مع أن تاريخ الموسيقى العربية في القرن العشرين سجل منذ محطته الكبرى الأولى، مع سيد درويش، فصلاً تاماً ناجزاً بين شخصية الملحن وشخصية المغني أو المطرب، بعد أن ظل التداخل بين الشخصيتين مسيطراً على تاريخ الموسيقى العربية في القرن التاسع عشر، فإن مرور قرن كامل على انجاز هذا التحول الجذري في حياتنا الموسيقية أثبت أنه ما زال غير كاف لتكريس هذا الفصل في ذهن جماهير المتلقين العرب، بل حتى في ذهن العاملين في حقل الموسيقى والغناء. أدى هذا الفصل، على الصعيد العملي للأمور، الى نتيجتين عمليتين متعاكستين: ففي حين أدى هذا الفصل بين شخصيتي الملحن والمغني الى رسم خط فاصل واضح يتيح وضع الملحن في المقام الأول من عملية الابداع، والمغني في المقام الثاني بصفته واسطة عقد بين المبدع الملحن والجمهور. فقد جاءت النتيجة العملية لهذا الفصل، على عكس المتوقع لها، لمصلحة المغني وليس لمصلحة الملحن، لسبب شكلي لا علاقة له بجوهر عملية الابداع، وهو أن الذي يظهر للجمهور عند تقديم العمل الفني سواء عن طريق الاذاعة، أو المسرح، أو التلفزيون هو المغني، وليس الملحن. وإذا كان المغني يمتلك موهبة فنية كبيرة، وشخصية جذابة ذات حضور جماهيري طاغ، وذكاء لماحاً في بناء شبكة علاقات خاصة وفي رسم صورة جذابة لظهوره في أجهزة الاعلام مثل ام كلثوم، وعبدالحليم حافظ، فإن الدائرة ستكتمل عندئذ وستتراجع صورة الملحن وراء صورة المغني تراجعاً قد يصل أحياناً الى حد التلاشي والغياب الكامل. على سبيل المثال: لقد انتظرنا أربعة وثلاثين عاماً بعد رحيل الموسيقار محمد القصبجي، حتى يظهر مسلسل "أم كلثوم" ليوضح للناس ان محمد القصبجي لم يكن مجرد عازف عود وراء أم كلثوم، بل كان استاذها الأساسي بعد والدها والشيخ أبو العلا محمد ومؤسس انتقالها من مرحلة أداء التواشيح الدينية الى اداء الغناء العربي الكلاسيكي، وراعي دخولها عصر التخت الموسيقي أولاً، ثم الأوركسترا الكبيرة بعد ذلك، ومبدع الجزء الأساسي من النتاج الفني الرفيع الذي صنع مجد أم كلثوم خصوصاً بين 1928 و1944. وانتظرنا ثلاثة وعشرين عاماً بعد رحيل عبدالحليم حافظ حتى يخرج أحد صانعي هذه الظاهرة الغنائية التي سيطرت على الغناء العربي في النصف الثاني من القرن العشرين كمال الطويل، يخرج عن صمته بنبرة تململ حضارية، ليسجل اعتراضه بأسلوب راق ومتحضر، على ما أسماه "مولد سيدي عبدالحليم"، فيرفض للمرة الأولى المشاركة في هذا "المولد"، لأنه تحول من مناسبة فنية لإلقاء مزيد من الأضواء على كل ينابيع الابداع الشعري والموسيقي التي صنعت مجد عبدالحليم حافظ، الى مناسبة تشبه "حلقة الذكر" التي تكتفي بترديد جمل فارغة من المديح الشكلي الخارجي السطحي لهذه الظاهرة الفنية، وكأن عبدالحليم حافظ هو المسؤول الوحيد عن ينابيع الابداع التي صنعت مجده الفني في الشعر الوطني والشعر الرومانسي والألحان المتجددة والتوزيع الموسيقي الراقي. ظل الاعلام العربي، وهو يحيي ذكرى عبدالحليم حافظ منذ رحيله في العام 1977، يتجاهل بشكل غريب سمير محبوب ومرسي جميل عزيز ومحمد علي أحمد وصلاح جاهين، مع أنهم صناع النبرة الشعرية الجديدة التي كان عبدالحليم ناطقاً باسمها، كما يتجاهل كمال الطويل ومحمد الموجي وبليغ حمدي ومنير مراد وعلي اسماعيل واندريا رايدر، صناع النبرة الموسيقية الجديدة