منذ العام 1881 كانت السيطرة الحزبية على مجلس الشيوخ الأميركي تأتي من خلال نتائج الانتخابات. هذا العام جاءت السيطرة من خلال انسحاب سيناتور جمهوري واعلان نفسه مستقلاً، معطياً بذلك الحزب الديموقراطي غالبية في المجلس بنسبة صوت واحد كفيلة بتأمين سيطرة الديموقراطيين على رئاسة اللجان وتزعم المجلس. وستكون لانشقاق السيناتور جيمس جيفوردز عن الحزب الجمهوري انعكاسات على معظم نشاطات الحياة السياسية الأميركية، ليس فقط لأهمية ولاية فيرمونت التي يمثلها جيفوردز في المجلس انما لأنه قلب المعادلة في احدى اهم المؤسسات الأميركية في عهد رئيس جمهوري، ما سيحتم على الادارة الجمهورية والحزب الجمهوري اعادة النظر في كثير من سياساتهما وتكتيكاتهما وعلى مختلف القضايا التي تؤثر في الحياة الأميركية. وستترك خطوة جيفوردز آثاراً يصعب تحديدها الآن، لكن من المؤكد انه سيكون لها تأثير في الأوجه المتعددة للحياة السياسية الأميركية من معركة الرئاسة عام 2004 الى انتخابات الكونغرس في 2002 اضافة الى اعادة تداول البرامج الديموقراطية الاجتماعية بعد انحسارها عن الساحة السياسية الأميركية منذ فوز بوش الابن بالرئاسة وسيطرة الحزب الجمهوري على الكونغرس بمجلسيه النواب والشيوخ. الانتخابات الرئاسية ان ظروف انتخاب بوش وما رافقها من انقسامات نتيجة السجال حول نتائج فرز الأصوات في فلوريدا جعلت الرئيس الجديد يتعهد بأنه سيكون مترفعاً فوق الحزبية. الا ان انشقاق جيفوردز وجه صفعة لبوش في هذا الاتجاه واظهره بأنه غير قادر حتى التعاطي مع الجمهوريين المعتدلين فكيف بالأحرى لمن يتعاون مع الديموقراطيين. وعلى صعيد الانتخابات المقبلة من المؤكد ان المجلس بزعامة الديموقراطيين سيحاول منع استغلال بوش أي انجاز، وسيعمل على عرقلة برنامجه الانتخابي خصوصاً في الأمور المتعلقة بخفض الضرائب وبرامج التعليم وسياسة الدفاع والبيئة. كذلك ستساعد رئاسة الديموقراطيين اللجان في مجلس الشيوخ على لعب دور مؤثر في الحياة اليومية الأميركية، ما سيؤدي الى اطلاق زعامات ديموقراطية جديدة لها طموحات رئاسية امثال السيناتور توم داشل، الذي سيكون زعيم الغالبية الديموقراطية، والسيناتور جون بايدن، الذي سيترأس لجنة العلاقات الخارجية، وكان الأخير خاض حملة انتخابية رئاسية في السابق انسحب في منتصفها بسبب استعماله عبارات لأحد السياسيين البريطانيين في خطاباته السياسية من دون ذكره. وأسهم الانقلاب الذي حصل في مجلس الشيوخ في رفع معنويات الحزب الديموقراطي بعد هزيمة الانتخابات الرئاسية، ما سيعزز ثقة الممولين بالحزب ويحمس القاعدة الشعبية تمهيداً لانتخابات الكونغرس العام المقبل اذ تنصب جهود الحزب لاستعادة السيطرة على مجلس النواب، والبدء بتحضير المعركة الرئاسية. وعلى صعيد السياسة الخارجية ستنعكس رئاسة السيناتور جون بايدن للجنة العلاقات الخارجية على الكثير من الأمور. ويذكر ان بايدن كان يفضل ترأس لجنة العدل لأهميتها في السياسة المحلية وتنسجم مع طروحاته الحزبية، الا انه تنازل عنها للسيناتور باتريك ليهي الذي سيفسح بدوره المجال للسيناتور توم هاركين، من ولاية ايوا، لرئاسة لجنة الزراعة المهمة التي تسعفه لاعادة انتخابه للمجلس. وتخول رئاسة لجنة العلاقات الخارجية بايدن ان يلعب دوراً مهماً في تعيين السفراء كون لجنته هي التي توصي بتثبيتهم ما سيفسح باب المقايضة مع الادارة اضافة الى نفوذ قوي بالموافقة على المعاهدات والتشريعات التي تتعلق بالسياسة الخارجية. وعلى رغم اختلاف توجهاته مع رئاسة الجمهوري للجنة السيناتور جيسي هيلمز استطاع بايدن ان يبني علاقات قوية مع هيلمز ما يعني ان الجمهوريين لن يختلفوا كثيراً معه. واستطاع بايدن ان يقنع هيلمز بمواقف معتدلة في ما يتعلق بالموافقة على معاهدة الأسلحة الكيماوية، وجدولة المدفوعات المستحقة للأمم المتحدة اضافة الى تخفيف ديون الدول الفقيرة ومحاربة الايدز في العالم. وسيمر بايدن باختبار في الشهر المقبل حين يتعين على مجلس الشيوخ اقرار مشروع اقره مجلس النواب، تقدم به متشددون جمهوريون، يحظر على الولاياتالمتحدة التعاون مع محاكم جزائية دولية ومنع مساعدات اميركية لمجموعات تعمل في مجال تنظيم الأسرة والاجهاض. ويعتبر بايدن صديق اسرائيل ويعول عليه من قبل