} أصبح النائب الأول لرئيس الجمهورية السودانية علي عثمان محمد طه لغزاً في مجرى نظام الانقاذ. وعلى رغم انه الرجل الذي استضافني في الخرطوم في مطلع آذار مارس 1997، حين كان وزيراً للخارجية، وفتح أمامي كل مجالات الحوار مع مختلف القوى السياسية داخل النظام وحتى المعارضين في الداخل، وكذلك الأجهزة الأمنية، إلا ان كل تعاون معه لم يثمر في النهاية إلاّ النقيض على رغم تمتعه بكل الصلاحيات حتى لا يمكن ان يداري سلبيته بضغوط مراكز قوى أخرى متشددة داخل النظام. حاولت فعلاً ان استقر في بلدي، بعد اغتراب طويل بدأ منذ عام 1966، تخللته زيارات متقطعة الى السودان، ووزعت جهداً كبيراً فيه ما بين الهموم السودانية والاريترية والتأليف. ولم يكن هدفي أيضاً من الاستقرار في موطني شغل منصب رسمي، خصوصاً ان اريتريا - بلدي الثاني كرمتني بعد الاستقلال في عام 1993 بوضع ديبلوماسي ومنصب استشاري واتيحت لي فرص الاستقرار في أسمرا، فهدفي من الاستقرار في السودان هو مواصلة جهودي التي ابتدرتها في الخارج مركزاً أساساً على حقل الدراسات الاستراتيجية، غير انه لا مردود له ان لم يكن النظام نفسه قابلاً للتعاطي معه. كنت أدرك ما يجب ان أفعله في موطني، غير ان مدخل ذلك لا ينفصل عن احداث نقلة نوعية داخل النظام نفسه باتجاه وفاق وطني ولهذا كان بيان دمشق في 17 أيار مايو 1997 مقدمة للرجوع، وما زلت متمسكاً به. غير ان العقبة الأساسية وما زالت هي المنظمة داخل النظام. حاولت ان أدرس شخصية النائب الأول علي عثمان محمد طه عبر المقربين اليه، وكذلك الحاقدين عليه أيضاً، فبقراءة الامتداد تكتمل الصورة، وحاولت الوصول الى تقارير أجهزة جعفر نميري عنه، سواء في مرحلة مقاومته لنظام نميري 1969 - 1976 أو اندراجه في سلك التعاون معه 1977 - 1985. ومن الطرائف ان شقيقتي أم كلثوم أبو القاسم حاج محمد والعاملة الآن في مجال المرأة كانت ضابط الارتباطي السري بين علي عثمان محمد طه في احدى فترات اختبائه أيام مقاومته لنميري والتنظيم. واعتقلت بسبب ذلك، غير ان التزامها العقائدي والانقاذي لم يمكنها من مساعدني في تحليل شخصية النائب الأول، شأن شقيقاتي الأخريات وأزواجهن، فكلهم انقاذيون وفي مناصب رفيعة. كان آخر ما قرأته حول شخصيته في مجلة الوسط بتاريخ 23 شباط فبراير 1998 الرقم 317 بقلم معاوية يس بعنوان: "حديث عن خلافات بين الترابي ونائبه وأجنحة تصطرع داخل الجبهة الإسلامية". ثم ما كتبه عثمان ميرغني في مجلة الدستور السودانية بتاريخ 26 كانون الثاني يناير عام 2000 بعنوان "الرجل الغامض"، وكذلك ما كتبه الدكتور محمد وقيع الله أحمد في الحياة العدد 13522 بتاريخ 20 آذار مارس 2000. فعلي عثمان الذي خلف النائب الأول السابق الفريق الزبير محمد صالح بعد سقوط طائرته ووفاته في 12 شباط 1998 أصبح من يومها مثار جدل واسع، علماً ان سجله الطلابي والمهني حافل كقانوني، في القضاء والمحاماة، وكذلك سجله السياسي كزعيم للحركة الطالبية الإسلامية ضد نميري منذ عام 1971 ثم انتخابه في دورات مجلس الشعب مرحلة نميري بعد المصالحة معه طوال الفترة من 1978 والى 1985 وهي الدورات الثالثة والرابعة والخامسة وانتخابه رئيساً للجنة التشريع والشؤون القانونية في مرحلة تحوّل نظام نميري الى الإمامة باسم الإسلام. وعمل أثناء ذلك زعيماً لهيئة مجلس الشعب أثناء حكم نميري في الفترة من 1982 والى 1984. ثم أصبح نائباً في البرلمانية الثالثة 1986 - 1989 وزعيماً لنواب المعارضة واختير ليكون نائباً للترابي في التنظيم الإسلامي. بعد انقلاب البشير في 1989 صعد علي عثمان عبر تقلده