التي كان عبدالحليم حافظ ناطقاً باسمها، مع أن كل هؤلاء كانوا على قيد الحياة، بل ان اسم موسيقار العرب الأول في القرن العشرين محمد عبدالوهاب اختفى كمبدع موسيقي وراء اسم مؤدي ألحانه عبدالحليم حافظ. وفي حال عدم التجاهل، كان أصبح الحديث عن أي من هؤلاء المبدعين يصورهم على أنهم موظفون ملحقون ببلاط عبقرية عبدالحليم حافظ المتفردة. ان كمال الطويل، هو آخر المبدعين الموسيقيين الأحياء الذين صنعوا ظاهرة عبدالحليم حافظ، وهو يستحق منا وقفة تأمل في شخصيته الموسيقية الفذة، وتحليلاً لملامحها الأساسية، كما تجلت من خلال حنجرة عبدالحليم حافظ، ومن خلال حناجر مهمة اخرى مثل أم كلثوم وفايزة كامل وفايزة أحمد ونجاة الصغيرة ومحمد قنديل، في أعمال فنية رفيعة يكاد ذكرها يختفي، هي الأخرى، وراء أسلوبنا الغريب في الاحتفاء بذكرى عبدالحليم حافظ، في كل عام منذ رحيله. الارستقراطي الشعبي تكونت شخصية كمال الطويل الانسانية والفنية، في أكثر من مسار تاريخي واجتماعي وثقافي، وكان لكل من هذه المسارات أثر واضح في تكوين ملامح هذه الشخصية. فكما أن أفراد المجموعة التي صنعت أمجاد الموسيقى العربية في النصف الأول من القرن العشرين، قد ولدوا بين 1892 و1906 من سيد درويش الى السنباطي، مروراً بالقصبجي وزكريا أحمد وعبدالوهاب فإن مجموعة أخرى تولت مواصلة الابداع الموسيقي العربي في النصف الثاني من القرن العشرين، ولدت في العقد الثالث من القرن العشرينات. من أفراد هذه المجموعة: كمال الطويل ومحمد الموجي في مصر، والاخوين رحباني في لبنان. أما المسار الثاني، الذي يعتبر "الرحم" الفني الذي ولد وترعرع فيه كمال الطويل، فله في ذلك تصريح لافت أطلقه منذ سنتين، يقول فيه انه ظل يعتقد هو والموجي أنهما متأثران أساساً بعبدالوهاب، حتى اكتشف أخيراً أن تأثره الأساسي هو بمحمد فوزي خصوصاً في الألحان ذات النبض الحيوي السريع والمدة الزمنية القصيرة. والحقيقة أن اكتشاف كمال الطويل لتأثره بمحمد فوزي لا يتناقض أبداً مع حقيقة أن كل أبناء جيله، والجيل السابق والتالي، قد تأثروا بثلاثة مجددين أساسيين هم على التوالي سيد درويش ومحمد القصبجي ومحمد عبدالوهاب. وفي ما يتعلق بعبدالوهاب بالذات، يمكن القول انه قد رسم في انتاجه ما بين 1927 و1939 أي بين جارة الوادي والجندول كل ملامح التجديد في التلحين العربي والغناء العربي. ولو توقفنا عند اغنية "يا ناسية وعدي" من فيلم "يوم سعيد"، 1937، فإننا سنجد فيها كل ملامح التجديد اللحني لمحمد فوزي وكل من جاء بعده ومنهم كمال الطويل، وكل ملامح النبرة الغنائية الجديدة التي ظهر بها عبدالحليم حافظ في الخمسينات، وسيطر بها على المزاج الغنائي في النصف الثاني من القرن. أما المسار الاجتماعي - السياسي الذي تكونت فيه شخصية كمال الطويل الانسانية والفنية، فقد شارك الطويل زميليه الموجي وعبدالحليم الانتماء الى الجيل الذي ترعرع وتكون في رحم التحولات السياسية والاجتماعية الكثيفة في عقدي الثلاثينات والأربعينات، والذي انطلق الى العطاء والابداع مع تحولات ثورة 23 تموز / يوليو في عقدي الخمسينات والستينات، بكل العناصر السياسية والاجتماعية والثقافية والانسانية لهذه التحولات، وان كان كمال الطويل قد تميز عن رفيقيه، بل عن بقية رفاقه من أبناء ذلك الجيل، بأنه قادم من بيئة