تبدو قواعد "الأولمبياد" الحيواني الافتراضي سهلة تماماً، ان احداً لا يدعس ولا يأكل ولا يلتهم الآخر، فاللاعبون جاؤوا من "مناطق" متباعدة تماماً، وما يفصلهم ليس الجغرافيا، ليس وحدها على الأقل، بل بيولوجيا الكائنات الحية. ذلك هو الاعلان الافتراضي عن "الأولمبياد الحيواني الشامل" حيث يتبارى الأفضل من لاعبي الأرض في كل الألعاب مع "أنداد" من عوالم الحيوانات والوحوش والزواحف بل وحتى الحشرات. وبحكم الحال، لن يتضمن هذا الأولمبياد ألعاباً جماعية يخوضها فريق ضد آخر. ومهما ذهبت القوة البيولوجية بالانسان، فإن العمق الأعمق في كينونته وهويته هو العقل والذكاء. من بين كل المخلوقات على الارض، يمتلك الانسان وحده فكراً فاعلاً خلاقاً ومنتجاً، وذاك ما يميزه عن كافة الاشكال الأدنى من "الذكاء" الحيواني، كمثل ما تمتلكه الدلافين أو القردة. وحدهم البشر بمقدورهم تأليف فرق تتفاهم بالكلمة والنظرة فيفوزون بكل الميداليات الذهبية والفضية والبرونزية في جميع ألعاب الفرق، أي كرة السلة والطائرة واليد وسباقات البدل والتتابع، ولكنهم يعجزون عن الفوز امام الحيوانات في الالعاب الفردية. أول ذهبيات الحيوان يحصدها الفهد الأبيض "الشيتا"، فهذا الراكض على أربع هو أسرع عداء على الأرض اذ تصل سرعته الى 135 كيلومتراً في الساعة. ولا تأتي سرعة "الشيتا" من ساقيه وحوضه، مثل الانسان، وانما من جماع قوى جسده المليء بالعضلات القوية. تدفعه أطرافه الخلفية والأمامية بحجمها الضخم، قياساً الى مجمل الجسم، ويستفيد من ليونة ظهره وغياب عظام الكتف اذ تتصل سواعده مع الجسم بالعضلات وحدها. وعندها يتقلص ليقارب الأربع مقوساً ظهره الى حده الأقصى، يعقب ذلك دفع مذهل، يرتكز الى القوائم الخلفية المندفعة، هي ايضاً، الى الامام! وتكفل هذه القوة الرهيبة للفهد الأبيض كل الميداليات الذهبية لسباقات الركض من مسافة 100 متر وحتى 1500 متر، ولا يحتاج سوى الى 15 ثانية لقطع 400 متر، أي أقل من ثلث وقت أسرع عداء بشري. وفي سباق 1500 متر، يعاني أبطال الجنس البشري ارهاقاً شديداً فيما "الشيتا" ينهي السباق بدقيقة واحدة أي أسرع بمرتين ونصف من الرقم العالمي القياسي لهذه المسافة. لكن ثمة وميض أمل. إذا ما قرر الفهد الأبيض اختبار قواه الهائلة في مسابقات المسافات الطويلة، فإنه يخسرها كلها بدءاً من سباق الخمسة آلاف متر. فتلك الاندفاعات القوية تحتاج الى حرق كميات كبيرة من السعرات الحرارية داخل جسد "الشيتا" الحار أصلاً، اذ لا تنخفض حرارته الداخلية عن 102 درجة فهرنهايت. وفي جري المسافات القصيرة، تتسرب الحرارة الاضافية من العضلات الى الخارج، لكن طول مدة الركض يؤدي الى احتباس 90 في المئة من الحرارة داخل الجسم. ولدى بلوغ الحرارة 105 درجات فهرنهايت، يصدر مخيخ "الشيتا" أمراً صارماً بوقف كل حركة تحت طائلة تلف الأعضاء الحساسة بفعل الحرارة اللاهبة، بينما يتابع عداؤو البشر جريهم، معتمدين على "نظام تبريد" مزدوج من العرق ومسامات الجلد. وهكذا يتنفس الجمهور البشري الصعداء مع فوز العداء الأثيوبي هايلي جبري سيلاسي بسباق الخمسة آلاف والعشرة آلاف متر. لكن ماذا عن الكلاب والأحصنة، أوَليست عداءات يعتد بها؟ مع الاقتراب من المسافات الطويلة جداً، لا يعود الفوز هنا بقوة العضلات وانما بقدرتها على الابتراد أولاً، وكذلك الحصول على كميات مناسبة ومتواصلة من الأوكسجين. فهنا تظهر ميزة المشي المنتصب على الساقين. وثمة سابقة تاريخية. ففي أولمبياد لندن 1908 أدخلت الرقابة المستمرة على سباق الماراثون، واعتمد منظمو الأولمبياد على الأحصنة. لكنها لم تستطع اكمال السباق، فأحضرت خيول اضافية لمتابعة عدائي الماراثون. وفي تلك السابقة، كانت الخيول مسرجة وممتطاة، ما عنى عبئاً على جريها، لكن حتى اذا ما أزيل عنها الحمل، فإن خطوها على أربع، مع تركز معظم عضلاتها في الأطراف، يعني انفاقها لكميات كبيرة من السعرات الحرارية واحتياجها الى ابتراد سريع لا يمنحه لها جسدها المغطى بالوبر والصوف، وفقدانها لنظام تعرّق كفوء. وبالطبع تعجز رئتاها، على رغم حجمها الكبير، عن امدادها بالأوكسيجين الوافر. وتلعب الجاذبية لعبتها ضد جهازها الدوري، فتتركز كميات متزايدة باستمرار، من