أثار قصف "كرملين" الجمهورية الاسلامية في ايران، بمدافع الهاون، حفيظة الايرانيين، وأجج مشاعر القلق لديهم. فهذه العملية، ألحقت خسائر محدودة، لكنها مست خطاً أحمر لأن الموقع تحتشد فيه مراكز السلطة ممثلة بالمرشد آية الله علي خامنئي، ورئيس الجمهورية محمد خاتمي، ورئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام هاشمي رفسنجاني، ولذلك يعرف باسم "كرملين" طهران. وسواء المجموعة التي قامت بالعملية من "مجاهدي خلق"، وجدت مساندة من الداخل أم لم تجد، فإن الأثر الذي تركته على سطح الحياة السياسية يبدو مهماً. وتعود هذه الأهمية أولاً الى المخاطر المحتملة، وأصيب أحد أعضاء "الكرملين"، وخاصة المستهدف الرئيسي فيها وهو الرئيس محمد خاتمي. ومجرد حصول ذلك يمكن ان يفتح الابواب امام احتمالات أخطر، منها انفجار شعبي نتيجة للشعور بالمؤامرة، وصولاً الى فرض حالة الطوارئ ونزول العسكر الى الشوارع. كما ان العملية الهجومية اكدت ان معارضة الاصلاح والاصلاحيين، وعلى رأسهم خاتمي، ليست حكراً على خصومه المحافظين. وانما تمتد الى الخارج لأسباب مختلفة، لكنها تتقاطع في وحدة الهدف، اذ ان المحافظين يعارضون للمحافظة على مواقعهم في السلطة وللدفاع عن خطهم الفكري المحافظ والسياسي المتشدد. اما معارضة الخارج، خصوصاً منظمة "مجاهدي خلق"، فهي تعتبر خاتمي وحركته الاصلاحية خطراً على وجودها ومستقبلها. فهذه المنظمة المصنفة باعتبارها ارهابية في ايران وفرنسا والولايات المتحدة، عاشت ونمت في الخارج على "بيع" صورة نظام يصدر الارهاب في الداخل والخارج. ومع مشروع خاتمي القائم على قاعدتين: بناء المجتمع المدني وحوار الحضارات، سقطت تلك الصورة. ونجاح المشروع الخاتمي داخلياً يسحب من تحت أرجلها دعاوى التغيير، خصوصاً ان وراء هذا المشروع مداً شعبياً أساسه الشباب والنساء. والأثر المهم الذي تركته العملية ايضاً نتيجة شعور الايرانيين عموماً، والاصلاحيين خصوصاً بأن الهدف الكبير هو اشاعة التطرف تحت شعار الدفاع عن الجمهورية. ولذلك حذر الإصلاحيون من استغلال المحافظين أو غيرهم للعملية، وبذلك تم وضعها بسرعة خلف الستار، وترك مسار العملية السياسية ممثلة بالانتخابات التشريعية يكتمل، ليتوج بفوز للاصلاحيين في الانتخابات التشريعية، مما يفتح الآفاق أمام البدء الفعلي "للجمهورية الخاتمية". وأضحى واضحاً قبل بضعة ايام من بدء الدورة الأولى للانتخابات التشريعية ان الاصلاحيين "جبهة 2 خرداد" تاريخ فوز خاتمي بالرئاسة في ايار مايو 1997 سيفوزون ويحققون اكتمال وصول خاتمي للرئاسة على الصعيد الشعبي من خلال تثبيت وتأكيد هذا المد وعدم اعتبار ما حصل لدى انتخابه مجرد حالة استثنائية. وبذلك تكون حالة مستمرة، وكذلك إكمال الإمساك بمفاتيح السلطة من خلال الفوز بغالبية مقاعد السلطة التشريعية، وهذا التحول يعني اخراج المشروع الخاتمي من صيغة الخطاب السياسي والشعارات الى قرارات وقوانين. ولعل ما يؤكد هذا الفوز ان المحافظين أخذوا يعترفون، علناً وضمناً، بالتحول المهم في اتجاهات الرأي العام، بعدما كانوا يعتبرون حتى الأمس القريب بسلامة خطابهم السياسي، فأخذوا يعدلون لهجتهم الى درجة ان النائب المحافظ المعروف حسن غفوري فارض أعلن "ان الفصيل