أسفرت وفاة المشير الزبير محمد صالح النائب الاول للرئيس السوداني غرقاً داخل طائرة عسكرية سقطت في مياه نهر السوباط في جنوب البلاد عن تغييرات لم يكن كثيرون يتوقعونها، ومن كان يتوقعها لم يكن مهيأ لحصولها في هذه الآونة المحددة. ومع أنها تبدو من قريب حسماً لتشوهات كثيرة تتسم بها عملية صنع القرار في نظام "ثورة الانقاذ الوطني" الذي تديره الجبهة الاسلامية القومية، وهي تشوهات بقيت على رغم النفوذ الواسع الذي كان يتمتع به النائب الاول الراحل، إلا أنها كما يبدو حسمت جانباً كبيراً من الصراع والتنافس بين الاجنحة داخل الجبهة الاسلامية. ولا بد أن ثمة رابحين وآخرين خاسرين. من هم؟ ومن هو النائب الاول الجديد؟ والأهم من ذلك أي تغييرات ستشهدها سياسة النظام السوداني بعد التعيينات الأخيرة؟ ولد المحامي علي عثمان محمد طه في الخرطوم في 7 تموز يوليو 1947، في أسرة تنتمي الى قبيلة الشايقية العربية المعروفة في شماال السودان. وتلقى تعليمه في مدارس العاصمة السودانية، قبل أن يلتحق بكلية الآداب في جامعة الخرطوم حيث مكث عاماً، تحول بعده الى كلية القانون التي تخرج فيها العام 1971. وعمل محامياً لمدة عام بعد تخرجه، ثم التحق بالقضاء العام 1972 تنقل فيه بين محاكم الخرطوم والأبيض وأم روابة والدلنج غرب السودان. وفي 1976 استقال ليمتهن المحاماة. بدأ علي عثمان - هكذا يعرفه السودانيون - العمل السياسي منذ فترة مبكرة من حياته، إذ كان رئيساً لاتحاد طلبة مدرسة الخرطوم الثانوية القديمة، التي تقع مبانيها ضمن مجمع مساكن طلبة جامعة الخرطوم حيث اندلعت شرارة ثورة تشرين الاول اكتوبر 1964 التي قام زعيمه منذ ذلك الوقت حسن الترابي بدور بارز فيها. وتولى رئاسة اتحاد طلبة الجامعة العام 1970 ليقود نضالاً شرساًَ ضد نظام الرئيس السابق جعفر نميري الذي كان حليفاً للشيوعيين يومذاك. هكذا جاء علي عثمان من المدرسة الثانوية الى الجامعة وهو محدد الانتماء، معروف اللون السياسي، وواضح القناعات والأفكار. وعمل منذ تلك الفترة بشكل وثيق مع الترابي الذي تزعم "جبهة الميثاق الاسلامي" - إحدى واجهات "الاخوان المسلمين" في السودان - بعد ثورة 1964. وبدأ يضطلع بمهمات قيادية في التنظيم بعدما زجّ نميري بالترابي في المعتقل منذ بداية انقلاب أيار مايو 1969 حتى الافراج عنه إثر التوصل الى اتفاق المصالحة الوطنية في 1976. وبعد مشاركة الترابي في نظام نميري، خاض علي عثمان انتخابات البرلمان وانتخب نائباً في دورات مجلس الشعب الثالث والرابع والخامس خلال الفترة من 1978 الى 1985. وانتخب رئيساً للجنة التشريع والشؤون القانونية 1982-1984، ثم رائداً لمجلس الشعب أي زعيماً للهيئة البرلمانية لنواب الحكومة من العام 1984 حتى سقوط النظام في 1985. وعندما أجريت انتخابات الجمعية التأسيسية البرلمان في العهد الديموقراطي الثالث، في 1986، رشح علي عثمان نفسه في دائرة حي امتداد الدرجة الثالثة في الخرطوم، وفاز من غير كثير عناء في تلك الانتخابات التي تحالف فيها مرشحو الاحزاب ضد زعيمه الترابي وأسقطوه، في حادثة أثارت جدلاً سياسياً كبيراً آنذاك. واستثمر الترابي وجود "تلميذه" في البرلمان فأوعز اليه بزعامة نواب المعارضة خلال الفترة 1986-1988. وبعد اختياره عضواً في هيئة الشورى العامة والمكتب السياسي للجبهة الاسلامية القومية، رشحه الترابي نائباً له بصفته مرشداً للجبهة الاسلامية، وذلك على رغم وجود عدد من القادة التاريخيين الذين أنشأوا حركة "الاخوان المسلمين" الذين كانوا