الدم في أطرافها. واجتماع كل تلك الأمور يدفعها الى العجز عن الفوز بالماراثون المعقود اللواء للانسان. يبقى سباق الخمسة آلاف متر قلقاً، وهنا يلعب العلم لعبته. طبعاً، حتى في "الماراثون الحيواني" تبقى المنشطات ممنوعة، وهي غير مجدية في هذه الحال، لكن ثمة خدعة ممكنة، تسمى "الدم المنشط". يسحب متبارو المسافات المتوسطة كمية من دمهم قبل السباق بأسابيع، ويعوض الجسم بأن يضخ كريات حمراء "شابة" ذات قدرة عالية على التقاط الأوكسيجين. وقبل الركض بساعات قليلة، يعاد الدم المسحوب لتفادي حدوث نقص في الحديد! وإذا ما أقيم الماراثون في سيدني الأسترالية، فلسوف يخيب فأل عدائي الماراثون من البشر. ففي سيدني، هناك بطل الاقتصاد في صرف السعرات للمسافات الطويلة، أي الكانغرو! يثب على قدمين خلفيتين فقط، ذات عضلات مرنة وقوية وغير متضخمة، فيدفع نفسه منفقاً بعض السعرات، ثم يطير ويحط فتنكمش كالزنبرك تلك القائمة عينها، في حركة تتولاها الجاذبية الأرضية وليونة المفاصل ويكاد لا ينفق سعرة واحدة في تقليص "الزنبرك" العضلي. إذن، يقطع الكانغرو نصف الماراثون من دون حرق سعرات، فيبقى حرقه للسعرات الحرارية منخفضاً وكذلك حرارة جسمه، ولا يتزايد تطلبه للأوكسجين. حتى ان انقباضه وطيرانه يعتبران فترة "استراحة بين قفزتين". لقد سحبت ذهبية المسافات المتوسطة والطويلة من أساطين البشر الذين يكتفون بالفضة والبرونز تاركين الذهب للكانغرو ذي الوبر الذهبي على أي حال! ويخسر الجنس البشري كل سباقات السباحة لكل المسافات، فهو ضعيف في الماء وبطيء، أما سمك الباراكودا مثلاً، فتصل سرعته الى 45 كيلومتراً في الساعة! والمفاجأة الفعلية تكمن في الملاكمة، حيث مزيج المشي على القدمين والاستعمال الذكي للقبضات، مع التذكير بفرادة قبضة اليد الانسانية بين كل الانواع، ما يجعل الانسان ملاكماً لا يقهر، وفي كل الأوزان! ويتكرر الفوز نفسه مع المصارعة الرومانية ورمي الرمح والطبق والرمي بالقوس ورمي المطرقة وكل ما يعتمد على مزيج الدماغ واليد. والمفارقة ان معظم تلك الألعاب هي ما مارسه قدماء اليونان في أولمبياداتهم وجسدوه رسماً ونحتاً. وتذهب ميداليات الجمباز كافة الى الانسان، لكن قِرَدَة الغابون تنتزع منه ميداليات العارضتين غير المتساويتين بفضل قدرتها على اتمام دورات كاملة اعتماداً على امساكها بالعارضة! وإذا أُخِذَ طول الجسم في الاعتبار، فإن القملة هي سيدة الوثب بلا منازع، اذ تقفز 300 ضعف طول جسمها. وإذا ما أراد الانسان بلوغ هذا المستوى، توجب عليه القفز فوق برج إيفل! وفي مقارنة مشابهة، فإن هرقل الأولمبياد الحيواني في رفع الأثقال هو... النملة! تلك الصبورة الدؤوبة ترفع 5 - 7 أضعاف وزن جسمها. وقبل سنتين عمدت شركة "اي.بي.أم." الى نشر صورة مذهلة تظهر نملة تحمل في فمها رقاقة كومبيوتر "Microchip" سيليكونية. وفي أولمبياد سيدني استطاع التركي هليل موتلو تحقيق انجاز انساني بأن رفع ما يقارب ثلاثة أضعاف وزن جسمه ما دون 58 كيلوغرام. ومع "إنجازات" الانسان في الأوزان الأخف، يستطيع الانسان ان يطمح الى المنافسة ربما على برونزية الأثقال! أما إذا لم يؤخذ الوزن النسبي، أي بين الجسم والثقل المرفوع، فإن الفيل لا يضارع أبداً. ولا يجيد أي متبار غير بشري استعمال الزانة للقفز بأفضل من سيرغي بوبكا. وباختصار، لا يبدو الجسد الانساني على الهشاشة التي يتصورها الكثيرون، بالمقارنة مع الحيوانات. وبالطبع، لا يتمكن اي صنف حيواني من المشاركة بكفاءة للمنافسة مع الانسان في كل المسابقات. فالحيوانات تتفوق في نوع محدد من الحركات، لكن براعة جسد الانسان تكمن في تعددية قابلياته ومطواعيته لأداء الأصناف المختلفة من الحركات، وذاك ما يعزّ على أي جسد حيواني. هذا بالمعطى الجسدي المباشر، فإذا ما أضيف الذكاء الى الأمر، ظهر "الإنسان الأولمبي" في تألق عال. ولعل بعضهم يرى في النتائج النهائية للأولمبياد الحيواني الشامل، الافتراضي بطبيعة الحال، صورة عن الأطوار الأولى لظهور الانسان. قبل العلم، وقبل الاختراعات الحديثة والتكنولوجيا، ارتكز البشر الى الجسد والعقل، والى أنسهم ببعضهم البعض وتآلفهم في مجتمعات، فسادوا في أرض ليسوا فيها الأقوى ولا الأعلى ولا الأسرع!