اليميني تعلم كثيراً من اخطاء الماضي وسد النقص فيها". ويعني ذلك ان اليمين سيتحدث بلغة جديدة وسيشجع روح التفاهم. انهم يراجعون شعاراتهم، ويحاولون تجنب التوتر بين الفصائل، واتخاذ خطوات لحل المشاكل التي تواجه أفراد الشعب. ولا شك في ان الاصلاحيين، على رغم تعدد منظماتهم واحزابهم وتياراتهم الفكرية، ربحوا المعركة قبل الانتخابات، لأنهم اختطوا استراتيجية واضحة، واستخدموا تكتيكات فاعلة. اذ ان "جبهة 2 خرداد"، اعتمدت استراتيجية مواجهة التطرف بالاعتدال، والخطاب الشعبي الذي يطاول مختلف شرائح المجتمع الايراني لإنجاز الاصلاح المطلوب" بدلاً من الخطاب الفئوي، اما التكتيك المتبع فكان الاعتماد على الصحافة المكتوبة المباشرة من دون قيود حتى لو أدى ذلك الى إقفالها واحدة تلو الأخرى، واسقاط عدد من المحرمات التي استمرت طوال عقدين من عمر الثورة، ووضع مختلف حركاتها ومطالبها تحت سقف القانون، ومطالبتها بأن تكون حركة الآخرين خاضعة لهذا القانون نفسه، ولذلك فإن "مصفاة" مجلس صيانة الدستور ضد المرشحين للانتخابات، لم تنجح في شيء سوى منع حوالى ستة في المئة من المرشحين، مما مكن الاصلاحيين من دفع كادرات مهمة من الصف الثاني والثالث الى الامام. وبالنسبة الى الشعارات التي طرحتها جبهة الاصلاحيين بدا واضحاً ان الهموم اليومية الشعبية شكلت المحور الأساسي. ويمكن اختصار هذه الشعارات في ما يأتي. - "ايران لكل الايرانيين". وقد أثار هذا الشعار كبار المحافظين الى درجة ان آية الله مصباح يزدي اعتبر ان الشعار يساوي بين الايراني المسلم وحتى الفقيه وبين البهائي. - القيم الروحية والعدالة والحرية. وهذا الشعار وهو ل"حزب المشاركة" فيه عودة الى بدايات الثورة مؤكداً بذلك ان الاصلاح هو من صلب الثورة وليس ضدها أو خارجها. - 29 بهمن تاريخ الانتخابات التشريعية الذي يصادف 18 شباط الجاري، تكرار 2 خرداد تاريخ انتخاب خاتمي وهذا يؤكد استمرارية الحركة الشعبية . سؤالان كبيران يخيمان على ايران في عز هذه الحملة الانتخابية: ما هو مستقبل الرئيس السابق هاشمي رفسنجاني؟ ما هي النسبة التي ستفوز بها "جبهة 2 خرداد"؟ ويبدو السؤال الأول، مهماً جداً، ليس لأنه يتعلق بشخص رفسنجاني، ولكن بمستقبل التوازن داخل السلطة في الجمهورية الاسلامية، اذ ان فوز رفسنجاني - يعني في اطار اللعبة السياسية - انتخابه رئيساً لمجلس الشورى، مما سيجعله - حكماً - الرجل الثاني - بعد المرشد خامنئي. وهو قادر على الإمساك بخيوط السلطة مستمداً ذلك من دوره التاريخي في الجمهورية الذي جعل منه "قلعة" النظام. واستكمالاً لذلك، إمساكه بإدارة اللعبة السياسية من خلال التحكم بالسلطة التشريعية، ويقود ذلك حكماً الى إلغاء دور خاتمي. هذا "الخطر" على "جمهورية خاتمي" وانحياز رفسنجاني الى خط اليمين المحافظ، حوله خصماً مباشراً ل"2 خرداد". وتحولت المواجهة الى داخل الجبهة، ولذلك فإن اسم رفسنجاني لم يرد على لوائح "المشاركة". ويعني ذلك ان رفسنجاني لن يكون الأول في طهران مما يحرمه الترشيح لرئاسة البرلمان. وهو ما يعتبر ضربة مباشرة. وتكتمل هذه الضربة التي يسعى إليها أقطاب "المشاركة" مثل محمد رضا خاتمي شقيق خاتمي وعباس عبدي وسعيد حجاربات، الى انتخاب رفسنجاني في