إذ تنشَدّ أبصارهم إلى "دورة الألعاب الرياضية" في الصين، يستمتع البشر راهناً بتألق الجسد الإنساني وضمنه المُعوّق في الرياضة بأنواعها كافة، والتي يفترض أن توصل الجسد، خلال الأولمبياد في كل مَرّة الى مستوى أشد علواً في الحدود القصوى لقدراته البيولوجية. وتبدو الأجسام الرياضية، إذ تطير في الهواء وتدور لتهبط على الأكف ثم تنطلق مجدداً أو ترفع أثقالاً تصل الى ربع طن الرقم القياسي العالمي هو 263.5 كيلوغرام لرفعة النتر، كأنها تتسيد ذروة ما يصل إليه الجسد الحي على الأرض. ولكن ماذا لو لم يكن الأمر يتعلق بالمنافسة بين البشر حصراً؟ ماذا لو دارت تلك المسابقات بين الأصناف الحيّة فكأنه"أولمبياد حيواني شامل"، مع إعطاء"ضمانات"كافية بلجم شهوات القتل والالتهام! الأولمبياد الحيواني الشامل تبدو قواعد"الأولمبياد الحيواني"الخيالي سهلة تماماً: لا يدعس أحد أحداً، ولا يلتهم الواحد الآخر. يجيء اللاعبون من"مناطق"متباعدة. وما يفصلهم ليس الجغرافيا وحدها، بل بيولوجيا الكائنات الحيّة. يصلح ذلك إعلاناً خيالياً عن"الأولمبياد الحيواني الشامل"، حيث يتبارى الأفضل من لاعبي البشر في كل الألعاب مع"أنداد"لهم في عوالم الحيوانات والوحوش والزواحف وحتى الحشرات. وبحكم الحال، لن يجدي ان يتضمن هذا الأولمبياد ألعاباً جماعية يخوضها فريق ضد آخر. فالأرجح أن يحتكر البشر مثل تلك المسابقات. ومهما قيل في قوة الانسان البيولوجية أو ضعفها، فإن العمق الأعمق في هويته يتمثّل في العقل والذكاء. يقدر البشر وحدهم على تأليف فِرق تتفاهم بالكلمة والنظرة، وتفهم القوانين وتتصرف بناء عليها. إذن يحصد البشر ميداليات الذهب والفضة والبرونز لألعاب الفرق، مثل كرة القدم والسلة والطائرة واليد، وسباقات البدل والتتابع. لكن، لن يضمن البشر فوزاً سهلاً في أي من الألعاب الفردية. يحصد الفهد الأبيض"الشيتا"أول ذهبية للحيوانات. إن هذا الراكض على أربع هو أسرع عدّاء. وتصل سرعته إلى 135 كيلومتراً في الساعة! لا أمل للجامايكي الملتهب الخُطى أوسيان بولت بمنافسته. ولا تأتي سرعة"الشيتا"من ساقيه وحوضه كالحال عند الإنسان، بل من مجموع قوى جسده المملوء بالعضلات القوية. تدفعه أطرافه الخلفية والأمامية بحجمها الضخم، قياساً إلى مجمل الجسم. ويستفيد من ليونة ظهره وغياب عظام الكتف، فتتصل سواعده مع الجسم بالعضلات وحدها. وعندما يُقلّص جسمه تتقارب أطرافه الأربعة، ويتقوس ظهره إلى حدّه الأقصى. ويعقب ذلك انطلاق مذهل، وخصوصاً بفضل اندفاع القوائم الخلفية أيضاً إلى الأمام. وتكفل هذه القوة الرهيبة للفهد الابيض كل الميداليات الذهبية لسباقات الركض من مسافة مئة متر وحتى ألف وخمسمئة متر. ويحتاج خمس عشرة ثانية ليقطع أربعمئة متر، أي أقل من ثلث وقت أسرع عدّاء بشري. وفي سباق الألف وخمسمائة متر، يعاني أبطال الجنس الانساني إرهاقاً شديداً، فيما"الشيتا"يُنهي السباق بدقيقة، أي أسرع بمرتين ونصف مرة من الرقم العالمي القياسي لهذه المسافة. الكنغارو بطل الماراثون لكن ثمة وميض أمل. إذا قرّر الفهد الأبيض اختبار قواه الهائلة في مسابقات المسافات الطويلة، فانه يخسرها كلها، بدءاً من سباق خمسة آلاف متر. إذ تحتاج اندفاعات"الشيتا"القوية لحرق كميات كبيرة من السُعرات الحرارية في جسده الحار أصلاً، والذي لا تنخفض حرارته الداخلية عن 38.7 درجة مئوية. وفي جري المسافات القصيرة، تتسرب الحرارة الإضافية من العضلات إلى الخارج. ومع المسافات الطويلة، يُحتَبَس تسعون في المئة من الحرارة داخل الجسم. ولدى بلوغ الحرارة 40.5 درجة مئوية، يُصدر مخيخ"الشيتا"أمراً صارماً بوقف كل حركة تحت طائلة تلف الأعضاء الحسّاسة بفعل الحرارة اللاهبة. وهكذا، يتابع عداؤو البشر جريهم، معتمدين على نظام"تبريد"مزدوج من العرق ومسامات الجلد. وربما يتنفس الجمهور البشري الصعداء، مع فوز العداء الأثيوبي المُخضرم هايلي جيبري سيلاسي بسباق العشرة آلاف متر. لكن ماذا عن الاحصنة والكلاب، أوَليست عدّاءات يُعتد بها؟ مع الاقتراب من المسافات الطويلة جداً، لا يعود الفوز مرهوناً بقوه العضلات، بل بقدرتها على الابتراد أولاً، وكذلك الحصول على كميات مناسبة من الأوكسجين في شكل متواصل. وهنا تظهر ميزة المشي المَرِن على القدمين. وفي المقابل، تعدو الحيوانات على أربع، وتحرق سُعرات كثيرة لتمدُ عضلات أطرافها بالطاقة. ولذا، تحتاج إلى ابتراد سريع لا يمنحه لها جسدها المغطى بالصوف والوبر، مع العلم أنها لا تملك نظام تعرٍّق كفيّ أيضاً. وكذلك تلعب الجاذبية لعبتها ضد جهازها الدوري، فتتركز كميات متزايدة باستمرار من الدم في الأطراف الأربعة الكبيرة. ويؤدي اجتماع تلك الامور إلى عجزها عن الفوز بالماراثون. هل يعني ذلك فوزاً حتمياً للانسان في سباق الماراثون؟ الأرجح أن لا. فالأرجح أن لواء الفوز في ماراثون الركض معقود ل... الكنغارو: بطل الاقتصاد في صرف السُعرات للمسافات الطويلة. يثب الكنغارو على قدمين خلفيتين لهما عضلات مرنة وقوية وغير متضخمة، فيدفع نفسه منفقاً القليل من السعرات. ثم يطير ويحطّ، فتنكمش تلك القوائم عينها كالزنبرك، تساعدها الجاذبية الارضية وليونة المفاصل. ويكاد أن ينفق سعرة وحيدة في كل"نطة". اذن، يقطع الكانغارو نصف الماراثون من دون حرق الكثير من السعرات، ما يُبقي حرارة جسمه خفيضة، وكذلك حاجته الى الأوكسجين. ويمكن أن تعتبر"نطنطاته"كأنها"استراحة بين انطلاقتين". لقد سُحبت ذهبيات المسافات الطويلة والمتوسطة من أساطين البشر، الذين يكتفون بالفضة والبرونز، تاركين الذهب للكنغارو ذي وبر الذهب أصلاً! مفاجأه الملاكمة والقفز و... الأثقال يخسر الانسان كل سباقات السباحة، لكل المسافات، فهو ضعيف في الماء وبطيء. لا يجدي الحديث عن كبر قدمي السبّاح الأميركي الهائل مايكل فيليبس وعرضهما، وأنهما تساعدانه على دفع جسمه في الماء بقوة. ولا يستفيد فيليبس أيضاً من البدلة التي صُمّمت لكي ينساب الماء حولها فتزيد من سرعته. ولا يستطيع التونسي أسامة الملولي الاقتراب من أي ميدالية، حتى لو شبّهَهُ البعض بالحوت. يكفي القول ان سمك الباركودا مثلاً، يسبح بسرعة 45 كيلومتراً في الساعة. وثمة مفاجأة فعلية في الملاكمة، حيث مزيج المشي على القبضتين والاستعمال الذكي للقبضات، مع فرادة يد البشر وتركيبها، تجعل الإنسان ملاكماً لا يقهر، وفي كل الاوزان. ويتكرر الفوز مع المصارعة الرومانية ورمي القرص والرمح والقوس والمطرقة، وكل ما يعتمد على مزيج الدماغ واليد. ولنتذكر أن معظم تلك الالعاب مارسه قدماء اليونان في أولمبياداتهم، وجسدوه رسماً ونحتاً. ولأسباب مُشابهة، تذهب ميداليات الجمباز إلى الانسان. لكن قردة الغابون تنتزع منه ميدالية العارضتين غير المتساويتين، بفضل قدرتها على إنجاز دورانات كاملة أثناء إمساكها بالعارضة. وإذا أُخذ طول الجسم في الاعتبار، فإن البرغوث هو سيد الوثب العالي من دون منازع. اذ يقفز ثلاثمئة ضعف طول جسمه. واذا ما اراد الانسان بلوغ هذا المستوى، توجب عليه القفز أعلى من برج"ايفل"! وفي مقارنة مشابهة، فإن هرقل"الأولمبياد الحيواني الشامل"في رفع الاثقال هو... النملة! تلك الصبورة الدؤوبة ترفع من خمسة إلى سبعة أضعاف وزن جسمها. ولم يستطع الربّاع التركي هليل موتلو وزن ما دون 58 كيلوغراماً، وهو من أساطين رفع الاثقال في تاريخ اللعبة، سوى رفع ثلاثة اضعاف جسمه، وقد نظر إلى ذلك باعتباره انجازاً كبيراً. ويتمكن الأبطال من ربّاعي الأوزان الثقيلة من رفع 2.5 ضعف وزن أجسادهم. واذا لم يؤخذ الحساب النسبي للجسد مع الوزن، فإن الفيل هو سيد الأثقال من دون منازع. وإذا عاد الروسي سيرغي بوبكا إلى التباري، فلربما تفوّق على كل منافسيه من الحيوانات في القفز بالزانة. وبالاختصار، لا يبدو الجسد الانساني هشاً بالطريقة التي يتصورها الكثيرون. وتتفوق الحيوانات في بعض الحركات المحدّدة، لكن أياً منها لا يملك التعددية والمطواعية التي يملكها الانسان. وأخيراً، فقبل العلم والتكنولوجيا، ارتكز البشر على ما هم عليه من مزيج العقل والجسد، وعلى أنسهم ببعضهم بعضاً وتآلفهم في مجتمعات متعاضدة، فسادوا في ارض هم ليسوا فيها الأقوى أو الأعلى أو الأسرع!