اجتماعية موسرة عمه باشا. ومع أن هذا الانتماء الاجتماعي لم يقف حاجزاً أمام اندفاع كمال الطويل مع أبناء جيله للانتماء الى تحولات عقدي الثورة، بلا تحفظ، فإنه ميز شخصية كمال الطويل الانسانية والفنية، بمعادلة انسانية وفنية رائعة ونادرة هي مزيج من رقي السلوك الارستقراطي وحرارة وعفوية الروح الشعبية، ولم يكن غريباً أن تظل هذه المعادلة، حتى يومنا هذا، تحكم سلوك كمال الطويل الانساني، تماماً كما تحكم روح وملامح انتاجه الفني. ويؤكد هذه الملاحظة ويغنيها الاستشهاد بحقيقة فنية بالغة الدلالة استمعت اليها من الفنان الطويل مباشرة، عندما طرحت عليه سؤالاً عن علاقته بالآلات الموسيقية، وأبديت دهشتي من انقطاع الصلة بينه وبين آلة العود، آلة التلحين عند كل مبدعي الموسيقى العربية، بمن فيهم رفيق عمره محمد الموجي، علماً أن كثيراً من ألحانه الكبيرة هي من مقامات عربية أصيلة لا يمكن عزفها على البيانو، الآلة الوحيدة التي يجيد كمال الطويل العزف عليها. ضحك كمال الطويل عند اثارة هذا الموضوع، ثم قال بجدية: ربما كان السبب أن الظروف التي جمعتني بآلة العود في أيام شبابي الأولى، لم تكن لمصلحة هذه الآلة. فقد درجت سيدات عائلتنا الارستقراطية، من عاشقات الموسيقى العربية التقليدية القرن التاسع عشر على استئجار عازف عود، يحيي لها جلسات الطرب، فيعزف ويغني محفوظاته من الغناء القديم، وقد كان هذا العازف ذا شخصية مهلهلة، أقرب الى المرتزق بآلة العود، منه الى الفنان الذي يعبر عن وجدانه بتلك الآلة. ويبدو أن صورة العود قد اتخذت لدي من يومها صورة ذلك الفنان الغلبان. ولكن... شاء حسن حظ الموسيقى العربية المعاصرة، وحسن حظ كمال الطويل شخصياً، ألا تؤدي هذه الظروف الغريبة الى حال تغرب فني، فقد ظلت المقامات العربية طوال رحلته الفنية تضج في أعماق وجدانه، وتلهمه ألحاناً بالغة الروعة والعمق على مقامات السيكا والصبا والبياتي والراست، وما لا يستطيع عزفه على البيانو من مقامات عربية، كان ينتقل من مخيلته الى النوطة الموسيقية رأساً، من غير المرور بآلة العود أو سواها. ويمكن الاستطراد الى آخر مدى في رصد تجليات ذلك المزيج الفريد من التربية الارستقراطية والروح الشعبية، في سلوك كمال الطويل الاجتماعي وفي انتاجه الفني على حد سواء. فشخصية كمال الطويل بين كبار الملحنين العرب، تذكر كثيراً بشخصية مندلسون بين كبار الكلاسيكيين الأوروبيين، الذين كان معظمهم خارجاً من بيئة فقيرة، ويعاني العوز في معظم فترات حياته، اذا لم يحظ برعاية النبلاء. أما مندلسون فقد كان ابناً لعائلة موسرة، وكان ينفق على فنه، ولا يتكسب منه. وكان كمال الطويل بالفعل من الملحنين النادرين المنحدرين من طبقة اجتماعية موسرة، وقد انعكس ذلك على اعراضه في كثير من الاحيان عن تقاضي ثمن لألحانه من المطرب، حتى عندما كان كبار المطربين والمطربات يسعون الى الحانه، ولا يسعى هو اليهم. كذلك، لم تسجل حياة كمال الطويل الفنية المديدة خلافاً مادياً بينه وبين أي فنان. كما لم يسجل عليه أي خروج على تقاليد اللياقة والترفع، عند حدوث أي خلاف، على علاقة بعمل من أعماله الفنية. هذا في مجال السلوك الشخصي، أما في مجال الانتاج الفني، فإن كمال الطويل الذي كان مشبعاً في شبابه الباكر بعظمة الموسيقى الأوروبية الكلاسيكية، مما انعكست آثاره