سجل مندوب الولاياتالمتحدة في مجلس الأمن وليام هولبروك سابقة في أولى جلسات المجلس لهذا العام عندما خصص جدول الاعمال لمرض الإيدز، كأنه بذلك يؤشر الى اهتمامات القرن الجديد. غير ان هذه المؤشرات لدور مجلس الأمن، كما يتصوره الأميركيون، لم تتوقف عند هذه المبادرة، فقد دعى هولبروك الذي ترأست بلاده اجتماعات المجلس لشهر كانون الثاني يناير جيسي هيلمز رئيس لجنة الشؤون الخارجية في الكونغرس الى التحدث امام المجلس في سابقة هي الأولى في تاريخ مجلس الأمن، والسابقة ليست في دعوة عضو "فاعل" في الكونغرس لحضور جلسات المجلس، بل في دعوته الى التحدث واعطاء رأيه في السياسة التي يتوجب على مجلس الأمن اتباعها... لإرضاء الشعب الاميركي، خصوصاً ان باع هيلمز طويل في هذا المجال وشهرته واسعة واسمه مرتبط بمجموعة من القوانين التي تركت أثراً على سياسة الرئيس بيل كلينتون، بل انها ساهمت في اضعافه كثيراً. ومنها قانون "برنون هيلمز" الشهير الذي يرمي الى منع التعامل مع "الدول الشقيّة" حسب قاموس السياسة الخارجية الاميركية، والذي يمتد ليطال الشركات غير الاميركية ايضاً، وهذا ما أثار حفيظة مجموعة كبيرة من الدول، في مقدمها الدول الحليفة للولايات المتحدة. ويقف السناتور هيلمز ايضاً وراء مجموعة من قرارات مقاطعة عدد كبير من البضائع الأوروبية، في مقدمها الكشمير الانكليزي والجبنة الفرنسية، دفاعاً عن "حق المزارع الاميركي بالتصدير الى أوروبا"، في اشارة الى رفض الدول الأوروبية استيراد لحوم ومواد زراعية تدخل في تركيبها مواد جينية "حفاظاً على الصحة العامة للشعوب الأوروبية وتطبيقاً لمبدأ الحرص الطبي". ولكن سيناتور كارولينا الشمالية لا يضع أمامه سوى هدف واحد هو الدفاع عن ما يعتقده "حقوق الشعب الاميركي في التجارة". وقد جاء جيسي هيلمز الى مجلس الأمن لينقل لأعلى هيئة تنفيذية في الاممالمتحدة "تطلعات الشعب الاميركي"، على حد قوله. ويقول أحد الديبلوماسيين الذي حضر جلسة المجلس ان "كلام السيناتور اتسم بلهجة حادة". وكرر دعوته الاممالمتحدة "لشد الحزام وتقليص المصاريف حرصاً على أموال المواطنين الاميركيين". ولم يتردد هيلمز بالاستخفاف بالحقائق المالية للوضع المالي للامم المتحدة حين قال: "ان الولاياتالمتحدة دفعت في السنة الماضية أكثر من 10 بلايين دولار في مهمات حفظ السلام التابعة للامم المتحدة". وقد دار الهمس في الكواليس حول هذه الارقام ومعانيها، علماً ان مجمل مصاريف الاممالمتحدة في عمليات حفظ السلام، والتي بلغ عددها 17 مهمة، لم تتجاوز 1.7 مليار دولار. وعلق مراقب في الاممالمتحدة متهكماً: "يبدو ان السيناتور يشير الى مجمل عمليات الولاياتالمتحدة العسكرية، من الكوسوفو الى المشاركة في قوات الاممالمتحدة في البوسنة، بما فيها مصاريف عمليات قصف العراق التي بدأت منذ سنة" على اعتبار انه حسب مفهومه فإن الولاياتالمتحدة تقوم بهذا العمل بالنيابة عن الاممالمتحدة المتقاعسة. وطالب السيناتور الاممالمتحدة "باحترام الشعب الاميركي وتفهم متطلباته"، ولم يتردد بالتهديد بالانسحاب من الاممالمتحدة في حال "تم اقرار قوانين دولية تتعارض مع مصالح الشعب الاميركي". حرية اميركا