أعلن الرئيس السوداني الفريق عمر البشير حكومة خلت من المفاجآت، احتفظ معظم وزرائها القدامى بحقائبهم، فيما استعان بوزراء جدد ينتمون الى الجبهة الإسلامية القومية التي تحكم البلاد منذ 30 حزيران يونيو 1989 الذي تزعمه البشير. وعلى رغم أن تعيين الحكومة الجديدة قصد به إسدال الستار على الخلافات الحادة بين البشير ورئيس البرلمان المحلول الدكتور حسن الترابي، إلا أنه كان أشد دلالة على استمرار تلك الخلافات وعمليات الاستقطاب بين طرفي النزاع الذي ألقى بظلاله على مساعي الوفاق بين الحكومة والمعارضة. وأثار ما تردد عن تسوية النزاع الشخصي بين الترابي والبشير علامات إستفهام عدة لدى عدد من العواصم المجاورة للسودان التي ألقت بثقلها خلف الرئيس السوداني غداة انقلابه على رئيس البرلمان وأمين الحزب الحاكم الذي تتهمه قوى دولية وإقليمية عدة بأنه وراء زعزعة العلاقات بينها وبين الخرطوم. بقي تشكيل الحكومة السودانية الجديدة معلقاً منذ قرارات 4 رمضان - 12 كانون الأول ديسمبر الماضي التي حلَّ البشير بموجبها المجلس الوطني البرلمان، ومنح نفسه بموجبها حق تعيين ولاة الولايات وعزلهم، وشملت تلك الإجراءات فرض الأحكام العرفية في البلاد. وعلى رغم الحماس الذي أبداه البشير إثر قراراته المشار إليها، والتي تلتها سلسلة من الزيارات التي شملت مصر وليبيا والبحرين وقطر واليمن وأريتريا ودولة الإمارات العربية المتحدة، وإلى ضرورة توحيد القيادة ومنع إزدواجيتها على نحو ما كان سائداً قبل قرارات رمضان، فإنه بدا واضحاً أن مبادرات تهدئة عدة انتظمت داخل الحزب الحاكم المؤتمر الوطني، وسعت الى حصر الخلاف على صعيد الحزب وآليات عمله وأساليب الرقابة التي يفرضها على العمل التنفيذي. وربما لهذا عمد الفريق البشير الى تعديل خطابه الرسمي مشدداً على تمسك نظامه ب "المشروع الحضاري" الذي تبناه النظام منذ بدايته. وبعدما بدا أن الخلاف بين جناحي النظام اتجه تحو تفكيك ذاتي للمنظومة الحزبية، بلغ حد تفكير إحدى الفئتين في تكوين حزب خاص بالحركة الإسلامية، بل وصل الى طور التهديد بالصدام وإراقة الدماء، خصوصاً بعدما ظهرت فئة ثالثة تدعو الى استقالة جميع القيادات المحيطة بكل من الترابي والبشير، اختار البشير حصر الخلاف داخل حظيرة الحزب. وعلى ذلك فقد كان أول المؤشرات على أن الأزمة في طريقها الى الحل يتمثل في موافقة البشير على مقترحات لجنة المعالجة الشاملة التي انبثقت من هيئة شورى "المؤتمر الوطني" برئاسة البروفسور عبد الرحيم علي. وبعدما حصلت اللجنة على موافقة الدكتور الترابي على مقترحاتها تقرر عقد مؤتمر استثنائي لهيئة الشورى التي تضم نحو 600 عضو. وفي الدقائق الأخيرة راجت تكهنات بأن البشير سيقاطع الاجتماع. غير أنه قرر أن تقتصر زيارة كان يقوم بها لدولة الإمارات على يوم واحد ليتمكن من العودة إلى الخرطوم لحضور الاجتماع. والواقع أن الاجتماع الاستثنائي المذكور كان الهدف منه أساساً استكمال قرارات رمضان بإقصاء الترابي عملياً وإبقاؤه في الصورة