجرتها، وكانت تبتعد عن الميكروفون أكثر من متر في حفلاتها، فإذا ارتفعت نبرة الغناء ابتعدت مزيداً، وانقرضت فصيلة هذا الصوت في عصر الميكروفون. ثم "القوة البدنية": ذلك ان أطول حصة غنائية في أطول الاوبرات الأوروبية لمغن بمفرده، لا تزيد على أربعين دقيقة، ولا تتجاوز مدة الغناء المتواصل خمس عشرة دقيقة، أما أم كلثوم فتغني أربع ساعات وحدها، في سهرات تستمر في المعتاد مع الاستراحة واللوازم الموسيقية ست ساعات تقريباً. و"طول العمر": غنت أم كلثوم منذ كانت في سن الثالثة عشرة حتى الثالثة والسبعين أي ستين سنة كاملة، وليس في تاريخ الغناء في العالم ظاهرة مماثلة أو مقاربة. ولم يعرف مغنون أوربيون غنوا أكثر من أربعين سنة. وأخيراً "دقة الصوت": اذا أجريت سنة 1975 تجارب الكترونية لقياس نسبة النشاز في الأصوات المصرية المعروفة، ويذكر ان الطنين الكامل بين مقام "دو" ومقام "ره" يتخذ معياراً في القياس، إذ أن تسع الطنين هو الفارق الذي تستطيع الأذن العادية ان تميزه، وأظهرت الآلات الالكترونية أن دقة صوت أم كلثوم بلغت واحداً على الألف من الطنين، ودقة صوت عبدالوهاب واحداً من ألف ومائتين من الطنين، ولا يقال في هذين الصوتين إلا أن دقتهما مذهلة