ووصف المراقب نفسه السيناتور الاميركي اليميني المتطرف بأنه "مثال الرفض لكل ما تمثله الاممالمتحدة، والاممالمتحدة تمثل بدورها مثال ما يرفضه مبدئياً هيلمز" الذي يرفض كل ما يمكن ان يقيد توجهات الولاياتالمتحدة. ومن هنا معارضته للحد من التسلح ولتوقيع معاهدة الحد من التلوث الذي تسببه الدول الصناعية الكبرى، ومناهضته لكل من الاتحاد الأوروبي واليابان والصين، حيث يرى في هذه التكتلات تهديداً لهيمنة الولاياتالمتحدة وتقييداً لحرية تحركها بغض النظر عن كرهه لدول عدة، مثل كوريا الشماليةوالعراق وايران والسودان وليبيا. ويستطيع رئيس لجنة الشؤون الخارجية اخذ مواقف القوة هذه، فقد اثبتت الأحداث قوة اللجنة التي يترأسها وسطوتها خصوصاً بعد الضعف الذي أصاب الرئيس كلينتون في السنتين الأخيرتين من ولايته، وفي ظل ميزان القوى الحالي في المجلس الذي يميل لمصلحة الحزب الجمهوري، وقضية مونيكا لوينسكي. وقد اثبتت الممارسة ان الكونغرس يستطيع ان يقف في وجه سياسة الرئيس في العديد من الحالات ويؤثر على سياسة البلاد الخارجية. وهو ما حدث العام الماضي، ويحدث يومياً بصورة متزايدة، بانتظار نتيجة الانتخابات الرئاسية. ولكن بانتظار انتخاب رئيس جديد للولايات المتحدة، فإن السيناتور هيلمز لا يتردد باستعمال كل ما يسمح به مركزه من قنوات ضغط وتدخل في السياسة العامة الاميركية بكل جوانبها، بحكم موقعه، لكنه يؤثر ايضاً على الجوانب الأخرى لهذه السياسة، كالجانب الاقتصادي مثلاً نظراً الى تداخل الاقتصاد الاميركي في نظام العولمة المستجد، وتشابك مصالح الشركات الاميركية مع السياسة الاميركية في شتى أرجاء المعمورة. ويكفي إلقاء نظرة على مفكرة عمل البعثات المتعددة التي أوفدتها لجنة الشؤون الخارجية لتقصي المعلومات في الدول التي تتلقى أو التي تأمل بتلقي المساعدات من الولاياتالمتحدة، لمعرفة الوزن السياسي الذي بدأت تأخذه لجنة الشؤون الخارجية في الكونغرس والحرج التي تسببه لوزارة الخارجية وللرئيس كلينتون. ذاك ان هذه البعثات تعود بتقارير سياسية تتطرق الى العديد من المواضيع الحساسة سياسياً والتي تحاول، عادة وزارة الخارجية معالجتها خارج دائرة الاضواء الاعلامية: مثل حقوق الانسان، أو حرية الممارسات الدينية، أو الممارسة السياسية الديموقراطية. ففي 14 الشهر الجاري زارت بعثة برئاسة تيد ستيفنز اسرائيل ودرست مع المسؤولين قيمة المساعدات الاميركية وطرق صرفها، في حال توقيع اتفاق سلام مع سورية. وزارت البعثة الجولان المحتل "للاطلاع عن كثب على واقع متطلبات المستوطنين"، واجرت العديد من المقابلات مع هؤلاء. وفي طريق عودة البعثة الى واشنطن توقفت في تونس حيث درست طلبات الحكومة التونسية في مجال المساعدات العسكرية، وذاك قبل وصول البعثة العسكرية المسؤولة عن وضع برنامج المساعدات المقررة في اطار التعاون العسكري بين تونسوالولاياتالمتحدة. وفي 16 من الشهر نفسه كانت بعثة اميركية تزور المغرب وتجول في الصحراء الغربية، وتجتمع مع مسؤولي مينورسو التابعة للامم المتحدة والتي تقوم بتهيئة عملية الاستفتاء على استقلال الصحراء. وفي 21 من الشهر نفسه حطت في بيروت بعثة ترأستها دانيال بليتا