مناصب عدة من وزارة التخطيط الاجتماعي الى وزارة الخارجية، وصولاً لمنصب النائب الأول لرئيس الجمهورية. هذا السجل الحافل لا يمكن ان ينتهي بنا الى القول ان الرجل كان مجرد صنيعة للترابي ليزيح الشيخ حسن الترابي القيادات الفاعلة الأخرى في الحركة الإسلامية أمثال يس عمر الإمام وابراهيم احمد عمر ومهدي ابراهيم وحافظ الشيخ وربيع حسن أحمد وحسن مكي والطيب زين العابدين وآخرين، كما أزاح من قبل الصادق عبدالله عبدالماجد وجعفر شيخ ادريس وآخرين أيضاً. على الأقل يثبت هذا السجل قدرات علي عثمان السياسية والقانونية، ولكن بشكل أوضح قدراته التنظيمية، فطوال نشاطاته تلك ضد نظام نميري قبل المصالحة لم يتسن لأجهزة الأمن الوصول اليه ولم يعتقل علي عثمان يوماً واحداً في حياته. لا أميل الى القول انه صنيعة الترابي بالكامل، وان كان الترابي أراد توظيفه ضمن اجندته التنظيمية الخاصة سواء للسيطرة على العسكريين أو تحجيم الآخرين، ففردية الشيخ الترابي المتضخمة لا تجعله يركن لوضع أوراقه بيد أي كان، بمن فيهم علي عثمان. ومن هنا تأتي أهمية تحليل محمد وقيع الله أحمد الحياة - 20/3/2000 حين ذكر أن الترابي لم يرشح علي عثمان ليكون زعيماً للمعارضة في برلمان 1986 - 1989 وانما رشح آخر هو أحمد عبدالرحمن محمد في حين تولى محمد طه رئيس التحرير الحالي لصحيفة الوفاق ترشيح علي عثمان. ويفيدنا معاوية يس الوسط - 23/2/1998 بأن الشيخ الترابي كان يحيط علي عثمان وهو نائبه في التنظيم بجملة من الانتقادات حالت دون توليه منصباً تنفيذياً في الدولة الى عام 1993 حيث أصبح وزيراً للتخطيط. ويفيدنا عثمان ميرغني الدستور - 26/2/2000 بأن الترابي وعلي عثمان اختلفا حول مآل ونهايات دور العسكريين في النظام، هل يذهبون الى مواقع أخرى في ما رأى الشيخ الترابي، او يحتلون موقعاً دستورياً مؤسسياً داخل برلمان النظام كما هو رأي علي عثمان. ويفيدنا عثمان ميرغني أيضاً بأنه بعد وفاة الزبير محمد صالح رشح الترابي للبشير ثلاثة أسماء، تضمنت اسمه - الترابي - ثم يليه الدكتور علي الحاج وأخيراً علي عثمان محمد طه. إذاً لا أميل الى القول إن علي عثمان هو صنيعة الشيخ الترابي بالكامل، بل ولأكثر من ذلك يمكن الاستنتاج من سجل علي عثمان ان الترابي نفسه كان يستشعر خطره الدفين ويخشى دوماً الجسور الممدودة بينه وبين العسكريين، والطبيعة المفارقة في تكوينه لتكوين الترابي نفسه. فالترابي كثير الكلام ولديه ملء الأرض من السخريات اللاذعة، وكثير الظهور اعلامياً، وفي الندوات واللقاءات، وعلي عثمان قليل البوح كثير الصمت يكتفي في المناقشات بهز الرأس ولا يميل الى الظهور الإعلامي وقل ان يضحك ملء شدقيه، وهذه طبيعة سلوكية تثير ريب رجل كالشيخ الترابي، حيث يمكنه ان يفسر تأدب علي عثمان معه كمظهر يخفي في داخل هذا الرجل ما لا يظهر سره بعد صمت وصبر إلا في ليلة ليلاء. وكانت هذه الليلة متغيرات رمضان واقدام الرئيس البشير في الرابع من رمضان 1420ه الموافق 12 كانون الأول ديسمبر 1999 على حل المجلس الوطني برلمان النظام وتمديد حال الطوارئ وقبول الاستقالات الجماعية للوزراء الاتحاديين والولاة. وقتها سئل الشيخ الترابي: عمن يقف خلف الرئيس البشير، فرد: نائبه الأول يقف أمامه. ما الذي يخفيه علي عثمان؟ السؤال قائم، ما الذي يخفيه النائب الأول علي عثمان محمد طه؟ سواء وقف من وراء الرئيس البشير أو أمامه في الخلاف مع الشيخ الترابي واحداث متغيرات رمضان أواخر 1999، ومن بعد اجهاض الملتقى التحضيري للوفاق الوطني 20/10/2000 وصدور القرارات الشمولية لمؤتمر الحزب الحاكم 30/9/2000 وتكريس آحادية الانتخابات الرئاسية ومجلس الشعب في كانون الثاني يناير 2000. ما الذي يخفيه علي عثمان؟ لا يستطيع القول قط انه غير مسؤول عن ذلك، بل تتجه اليه أصابع الاتهام الآن بأنه المسؤول الأول عن اجهاض توجهات الرئيس نحو الوفاق الوطني والانفراج السياسي والمناداة بالجبهة الوطنية المتحدة واحتواء نقد الرئيس لتركيبة الحزب الحاكم المؤتمر الوطني. بل يقال ان النائب الأول بحكم ترؤسه لجلسات مجلس الوزراء كان هو الذي أقال فعلياً وزير الدولة في وزارة العدل أمين بناني بتاريخ 7/2/2001 حين تبنى بناني مواقف الرئيس وانتقاداته للحزب الحاكم، بما يعني ان علي عثمان يخوض معركة لتحجيم الرئيس البشير، من الحزب الحاكم وفي أجهزة الدولة بعد ان خاض معركته ضد شيخه الترابي في اطار متغيرات رمضان، التي ينسب الترابي احداثياتها لعلي عثمان أكثر من البشير. فهل يتزعم علي عثمان تلك المنظمة داخل النظام المنظمة التي تستمد قوتها من الخلفية الانقلابية في حزيران يونيو 1989 وغلاة العقائديين المتمحورين حول ذاتهم ومراكزهم ومصالحهم الخاصة في جسم النظام، بعد اجهاض الملتقى التحضيري للوفاق وتكريس آحادية الحزب؟ الصراع الخفي مع قيادات مذكرة العشرة هناك تساؤل: أين تقف القيادات الإسلامية التي سبق لها ان دانت ممارسات الشيخ الترابي على المستوى التنظيمي داخل المؤتمر الوطني حين كشفت عن خلل لازم تجربة الانقاذ طوال عشر سنوات في مذكرتها بتاريخ 10 كانون الأول ديسمبر 1998؟ فما دانته تلك المذكرة، وحملت مسؤوليته للشيخ حسن الترابي، يعود ويتكرر على يد النائب الأول، بما في ذلك العودة الى ازدواجية القرار بين ما يعلن عنه الرئيس البشير ويجهضه علي عثمان. كشفت تلك المذكرة عن خلل في أربع نقاط تعود وتتكرر اليوم: الافتقار الى الشورى - الافتقار الى فاعلية القيادة العليا - الافتقار الى المؤسسية كأسلوب للعمل - الافتقار الى الوحدة كسياج لحماية الحركة. فهل يلعب علي عثمان دور الترابي بما يقتضي تقديم مذكرة أخرى. علماً ان علي عثمان لم يكن طرفاً في تلك المذكرة وصمت ازاءها، ولعله لم يكن مقتنعاً بمضمونها وان استغلها لتحجيم الترابي، فمضون "مذكرة العشرة" يشكل نقيضاً لممارسات علي عثمان الراهنة، على مستوى الحزب الحاكم المؤتمر الوطني وعلى مستوى أجهزة الدولة التنفيذية، بل ويكرر ازدواجية القرار. معركة البشير الثانية يبدو ان لصراع علي عثمان مع البشير له ما بعده - هذه المرة - على مستوى هموم الوطن والمواطنين. فالصراع السابق بين البشير والى جانبه علي عثمان مع سطوة الشيخ الترابي تمت فيه ازاحة الترابي كمركز قوة مهيمنة ليخلو الأمر للبشير ومن معه. وحدث هذا فعلاً بمتغيرات رمضان، ولكن ماذا عن خلاف البشير مع نائبه، هل فقط للقضاء على ازدواجية أخرى من القرار؟ ان كان هو فقط القضاء على ازدواجية اخرى من القرار فلا شأن لسوداني به، سواء انتصر البشير أو علي عثمان، فهذه معركة داخل القصر وتلك كانت معركة بين القصر حيث البشير ومجموعته والمنشية حيث مقر اقامة الترابي. ولا علاقة للوطن والمواطنين بهذه المعارك. ولكن في ما لمسناه، من معركة البشير الثانية، انما تتجاوز ازدواجية القرار الى نوعية القرار. فالبشير ينتهج خطاً نقيضاً لعلي عثمان، سواء على مستوى الحزب الحاكم الذي وجه اليه النقد، أو على مستوى الوفاق الوطني الذي حاول تعزيزه. فالمعركة الآن معركة جوهرية فإذا قيض لقيادات اسلامية ان تعلن موقفها التزاماً بهموم الوطن والمواطنين فإن مذكرتها هذه المرة يجب ان تخرج من المشكلات التنظيمية الى المشكلات الوطنية وبما يقارب مواقف الرئيس