في كثير من ألحانه خصوصاً لعبدالحليم حافظ ونجاة الصغيرة، قد عكس في أعماله بالدرجة نفسها رصيده الوجداني المشبع بالألحان الشعبية المصرية وتراث التواشيح الدينية والتجويد القرآني. وهو لم يترفع على سبيل المثال عن طرق باب المونولوجست الشعبي محمود شكوكو ليقنعه بغناء لحن من ألحانه، عندما كان يبحث مع رفيقه عبدالحليم حافظ عن بداية معقولة لحياتهما الفنية. ولا يحتاج المستمع الى كبير عناء لاكتشاف معادلة الارستقراطي - الشعبي في مجمل نتاج كمال الطويل الفني، فما عليه سوى اختصار الطريق والمقارنة بين لحن "يا رايحين الغورية" غناء محمد قنديل ولحن "الناس المغرمين" غناء محمد عبدالمطلب من جهة، ولحني "بلاش عتاب" و"الشوق والحب" لعبدالحليم حافظ ونجاة الصغيرة على التوالي، حتى يضع يده على ثمار هذه المعادلة في شخصية كمال الطويل. كمال وعبدالحليم مع أن التغطية الاعلامية الرائجة لفن عبدالحليم حافظ توحي بأن بدايات كمال الطويل الموسيقية كانت من خلال حنجرة عبدالحليم حافظ، على قد الشوق فإن التسلسل الزمني للوقائع يؤكد عكس ذلك من ان بدايات عبدالحليم حافظ كانت من خلال الحان كمال الطويل. وليس في ذلك أي لعب بالألفاظ، ولا هو لهو بتفاصيل شكلية. فالحقيقة هي أن عبدالحليم حافظ كان لا يزال فناناً تائهاً يبحث عن طريقه الفني كعازف لآلة الاوبوا فهو لم يقرر احتراف الغناء إلا لاحقاً، عندما كان كمال الطويل قد انطلق في بدايات مميزة عبر لحن ديني رائع غنته فايدة كامل دعاء: الهي ليس لي إلاك عونا. وكان كمال الطويل قد عثر على القصيدة في ملفات والده وأجرى عليها أولى تجاربه اللحنية، فجاءت تجربة ناضجة، تعلن منذ الخطوة الأولى ميلاد موهبة لحنية كبيرة. كما أنه وضع لحنين رائعين لأحد أهم الأصوات في مرحلة ما قبل عبدالحليم حافظ، وهو صوت محمد قنديل بين شطين ومية، ويا رايحين الغورية مبدعاً نمطاً جديداً من الغناء الشعبي الراقي. بعد ذلك، وعندما حصل كمال الطويل على وظيفة في الاذاعة المصرية، جاء دور زميله في الدراسة الموسيقية عبدالحليم حافظ، فاختار له قصيدة حزينة لشاعر ناشئ في ذلك الوقت سيتبوأ بعد ذلك موقعاً مرموقاً بين كبار شعراء الحداثة العرب صلاح عبدالصبور، وهو لحن عبر كمال الطويل في ما بعد عن عدم اعجابه به، لأن رصانته الفائقة وميله الشديد الى الحزن جعلاه غير ملائم لتقديم صوت جديد شاب الى جماهير المستمعين. ويبدو أن هذا الرأي النقدي لكمال الطويل كان لا يخلو من الصحة على رغم جمال اللحن ورقيه، لأن عبدالحليم لم تكتب له الشهرة إلا في لحن الطويل الثاني له على قد الشوق ولحن الموجي الثاني أيضاً صافيني مرة الذي تلى لحن "يا تبر سايل". ومن المهم هنا تسجيل الواقعة التي تؤكد أن اعجاب الموجي بصوت عبدالحليم الذي سيضع له بعد ذلك الحاناً رائعة وغزيرة كان من خلال لحن كمال الطويل الأول له "لقاء". مرة ثانية يظلم المنطق الاعلامي السطحي عطاء كمال الطويل الثري والمتنوع من خلال حنجرة عبدالحليم حافظ فيحصره، أو يكاد، في الأغاني الوطنية التي أرخت لثورة 23 يوليو في جميع مراحلها. والحقيقة أن هذه الألحان تستحق وقفة خاصة لأنها جاءت لوناً جديداً من الشعر الغنائي والتأليف الموسيقي. بدليل أنه عندما وضع كمال الطويل أول هذه الألحان الشهيرة "حكاية شعب" عن السد العالي وكلامها لأحمد شفيق