مساعدة السيناتور هيلمز لدرس الوضع اللبناني وموقف الحكومة من عملية السلام والمفاوضات السورية - الاسرائيلية. وذاك في سياق زيارة مولي وليامسون مساعدة وزير التجارة الخارجية الاميركي. وقد لوحظ هذا "التزاوج" في الزيارات بين موفدي الادارة الاميركية وبعثات "لجنة هيلمز" أو الكونغرس بصورة عامة. كما حصل في تركيا بعد التوقيع بالأحرف الأولى على اتفاق نقل النفط من اذربيجان الى البحر المتوسط. ويبدو كأن وفود الكونغرس تلقي بظلها على تناقلات اعضاء الادارية الاميركية، كما يقول مسؤول صيني كان يودع اعضاء وفد اميركي. ويرد المقربون من لجنة الكونغرس بأن الموفدين من واشنطن يعملون جميعهم لمصلحة الشعب الاميركي، وانه لا يجود تناقض بين ما تقوم به لجنة الشؤون الخارجية وما تقوم به الادارة الحكومية. لكن هؤلاء يتابعون بشكل تحذيري "ولكن القوانين كافة يجب ان تمر على الكونغرس، خصوصاً المساعدات المالية والعسكرية. فهذه الاموال هي أموال دافعي الضرائب الاميركيين". وهو الحديث نفسه لهيلمز في مجلس الأمن. ولقد أدرك بعض الحكومات أهمية دور الكونغرس في تسريع المساعدات الاميركية أو تأخيرها وفي بعض الاحيان، إلغاءها، وبدأت بتأسيس جمعيات ضغط داخل الكونغرس وخارجه لأخذ مصالحها في الاعتبار. وهذا ما فعله الرئيس ياسر عرفات خلال زيارته الأخيرة لواشنطن. فقد قررت الإدارة الاميركية مجموعة مساعدات للسلطة الفلسطينية تبلغ قيمتها حوالى 900 مليون دولار لفترة تمتد خمس سنوات، وبما ان كل قرارات الادارة الاميركية المتعلقة بالمساعدات المالية تحتاج الى موافقة الكونغرس لتصبح قابلة للتنفيذ، فقط قرر الرئيس الفلسطيني استناداً الى خبرته السابقة في التعامل مع المساعدات الاميركية منذ انطلاق مسيرة المفاوضات السلمية، وخوفاً من عقبات تعترض اقرار هذه المساعدات في الكونغرس، التعاقد مع "مستشار في العلاقات العامة مع الكونغرس" ممثلاً بالقنصل السابق لواشنطن في القدسالمحتلة ادوارد ابينغتون. ومن مهمات المستشار الجديد دعم طلبات السلطة الفسطينية وتوضيح وجهات نظرها لاعضاء الكونغرس، والقيام بنشاط اعلامي حول أهداف استخدام المساعدات الاميركية. وسيقدم ابينغتون المشورة للسلطة الفلسطينية حول أفضل السبل لتوضيح وجهات نظرها للمؤثرين على قرارات الكونغرس، في محاولة لإقرار المساعدات بالسرعة اللازمة وللتصدي للوبي الاسرائيلي المنافس. ومن المعروف ان أحد أهم أسلحة اسرائيل المؤثرة في السياسة الاميركية هي "لجنة الصداقة الاسرائيلية - الاميركية" المرهوبة الجانب في الكونغرس. ومن هنا انفتاح الرئيس الفلسطيني على نمط "سياسة اللوبي" المهمة في العلاقات مع الكونغرس. ويبدو ان الكونغرس تحت تأثير السيناتور هيلمز المؤيد للخصخصة الى أقصى حدود، يتوجه نحو تشجيع شركات الاستشارات المتخصصة باللوبي لتحل محل السفارات في نمط العلاقات بين الكونغرس ودول العالم. وبالنسبة الى الاممالمتحدة فإن الاتجاه العام في الكونغرس، كما يبرزه الحدثان اللذان افتتحا جلسات مجلس الأمن الشهر الجاري هو دعوة المنظمة الدولية للاهتمام بالصحة العامة العالمية ومحاربة الأمراض في القارات الخمس، والابتعاد عن السياسة بمفهومها الحالي