يتطلعون الى مناصب تتيح لهم الامل بخلافة الترابي في زعامة الحركة. رئيس جمهورية "سري"! اختفى علي عثمان تماماً بعد نجاح انقلاب الفريق عمر البشير منتصف 1989. وربما كان التعارف بينهما يعود الى المدرسة الثانوية التي تعلما فيها. والارجح أن عرى الصداقة توطدت بينهما خلال العمل المشترك في خلايا "الاخوان المسلمين". وذكر الرئيس السوداني أنه لم ينتم الى التنظيم بحكم القيود المفروضة على العمل السياسي في القوات المسلحة. غير أنه أقر بأنه انضم الى تنظيم مجموعة "الضباط الاسلاميين" في مستهل السبعينات، رداً على الطابع الشيوعي الذي اكتسى به نظام نميري في سنواته الأُولى. وكان علي عثمان قد بلغ ذورة نشاطه خلال تلك الفترة بتزعمه ثورة شعبان 1973 التي انطلقت من حرم جامعة الخرطوم. وتردد حديث كثير خلال الفترة من 1989 الى 1992 عن قيام علي عثمان أثناء تلك الفترة بدور الرئيس الحقيقي لمجلس قيادة الثورة. ومع أنه اتخذ لنفسه مكتباً في أحد أكبر المصارف التجارية التي أنشأها "الاخوان المسلمون"، إلا أن ذلك لم يمنع تواتر الحديث عن دوره التنفيذي السري. كانت الجبهة الاسلامية القومية - على رغم حلها إثر الانقلاب العسكري - تشهد تنافساً حامياً وصراعاً شديداً بين أجنحتها التي سعى كل منها الى الفوز بالسلطة ليعيد صياغة الواقع السياسي بالطريقة التي تروقه. وتردد وقتذاك أن العلاقات بين الترابي ونائبه بدأت طبيعتها تتغير. غير أن الشكل المعروف للإنشقاق الحزبي لم يتحقق - على رغم كثرة الأقاويل - بسبب التربية الخاصة والادب الحزبي الذي رسخه الترابي بين مساعديه، خصوصاً جيل علي عثمان ورفقائه. ويقول سودانيون على صلة وثيقة بجماعة الترابي إن الانتقادات التي دأب الاخير على توجيهها الى نائبه حالت دون توليه منصباً تنفيذياً حتى العام 1993، حينما عين وزيراً للتخطيط الاجتماعي ليعنى بوضع وتنفيذ السياسات الخاصة بتغيير بنية المجتمع السوداني، وإرساء الأسس الاجتماعية لما يسميه "الانقاذيون" المشروع الحضاري الخاص بالنظام. وبعد فترة كلف المحامي الشاب حقيبة الخارجية في اعقاب تدهور مريع شهدته علاقات السودان الخارجية. ومع أن علي عثمان خرج الى العلن، وأضحى يمارس العمل التنفيذي في وضح النهار، بقيت تتردد أحاديث عن انتقادات وجهها الترابي في مجالس خاصة لنائبه، اتهمه فيها بقلة الخبرة في الشأن الخارجي، وبانعدام الاتصال بالاطراف الخارجية بسبب بقائه معظم سني حياته داخل البلاد. وأسفر الصراع خلال تلك الفترة عن إلزام الترابي نفسه تولي منصب عام ليكون أكثر قدرة على قيادة دولته وتحمل أخطاء القادة الذين يجلون أفكاره الى درجة إضفاء هالة من التقديس عليها. غير أن ذلك الصراع بقي مكبلاً في حدود الاسلوب الخاص بكل من الرجلين في التعامل مع الآخر بما لا يكشف النقاب عن خلاف أو تنافر. إذ بقي علي عثمان يفترش الثرى في أي مجلس يضم زعيمه، بينما كان الترابي يخف الى منزل تلميذه كلما برز خلاف بينهما ليسترضيه ويقتل الاشاعات والتلميحات الى تلك الخلافات. لكن كلاً منهما بدأ يتحول مركز قوة قائماً بذاته، مستقوياً بمن يحيطون به من أهل الثقة. وشيئاً فشيئاً أخذ الصراع داخل الجبهة الاسلامية القومية يتضح بين معسكرين رئيسيين: أحدهما يتزعمه الترابي، يعاونه سكرتيره السابق الدكتور غازي صلاح الدين عتباني، وحليفاه القديمان يس عمر الامام يدير المؤتمر الشعبي العربي الاسلامي حالياً وابراهيم السنوسي حاكم ولاية شمال كردفان، والدكتور علي الحاج محمد وزير ديوان الحكم الاتحادي والمسؤول