اللوبي الاسرائيلي في واشنطن ما يعني عدم تغيير موقف اللجنة بالنسبة الى الصراع العربي - الاسرائيلي. ويتوقع ان تكون لهجته اقل تشدداً من هيلمز ومساعدته لشؤون الشرق الأوسط دانيال بليتكا المعروفة بتأييدها المطلق لاسرائيل. وبالنسبة الى العراق يعتبر بايدن من الشيوخ الديموقراطيين القلة الذين يدعون لاستعمال القوة للاطاحة بالنظام العراقي. وعلى عكس هيلمز يؤيد بايدن معاهدات الحد من انتشار الأسلحة النووية والبيولوجية والكيماوية. وانتقد بايدن ادارة بوش لتعليقها المحادثات مع كوريا الشمالية، ولكنه كان اقل حدة في ما يتعلق بالصين من هيلمز اثناء أزمة طائرة التجسس على رغم تأييده القوي لتايوان. ويختلف بايدن مع وزير الخارجية دونالد رامسفلد على تخفيف القوات الأميركية في البوسنة والبلقان. ويتوقع ان يواجه ترشيح السفير جون نيغروبونتي ليمثل الولاياتالمتحدة في الأممالمتحدة عقبات نظراً لدوره في الجهود السرية لاطاحة حكومة الساندينيستا حين كان سفيراً في نيكاراغوا، وهو ما عرف لاحقاً بفضيحة ايران كونترا في عهد رونالد ريغان. وسيتولى السيناتور بول ويلستون رئاسة اللجنة الفرعية لشؤون الشرق الأوسط في لجنة العلاقات الخارجية، وهو يهودي معتدل وله مواقف متعاطفة مع معاناة الفلسطينيين وتوقعت مصادر مطلعة ان يحث الادارة الحالية على لعب دور اكبر في الشرق الأوسط. على صعيد السياسة الدفاعية فإن تولي السيناتور ليفين لجنة الخدمات المسلحة لن يأتي بتغيير كبير في عمل اللجنة لتوافقه مع سائر اعضاء اللجنة في ما يخص الأمور الدفاعية. التغيير الاساسي هو ان الحزب الديموقراطي سيكون له تأثير على الادارة وصوتاً أعلى في ما يتعلق برغبة الادارة بناء شبكة صواريخ وقائية التي تفوق كلفتها 60 بليون دولار. وعلى صعيد لجنة المال فإن رئيسها المتوقع ماكس بوكوس تربطه علاقات عمل وثيقة مع خلفه الجمهوري تشارلز غراسلي وتتوقع مصادر مطلعة ان تكون اللجنة اقل حزبية باستثناء معارضة تفاوض الادارة حول اي اتفاق تبادل تجاري يضعف قوانين العمل في الولاياتالمتحدة. انتقال لجنة الطاقة الى السيناتور جيف بينغامان الديموقراطي من ولاية نيو مكسيكو سيزيد من الصعوبات التي تقف بوجه مخطط بوش للطاقة الذي يقوم على استكشاف مصادر جديدة للطاقة في الولاياتالمتحدة وزيادة أعمال التنقيب. فهو كمعظم الديموقراطيين يعارض اعمال التنقيب في الاسكا ويفضل حلولاً سريعة لمشكلتي النقص في الطاقة وارتفاع اسعار النفط وهذا شيء تسعى ادارة بوش الى تجنبه وتركز على تقديم حلول بعيدة المدى. لا شك في ان الانقلاب الذي حصل سيجبر الرئيس الجديد على اعادة النظر في اسلوب تعاطيه مع الكونغرس. كما سيكون له انعكاسات على فريق عمل بوش وتعاطيه مع ادارة واشنطن. ويقول مارشال ويتمان من معهد هادسون اليميني "ان التعاطي مع سيناتور يختلف عن التعاطي مع ممثل ولاية. فالغرور والذاتية اكبر وقدرتهما على الحاق الضرر أيضاً أكبر". وتعرض بوش الى انتقادات واسعة من قبل الجمهوريين لأسلوبه في التعاطي مع الجمهوريين المعتدلين، ووصف البعض ان بوش يعتقد انه ما زال "يدير فريق بايسبول". وهناك طرف آخر اصيب بالذهول من جراء ما حصل وما زال يسعى الى تحديد الضرر وكيفية التأقلم مع المتغيرات الطارئة، وهو مجموعات الضغط التابعة للمصالح الخاصة وما يعرف بصناعة اللوبي. ومن هؤلاء الذين سيتأثرون بالتغيير الذي حصل لوبيات الرعاية الصحية والطاقة، وصناعة الأدوية التي تتعرض لانتقادات الديموقراطيين كلما سنحت المناسبة. ويقول أحد كبار ممثلي شركات اللوبي ان المشاريع التي ماتت منذ أشهر بعد فوز الجمهوريين وسيطرتهم على مجلسي النواب والشيوخ ستبرز مجدداً ما يستدعي جهوداً لمحاربتها واسقاطها من جهة أو لتمريرها من جهة أخرى. ويخشى الكثير من المراقبين ان يؤدي انتقال غالبية مجلس الشيوخ الى الديموقراطيين الى رفع درجة التناحر السياسي وتوقف عجلة التقدم في البلاد كما حصل مع بداية عهد الرئيس السابق كلينتون. ويقول هؤلاء ان كلينتون تجاوز صفعة عودة الجمهوريين في فترة انتخابه الأولى من خلال تعديل مواقفه السياسية وانتقاله الى الوسط. والسؤال هل يستطيع بوش ان يفعل ذلك؟ وفي حال رغب بذلك هل تقبل القاعدة المحافظة المتشددة في الحزب الجمهوري مساعدته على الفوز بذلك؟