كامل، شاعر "انت عمري"، وليس لصلاح جاهين الذي سيحتكر في ما بعد هذا اللون أو يكاد فإن النبرة الشعبية للشعر الغنائي، والنمط السردي المباشر فرضا على الملحن الشاب المبدع ابتكار اسلوب اتكأ فيه على تراث سيد درويش، المطعم بشخصية كمال الطويل، والمستفيد من انجازات مرحلة ما بعد سيد درويش، ومع ذلك كان كمال الطويل وعبدالحليم حافظ لا يستبعدان فشل هذا اللحن، ولكنهما فوجئا بطلب جمال عبدالناصر إعادة اللحن من أوله مرة ثانية، كما فوجئنا باتشار كاسح للحن تجاوز مصر الى كل البلاد العربية، وخط منحىً حديثاً في الأغنية الوطنية السردية، التي تتطلب تنويعاً هائلاً في التلحين، قادراً على حمل بانوراما المشاهد المتنوعة في هذا النوع من الأغنيات. ولكن ذلك لم يكن انجاز كمال الطويل الوحيد في الأغنية الوطنية على أهميته البالغة بل ان مناسبات سياسية كثيرة جاءت تفرض لون الأغنية الوطنية السريعة الخاطفة خلي السلاح صاحي، ولا يهمك يا ريس، احلف بسماها وهو نمط راوح بين الأهزوجة الشعبية احلف بسماها والنشيد العسكري خلي السلاح صاحي. وقد تحولت الأولى الى افتتاحية تعمد عبدالحليم حافظ أن يفتتح بها جميع حفلاته الغنائية العاطفية من النكسة حتى العبور. وكان بين الثمار اليانعة لهذا اللون استنطاق غني حديث للأوركسترا العربية الكبيرة، توسعت فيها، بفضل عبقرية كمال الطويل في الصوغ اللحني وعبقرية علي اسماعيل وأندريه رايدر في التوزيع الموسيقي، امكانات استخدام للأوركسترا الكبيرة المستعارة من الغرب، للتعبير عن أشكال حديثة من الموسيقى العربية ذات الهوية العربية الواضحة المعالم التي لا تستبعد أياً من المقامات العربية مثل الهزام والراست والبياتي وسواها بل تضعها في أحضان الأوركسترا الكبيرة على قدم المساواة مع المقامات الخالية من ثلاثة أرباع الصوت مثل النهوند والعجم والكورد. ومع ذلك، فإن هذا الانجاز الأساسي لكمال الطويل لا يجوز أن يحول الأنظار عن ابداعه في مجال الأغنية العاطفية لعبدالحليم، حيث غطى مساحة واسعة من الألوان الموسيقية الحديثة والمستحدثة، نشير على سبيل المثال الى موشح يا ضنين الأمس، وقصيدة لا تلمني، التي بقيت حدثاً فريداً في تلحين القصيدة العربية لا سابق له ولا لاحق، لقصرها الزمني ثلاث دقائق وايقاعاتها السريعة الحيوية، ومزاجها المتفائل النشط. ولعل نفور كمال الطويل المبكر من صورة عازف العود المرتزق الغارق في الحان القرن التاسع عشر، والمتجمد عند بداية القرن العشرين، هو الذين أطلق في شخصيته الموسيقية ذلك الحافز المتعطش الى الأوركسترا الكبيرة، سواء في الأغنية الوطنية أو العاطفية حتى، فانضم بذلك الى نفر مميز من ملحني القرن العشرين الذين كانوا يضعون عيناً على الأوركسترا وعيناً على صوت المغني، بل أن كفة الأوركسترا كانت ترجح لديهم في كثير من الأحيان، مع أن ابداعهم الموسيقي كله في حال كمال الطويل بالذات انحصر في تلحين الأغنيات. ونكتفي في هذه الدراسة السريعة عن كمال الطويل بالتذكير بأغنيات مثل سمراء، بعد إيه، في يوم في شهر، بلاش عتاب ونعم يا حبيبس. أما اغنياته العاطفية القصيرة لعبدالحليم فكانت مباراة في الرومانسية الحديثة مع رفيق دربه محمد الموجي، وان كان الموجي قد أغرق في الرومانسية وأشجانها، فقد بقيت رومانسية الطويل في الغالب تحتفظ بمسحة الحيوية