سابقاً عن ملف العلاقات بين الشمال والجنوب. والآخر يتزعمه علي عثمان، ويضم الجناح العسكري في الجبهة بزعامة البشير ووزير شؤون رئاسة الجمهورية اللواء عبد الرحيم محمد حسين، ووزير الدولة في وزارة الدفاع المقدم ابراهيم شمس الدين، وعدداً من القادة المدنيين، أبرزهم وزير الخارجية الحالي مصطفى عثمان اسماعيل، ووالي الخرطوم الدكتور مجذوب الخليفة. وكان هذا الانقسام أكبر فرز من نوعه داخل تنظيم الترابي، على رغم أن عدداً من القادة وأرباب الفكر والكتاب المحسوبين عليه قرروا النأي عنه بعدما أبلغهم بأن الجبهة الاسلامية حُلت، ولم يعد لها وجود، ليكتشفوا أنها بقيت ممثلة في الترابي ومن أحاط نفسه بهم. وأدت تلك الانشقاقات الفردية وشبه الجماعية الى بروز تيار من الكتاب الذين ما انفكوا يوجهون انتقادات قاسية للنظام وسياساته على صفحات الصحف الحكومية والخاصة التي تصدر داخل البلاد. ويسعى الترابي ومساعدوه الى ترسيخ فهم لدى العامة بأن صمتهم على تلك الانتقادات يعني وجود قدر كبير من حرية التعبير داخل النظام. وعلى النقيض مما يقوله خصوم علي عثمان، فهو يتسم بقدر من المرونة في تعامله مع الآخرين. واستطاع أن يخلق صلة تفاوضية لا غبار عليها مع قادة الجيش الشعبي لتحرير السودان. ونجح في كسب ود عدد من قادة الدول المتحفظة عن سياسات النظام السوداني، خصوصاً أثيوبيا ومصر وبعض الدول الغربية. غير أن ذلك لا يعني أنه يتسم بالمرونة نفسها على صعيد علاقاته الشعبية ومع بقية القوى السياسية السودانية المعارضة للجبهة الاسلامية القومية. فهو - مقارناً بالترابي - صفوي، وليس رجل شارع بالمعنى المفهوم للقائد السياسي. ويجمع المراقبون في السودان على أن اختياره نائباً أول لرئيس الجمهورية لم يكن مستغرباً لدى المواطن السوداني، "إذ جاء تعيينه انعكاساً لاعتقاد شائع أصلاً بأنه يملك الخيوط الاساسية للحكم ويديرها من وراء الستار منذ اليوم الاول لانقلاب البشير" على حد تعبير قيادي بارز في الجبهة الاسلامية القومية. وأشار القيادي الى أن النية انعقدت أصلاً على إعفاء اللواء عبد الرحيم محمد حسين من حقيبة شؤون رئاسة الجمهورية، وإلغاء حقيبة شؤون مجلس الوزراء التي يشغلها العميد صلاح الدين كرار، ليكلف علي عثمان حقيبة تدمج فيها الوزارتان، حتى يتسنى له تسيير شؤون رئاستي الحكومة والجمهورية. غير أن وفاة المشير الزبير أصابت تلك الخطط بالارتباك، وحدت بالبشير وحلفائه الى التعجيل باختيار علي عثمان نائباً أول، وهي حقيبة تشمل مسؤوليات عدة، منها تنفيذ الحكم الاتحادي، ورعاية اتفاقية السلام مع الفصائل الجنوبية المنشقة عن الجيش الشعبي لتحرير السودان، والاشراف على أعمال مجلس الوزراء وديوان الرئاسة. ويعتقد اسلاميون سودانيون بأن من شأن تعيين علي عثمان في منصبه الجديد أن يزيل التشوهات التي بقيت ميسماً لعملية صنع القرار في النظام السوداني منذ 1989. فمع أن المشير الراحل تولى باقتدار اقناع السلطات المصرية ببدء صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين، بعد طول خصام ونفور، فقد عمد الترابي الى الادلاء بتصريحات كادت أن تودي بذلك التقارب منذ يومه الاول. ويرجح هؤلاء أن نفوذ النائب الاول الجديد يتيح له تقديم التعهدات التي قد تطلبها دول مجاورة ثمناً لتحسين علاقاتها مع السودان. ويرون أن تعيين علي عثمان نائباً أول للرئيس يمثل تحييداً للترابي وجناحه. وربما حدا ذلك بخصوم علي عثمان الى اطلاق الدعوة الى تبني تعددية حزبية، الغرض منها تحويل المؤتمر