شكلياً. فقد عمل الجناح الذي انحاز الى البشير على تمرير اقتراح يدعو الى حمل الترابي على التخلي عن منصب الأمين العام للحزب الحاكم، على أن يعين رئيساً له، وهو منصب يشغله البشير، ويعد شرفياً الى درجة كبيرة، إذ تقتصر مهمات الرئيس على حضور المؤتمرات وإدارة الجلسات، فيما يقوم الأمين العام بالمهمات الأساسية ممسكاً بالخيوط التي تحرك دولاب الدولة. ويبدو أنه تبين لجماعة جناح البشير أن إستكمال إقصاء الترابي مهمة محفوفة بالمخاطر، وحتى لو لم تسفر عن اندلاع أعمال عنف، فإن الترابي سيحمل معه الحزب خارج الحكومة بانتظار الوفاق الوطني الذي سيتيح له العودة الى الحكم عبر صنادق الانتخاب. وفي هذه الحالة سيكون خصومه هم الخاسرون، لأنهم - على سعة تعليمهم وخبراتهم في شؤون الحزب والدولة منذ مجئ نظام "ثورة الإنقاذ الوطني" - يفتقرون الى "كاريزمية" الترابي ومرجعيته، بل على رغم تحول الجبهة الإسلامية القومية دولة منذ 10 سنوات، فإن الشارع ورجالات الجبهة ما زالوا ينظرون الى المنشقين عن الترابي باعتبارهم تلاميذه، حتى بعد تسنمهم أرفع المناصب في الدولة والحزب. كما أن "لجنة المعالجة الشاملة" وجدت نفسها أمام ضغوط فريدة من نوعها، فهي كانت مطالبة منذ البداية بتنحية عواطفها وميول أفرادها لمصلحة الحركة والحزب ودولتهما. ولذلك لم يكن وارداً منذ اليوم الأول أن تنحاز الى طرف ضد الآخر. وتغلب على أعضائها شعور بأن المتضرر من الخلاف الحالي "المشروع الإسلامي" الذي تبنته "ثورة الإنقاذ الوطني". غير أن اللجنة كانت تدرك أيضاً منذ البداية أن أكثر جوانب الخلاف تعقيداً واستعصاءً ما يتعلق منه بالصدام بين شخصيتي البشير والترابي، ولذلك رأت أن تحصر مهمتها من ناحية مبدئية في جوانب المعالجة الشاملة، تاركة الجانب الشخصي من الخلاف الى وقت لاحق. وقبل انعقاد الاجتماع الاستثنائي لهيئة الشورى ظهرت مبادرات خارج إطار لجنة المعالجة الشاملة، لعل أبرزها مبادرة تجديد القيادات التي رفع لواءها محمد محي الدين الجميعابي محافظ محافظة أم درمان، وتدعو الى تنحي معاوني كل من البشير والترابي باعتبار أنهم السبب الأساسي لتعميق الخلاف وتفجيره. غير أن الفرص أخذت تتضاءل أمام مبادرة تجديد القيادات قبل يومين فحسب من انعقاد الإجتماع الاستثنائي لهيئة الشورى، فقد اعترض عليها عدد من خطباء الجمعة في المساجد التي ارتبطت أصلاً بالحركة الإسلامية السياسية. ورأي هؤلاء أن ثمة أسباباً وجيهة تبرر الخلاف بين رئيس المؤتمر الوطني وأمينه العام، وتتعلق أساساً بتداخل الاختصاصات. وكانت مبادرة سابقة قد دعت الى تنحي الترابي والبشير معاً. وحين انعقد اجتماع هيئة الشورى لم تواجه الهيئة صعوبات تذكر في إقرار مقترحات اللجنة المنبثقة منها في شأن المعالجة الشاملة. وجاءت الحلول العملية للخلاف على النحو الآتي: - رئيس المؤتمر الوطني البشير: يشرف على تنفيذ سياسات المؤتمر الوطني في أجهزة الدولة، وأن يكون له الإشراف العام على المؤتمر الوطني من دون مساس بالمهمات التي حددت للأمين