والتفاؤل التي تبدو ترجمة فنية لمناخ البحر الأبيض المتوسط ذي السماء الصافية والشمس الساطعة. أصوات أخرى مرة أخرى، وأخيرة، يحجب التناول الاعلامي الذي يحصر كمال الطويل في "مولد عبدالحليم حافظ"، انتاجاً غزيراً ورفيع المستوى قدمه الطويل بصوت نجاة الصغيرة بشكل خاص وفايزة ووردة وشادية وصباح وسواهن. فازاحة الستار عن هذا الجانب من ابداع كمال الطويل، تكشف لنا عن رصيد من الألحان العاطفية البالغة الرقي والحداثة، أنجزه كمال الطويل لحنجرة نجاة الصغيرة، لا يقل في مستواه وغزارته عما لحنه لعبدالحليم حافظ في الأغنية العاطفية، نكتفي بالتذكير بأحد أروع نماذجه "الشوق والحب حلي". ومع أن كمال الطويل في حال اعتكاف طويل، فقد حركت كوامنه أخيراً قصيدة مرهفة للشاعرة الأميرة سعاد الصباح، لحنها لنجاة الصغيرة، واعتبرها كل من استمع الى تسجيلها الذي لم يفرج عنه بعد، تحفة فنية من رحيق العصر الذهبي، ليت ملحنها يجد سبيلاً لكسر حاجز سوء التفاهم بينه وبين مطربتها حتى يرتوي المستمع العربي بمائها العذب في صحراء الغناء العربي الراهن. أما لقاء صوت أم كلثوم بألحان كمال الطويل ومحمد الموجي فقد كان أول خروج لحنجرة أم كلثوم العبقرية من اطار المثلث الذهبي القصبجي وزكريا والسنباطي. ومع أن هذا اللقاء انحصر في لحنين: عاطفي وديني هناك لحن ثالث نشر ضد رغبة الطويل وأم كلثوم فإنه يبقى عنواناً بارزاً في عبقرية كمال الطويل اللحنية. ففي نشيد "والله زمان يا سلاحي" فرض الطويل نفسه أخصائياً في نمط المارش الوطني الكلاسيكي الكبير، على طريقة المارشات ذات القيمة الكلاسيكية في الغرب، مع تطعيم رائع وطبيعي بمزاج عربي يحول شحنة الطرب الى شحنة حماسة وطنية مقطع يا مجد يا مجدنا. أما لحنه الديني "لغيرك ما مددت يداً"، فقد أمسك فيه الطويل بزمام اللون الكلثومي الكلاسيكي العريق وكأنه أمضى في ممارسته سنوات طويلة، فجاء لحنه بنكهة مميزة لشخصية كمال الطويل، على رغم اتكائه على اللون الكلثومي - السنباطي. ولقد حظي نشيد والله زمان يا سلاحي بشرف التحول الى نشيد وطني لمصر طوال فترة عبدالناصر منذ تأميم قناة السويس حتى حانت ساعة استبداله منطقياً بعد أن عزف في استقبال السادات في فلسطينالمحتلة. وعندما وضع كمال الطويل لحنه الوحيد لحنجرة المطرب العظيم محمد عبدالمطلب، جاء اللحن يضاهي أجمل وأعمق ما لحنه العبقري محمود الشريف لحنجرة عبدالمطلب، وهو صاحب التخصص الطويل في هذه الحنجرة. ولعل أهم انجازات كمال الطويل المحجوبة بغبار التغطية الاعلامية السطحية، نمط الأغنية الاستعراضية خفيفة الظل، في الأفلام والمسلسلات التلفزيونية، وهو نمط يعتز به عن حق كمال الطويل، كما يعتز بالحنجرة المميزة التي أدته حنجرة سعاد حسني لأنه لون يخرج على كلاسيكية الطرب، ليطلق العنان للخيال التعبيري الحر وفقاً للمواقف الفنية المتبدلة في الأعمال السينمائية والتلفزيونية فيلم خللي بالك من زوزو، ومسلسل هو وهي، على سبيل المثال. بقي السؤال الأهم عند الحديث عن شخصية كمال الطويل، كآخر صنّاع ظاهرة عبدالحليم حافظ بيننا: لماذا صمته الطويل الآن، ولماذا كسله الواضح في مراحل سابقة؟ باختصار شديد، لأن كمال الطويل مبدع كبير لا تحركه إلا حوافز الابداع الكبير عندما توجد، أما عند غيابها، فالصمت عن الكلام وعن التلحين أجدى وأليق.