الوطني التنظيم السياسي حزباً حاكماً وغالباً يتولى أمانته العامة الترابي، وقد ينوب عنه الدكتور غازي صلاح الدين. ولوحظ أن الاقتراحات التي قدمت أخيراً الى الدورة الثانية للمؤتمر الوطني التي عقدت في الخرطوم تسعى الى انشاء وضع تكون الغلبة فيه للحزب الحاكم، على أن تكون الحكومة تابعة له ونابعة منه. وفي مقابل ذلك يقترح معاونو الترابي تعيين البشير رئيساً للمؤتمر الوطني، فيما يجمع الترابي نفسه بين الامانة العامة للحزب الحاكم ورئاسة المجلس الوطني البرلمان حتى يتمكن من تمرير مشروع الدستور الدائم الذي أعلن أنه سيطرح في استفتاء عام قبل حلول الذكرى السنوية التاسعة لانقلاب "ثورة الانقاذ الوطني". ويرى أعوان الترابي أن فرص هيمنتهم من خلال حزب اسلامي غالب راجحة لأن مرشد الجبهة الاسلامية يملك بعداً شعبياً لا بأس به، وهو أمر يفتقر اليه علي عثمان الذي يجد التقدير والاعجاب في صفوف القيادات وشاغلي المناصب التنفيذية. لكن ذلك لا يعني أن الجبهة الاسلامية مهددة اليوم أو غداً بانشقاق من شأنه تهديد بقاء دولتها، إذ لا يوجد خلاف داخل التنظيم على "المشروع الحضاري" الجاري تنفيذه. وتشعر التيارات كافة داخل الجبهة بأن الدولة الاسلامية التي أنشأها انقلاب حزيران تعيش حالياً ما يسميه أعوان النظام "مرحلة ما بعد التمكين"، بعدما دانت لها غالبية أرجاء البلاد. والمهم - وتلك قناعة كل الاجنحة داخلها - ايجاد وتثبيت نظام للادارة وهيكل الحكم يتيح المضي أشواطاً أخرى في مشروع تغيير بينة المجتمع وإخضاعه بالكامل لفكر الجبهة ونهجها. سألت "الوسط" قيادياً جبهوياً في الخرطوم: هل يسدل اختيار علي عثمان نائباً أول لرئيس الجمهورية الستار على الانشقاق السافر داخل الجبهة الاسلامية؟ فأعرب عن اعتقاده بأن الانشقاق حسم باستيلاء جماعة علي عثمان على السلطة، "إنه انقلاب داخلي عجلت ظروف وفاة المشير الزبير بتنفيذه. ولم يبق ثمة مجال أمام الفئة الاخرى للمناورة. كأنما اعترف كل من الجانبين بالامر الواقع". وزاد: سيبقى هذا الامر الواقع على الاقل حتى العام 2001 الذي تنتهي فيه فترة رئاسة الفريق البشير. وحتى إذا نجحت الفئة الاخرى في تمرير دستور يحتضن مبدأ التعدد الحزبي، وفرض وضع يعلو فيه الحزب الحاكم على الجهاز التنفيذي، فإن التيار الآخر يملك ورقة خيار الحسم العسكري الى درجة لا تتوافر لدى منافسيه. ولا يتوقع - في كل حال - أن تتبدى أي مظاهر سافرة لهذا الصراع الداخلي الذي بقي يلازم الجبهة الاسلامية في مراحلها المختلفة. أما بالنسبة الى النائب الاول الجديد فهو سيواجه بعد اسابيع من تعيينه تحدياً كبيراً يتمثل في الحفاظ على وتيرة التحسن في العلاقات المصرية-السودانية، خصوصاً أن مصر - كما بدا جلياً - اطمأنت الى أن المشير الزبير ليس أصلاً من عناصر الترابي، وهي تريد على الاقل تطمينات لا تقل درجة عن تلك، في تعاملها مع وزير الخارجية الجديد، وهو من العناصر المعروفة بانتمائها وعملها في الجبهة وواجهاتها المختلفة. كما سيواجه علي عثمان تحدياً جديداً بعد أقل من شهرين حينما تستأنف مفاوضات السلام بين الحكومة والثوار الجنوبيين في نيروبي تحت مظلة منظمة الهيئة الحكومية للتنمية ومكافحة الجفاف ايغاد، وذلك إثر أسوأ انتكاسة تُمنى بها الحكومة، نتيجة تغيير حليفها السابق القائد كاربينو كوانيين بول ولاءه، ومشاركته في محاولة فاشلة لاحتلال مدينة واو التي تعد ثاني أكبر مدينة في جنوب السودان، وفي ظل الاستعدادات لهجوم مرتقب على العاصمة الجنوبية الكبرى جوبا.