طهران خلف ابنته فائزة التي أدرج اسمها في لوائح "المشاركة"، ومن المرجح ايضاً ان يحل كل من محمد رضا خاتمي ومحمد نوري شقيق وزير الداخلية السابق عبدالله نوري في طليعة الفائزين وبذلك تكتمل هزيمة رفسنجاني على الصعيد الانتخابي. اما الهزيمة الأخطر بالنسبة الى رفسنجاني فتتمثل في انفجار حزبه "كوادر البناء" بين مؤيدين له حتى النهاية، وهم أساساً أفراد عائلته ابنته فائزة وابنه محسن وشقيقه محمد وصهره، ومعارضون لتوجهه وانحيازه لليمين المحافظ مثل وزير الإرشاد عطاء الله مهاجراني. ولعل أقسى ما تلقاه رفسنجاني، ان غلام رضا كرباستشي رئيس كوادر البناء الخارج لتوه من السجن فضل التفرج على الانتخابات ومعاينتها عن قرب بدلاً من الاندفاع في قيادة حملة رفسنجاني كما كان يتوقع. وكان يمكن لهذا الخلاف مع رفسنجاني ان ينعكس سلباً على "جبهة 2 خرداد"، لكن الخلافات داخل حزب "كوادر البناء" من جهة، والتجذر والالتفاف الذي حصل داخل الجبهة ووضوح استمرارية المد الشعبي، اكد الاحتمالات الكبيرة لفوز الاصلاحيين. ويأمل الاصلاحيون بأن يفوزوا في الدورة الأولى بحوالي 120 مقعداً من أصل 290، وان يكتمل حصولهم على حوالي 65 في المئة من مقاعد المجلس في الدورة الثانية. يبقى ان معركة مهمة جرت على أطراف الحملة الانتخابية، وهي مهمة على صعيد مستقبل "الجمهورية الاسلامية"، وتؤكد ان العملية الاصلاحية التي يقودها خاتمي ليست أحادية تقتصر على السلطة فحسب، بل هي شاملة وعميقة. والمقصود بذلك حادثة آية الله مصباح يزدي، مدرس علم الأخلاق في حوزة قم، وهو عملياً من أبرز منظري اليمين المحافظ. وقد وصل به الأمر الى درجة التصدي لخاتمي أثناء حضوره مؤتمراً عقد العام الماضي في جامعة طهران حول فكر الإمام آية الله الخميني، وقد فنّد مقولاته واحدة تلو الأخرى. وخلال هذه الحملة، ارتكب يزدي خطأ يعود بشكل واضح الى عدم ادراكه لعمق التغيير الذي حدث، فقد اتهم بعض الصحافيين بتلقي رشوات من الاميركيين. هذا القول كان يمكن في السابق ان يمر من دون ان يتصدى له أحد. لكن في "جمهورية القانون" تصدى له أقطاب الاصلاحيين، وعلى صفحات الصحف. ووصل الأمر الى رسمه كاريكاتورياً في هيئة "تمساح". ولمعرفة حجم هذا التحول، فإن مجلة "كلى اغا" الساخرة التي تصدر منذ أكثر من عشر سنوات، لم ترسم مطلقاً رجل دين بطريقة كاريكاتورية، ولكن الأمر طاول الآن أحد آيات الله البارزين، ولم تقف الحملة عند هذا الحد، بل ذهب عباس عبدي الى القول ان يزدي ليس "تمساحاً" بل هو "حورية"، وهذا ما يحمل تفسيرات وتأويلات. والضربة الثانية جاءت من خلال اقتصار الاحتجاجات على اعتصام حوالي ألف طالب من طلاب حوزة قم الذين يبلغ عددهم 35 ألفاً، ومن خلال تأكيد وزير الثقافة انه لن يستقيل. والنتيجة المكملة لكل ذلك ان النقاش الأساسي الطاغي على احتمالات ما بعد الفوز هي: هل يكون رئيس المجلس المقبل معمماً أم مدنياً؟ وفي زمن العولمة لمختلف الاحزاب حضور ملموس أثير على شبكة "الانترنت" والاستفتاءات الشعبية. واذا لم يحصل أي زلزال مفاجئ، فإن هذه الانتخابات ستشكل في نتائجها منعطفاً يؤدي عملياً الى اعلان "الجمهورية الخاتمية" مع كل ما يعني ذلك من تحولات اصلاحية مفتوحة على الثورة والدولة معاً