العام، وللرئيس في ذلك حق الإطلاع على أداء أجهزة المؤتمر الوطني على المستويين الإتحادي والإقليمي، وعليه أن ينسق بين أجهزة المؤتمر الوطني وأجهزة الدولة. كما أن عليه أن يرأس هيئة الاختيار والمحاسبة التي تتولى إقرار التعيينات للمناصب التنفيذية. - الأمين العام الترابي: عليه أن يقود النشاط الفكري والعمل الدعوي والشعبي، وأن يكون مسؤولاً عن التنسيق بين أجهزة المؤتمر الوطني، وأن يشرف على الشؤون المالية والإدارية للمؤتمر، وأن يرفع تقارير عن أداء المؤتمر للهيئة القيادية، وأن يكون الممثل الرسمي للمؤتمر والناطق الرسمي باسمه. - علاقة المؤتمر الوطني بأجهزة الدولة: تكون وفقاً لموجهات مشروع المعالجة الشاملة، يضطلع بموجبها التنظيم برسم السياسات والخطط العامة، وتلتزم أجهزة الدولة تفعيلها وتنفيذها، ويراقب التنظيم عبر أجهزته المختصة الأداء كل ثلاثة أشهر. - تفوض سلطة الهيئة القيادية في إجازة التعيينات للمناصب الدستورية والقيادية للجنة الترشيح والمحاسبة. وبعدما بدا أن هذه القرارات هدأت ثائرة الإسلاميين المتناحرين، انبرت لجنة المعالجة الشاملة لإزالة ما علق بالنفوس من خصومات شخصية وأحقاد. ومع أن الحكومة الجديدة أبقت على رجال كل من رأسي النظام في مواقع متنفذة، إلا أن كبار قادة الجبهة الإسلامية الحاكمة يقرون بأن ما أحدثته قرارات رمضان - كانون الأول ستكون آثاره مستمرة على المدى البعيد، فقد كان واضحاً أن اجتماع هيئة الشورى لم يطفئ كل النيران التي فجرها الصراع. وإذا كان البشير قد خرج منتصراً في ما يبدو من قرارات الشورى، فالصحيح أيضاً أن يقال إن الترابي هو الأكثر إنتصاراً على المدى البعيد، فهو لا يزال نظرياً يهيمن على سلطة التعيين والمحاسبة ووضع السياسات والخطط العامة. كما أن البشير بعدما ذاق حلاوة الانفتاح الخارجي ووعود الدعم غير المحدود من الصعب أن يعود ليجد نفسه مكبلاً بقيود الترابي. أما خارج الحكومة فالبادي أن الوفاق مع الأحزاب هو الخاسر الأكبر، خصوصاً أن الحكومة الجديدة خلت تماماً من الوجوه الحزبية، وهي أقل بادرة يمكن توجيهها إلى المعارضة. ولعل ذلك هو ما حدا بأحد قادة المعارضة الى التعليق على التشكيل الوزاري الجديد بقوله إن لا فرق بين "أحمد وحاج أحمد" كما جرى القول الشائع لدى السودانيين من هو عبد الرحيم علي رئيس لجنة الصلح؟ ولد البروفسور عبد الرحيم علي محمد ابراهيم في 17 تشرين الثاني نوفمبر 1945 في مدينة الخندق شمال السودان. وتلقى تعليمه الجامعي في جامعة الخرطوم، حيث حصل على بكالوريوس الآداب بمرتبة الشرف الأولى 1965-1972. وابتعث الى جامعة أدنبره في أسكوتلندا حيث حصل على درجة الدكتوراه في العلوم الإسلامية العام 1974، وكان موضوع أطروحته "البناء الأدبي للآية القرآنية". وعاد ليعمل مساعداً للتدريس في كلية الآداب في جامعة الخرطوم، ثم عاد الى جامعة أدنبره ليحاضر في قسم الدراسات الإسلامية. وفي 1981 عاد الى السودان حيث عين نائباً لمدير المركز الإسلامي الأفريقي للشؤون الثقافية والإجتماعية، وهي المؤسسة التي حولت في عهد الفريق عمر البشير جامعة تحمل اسم جامعة إفريقيا العالمية. واختير البروفسور عبد الرحيم علي مديراً لها. من يخلف الترابي؟ أثار الخلاف الحالي بين الرئيس عمر البشير وزعيم الجبهة الإسلامية القومية الدكتور حسن الترابي مسألة خلافة الأخير على زعامة حركة الإسلام السياسي في البلاد. إذ إن الترابي كان قد اختار - أثناء العهد الديموقراطي الذي وأده انقلاب العام 1989 - المحامي علي عثمان محمد طه نائباً له في زعامة الجبهة الإسلامية القومية، وهو الاسم الذي اتخذه التنظيم بعد إطاحة نظام المشير جعفر نميري في 1985. وكان ملاحظاً أن الترابي اختار علي عثمان على رغم أنه أصغر سناً وخبرة من عدد من القيادات التاريخية في الحركة، وأثار ذلك الاختيار ردود فعل غاضبة يومذاك، غير أن أعضاء الحركة تعايشوا معه لضمان عدم تفاقم الخلافات والصدامات الشخصية داخل حزبهم الصغير. ولا يزال علي عثمان - الذي يشغل حالياً منصب النائب الأول لرئيس الجمهورية - من الناحية النظرية الرجل الثاني في حزب الحركة الإسلامية. غير أن الشقاق الأخير الذي أسفر عن إقصاء الترابي من رئاسة البرلمان كشف النقاب عن اتهامات تزعم أن النائب الأول هو المهندس الحقيقي لانقلاب البشير على الترابي. وربما كانت هذه الاتهامات وراء ظهور مبادرة "تجديد القيادات" التي رأت أن أنجع السبل لحل أزمة النظام وتنظيمه تتمثل في إعفاء القيادات التي تعاون كلاً من طرفي الأمة في رئاسة الجمهورية وأمانة المؤتمر الوطني. وعلى اثر الشقاق الأخير، بقي علي عثمان في موقعه التنفيذي. وبدا أن الرجل الثاني بقرب الترابي في أمانة الحزب الحاكم هو الدكتور علي الحاج محمد، وهو طبيب متخصص في أمراض النساء والولادة، من مواليد العام 1939. وبقي يشغل منصب الرجل الثالث في الجبهة الإسلامية بعد انتخاب علي عثمان نائباً للأمين العام للجبهة. وعلى رغم أنه استدعي مراراً لشغل حقائب في الجهاز التنفيذي، إلا أنه اختار على الدوام البقاء مع الترابي الذي تعود صلته به الى العام 1957. ويعتقد إسلاميون أن علي عثمان محمد طه ومن يقفون معه في الجناح الموالي للفريق البشير ربما اخذوا ترتيبات عملية لخلافة الترابي بعد أن شلت الدولة والحركة أياماً إثر الإعتداء عليه في كندا في أيار مايو 1992. وكانت كل القرائن تشير الى أن ذلك الإعتداء سيفقد الترابي قدرته على النطق والتذكر. غير أن إرادة الله شاءت أن يُشفى الزعيم الإسلامي 70 عاماً في وقت قصير ليعاود مهماته العملية المعتادة، بما في ذلك القيام بجولات داخلية وخارجية. ويتهم خصوم البشير داخل الحلقة المحيطة بالترابي أبرز قادة الجناح المنشق، وهو الدكتور غازي صلاح الدين وزير الثقافة والإعلام، بأنه يعمل على التوصل الى ترتيبات مع حزب الأمة لإبرام حلف بين الجانبين، على أن تكون الجبهة الإسلامية في هذه الحال من دون قيادة الترابي، ويفترض أيضاً أن يكون حزب الأمة في هذه الحال من دون قيادته التاريخية ممثلة في رئيسه السيد الصادق المهدي.