البشير في ما أعلنه عن ضرورات الوفاق الوطني والبرنامج الاستراتيجي والتعديل الدستوري وقيام الجبهة الوطنية المتحدة التي سبق له وأعلن عن ضرورتها جهراً "ندعو الى تكوين جبهة وطنية عريضة تضم معظم القوى الوطنية في الساحة ومن نتوصل الى اتفاق معه في شأن برنامج محدد" - الحياة - 21/12/1999، والحياة - 24/12/1999. وتحفظ كل من السيدين الصادق المهدي الأمة والميرغني الاتحادي الديموقراطي على ذلك الطرح تخوفاً من صيغة الجبهة الوطنية التي تتسع لغيرهما من القوى النقابية والفئوية الأخرى. وسبق لي ان نشرت على صفحات الصحف السودانية المشروع المتكامل لهذه الجبهة الوطنية المتحدة، وأخص بالذكر صحيفة الوفاق في شهر حزيران 2000 وذلك بعد ان خاطب الرئيس البشير مواطني وفاعليات محافظة الجزيرة بشأنها في تاريخ 23 أيار 2000، كما كان شدد عليها قبل ذلك في كانون الأول 1999 جنباً الى جنب مع وضع ميثاق عمل وطني واعداد استراتيجية قومية شاملة وتأكيد السودانية كإطار جامع للجنوبيين والشماليين على حد سواء. كنت وما زلت مصراً على هذه الجبهة الوطنية المتحدة منذ توقيعي والأمين العام للحزب الاتحادي الديموقراطي على بيان مبادرة الحوار الشعبي الشامل في دمشق بتاريخ 17 أيار 1997، ووجهت بها مذكرتين، الأولى الى النائب الأول لرئيس الجمهورية علي عثمان محمد طه بتاريخ الثلثاء 25 صفر 1421 الموافق 30 أيار 2000م. والثانية الى البروفسور ابراهيم احمد عمر الذي كان وقتها أميناً عاماً مكلفاً لحزب المؤتمر الوطني الحاكم بعد ازاحة الشيخ الترابي، وذلك بتاريخ الأحد ربيع أول 1421ه الموافق 2 تموز يونيو 2000. غير انه، وللأسف، حوصر مشروع الرئيس البشير للجبهة الوطنية، التي كانت مدخلاً لتوسيع قاعدة المشاركة في الحكم واتخاذ القرار، ولم يكن الحصار هذه المرة من طرف النائب الأول فقط، ولكن من طرف السيدين المهدي والميرغني أيضاً. فالنائب الأول يريدها شمولية ترفض الطرح الجبهوي، والسيدان المهدي والميرغني يريدان اقتساماً جماعياً للسلطة بينهما وبين الانقاذ على أساس فوقي مع استتباع الفصائل الأخرى وليس جبهة وطنية تتسع للقوى الاجتماعية الحديثة والنقابات ورجال المال والأعمال والمصارف ومن يليهم من الطرق الصوفية وزعماء العشائر والمستقلين من المثقفين والصحافيين. رفض الميرغني الحزب الاتحادي الديموقراطي ورئيس التجمع الوطني الديموقراطي المعارض عرض الرئيس البشير حول الجبهة الوطنية الحياة - عدد 13346 - 21 كانون الأول 1999 الموافق 13 رمضان 1420ه، ثم بعد ثلاثة أيام أعلن الصادق المهدي رفضه أيضاً الحياة - عدد 13439 - 24 كانون الأول 1999 الموافق 16 رمضان 1420ه. علماً أن البشير طرح تلك الجبهة في غمار معاركه بوجه الشيخ الترابي وإثر متغيرات رمضان 12/12/1999، فكان لا بد من الضرب على الحديد وهو ساخن، ولكنها أخطاء التكتيك لدى السيدين المهدي والميرغني وعدم رؤيتهما الخطط النقيضة داخل القصر. والغريب ان يأتي الصادق المهدي ليطرح في ما بعد جبهة وطنية ولكن خاصة به أرادها ركناً ثالثاً في المعادلة السياسية بموازاة ركني الانقاذ والتجمع الوطني الديموقراطي المعارض الذي انسحب منه حزب الأمة - المهدي في 16 آذار 2000. وسمى المهدي جبهته جبهة الديموقراطية والسلام - الحياة - عدد 13524 - تاريخ 22 آذار 2000 الموافق 16 ذو الحجة 1420ه. فالمهدي الذي رفض دعوة البشير في كانون الأول 1999 يعود ليطرح تشكيل جبهة خاصة به في آذار 2000 من دون استبصار ضرورة مساندة البشير في ذلك الوقت واثر متغيرات رمضان ومساعدته على تحجيم المنظمة الشمولية داخل النظام. ثم كيف يمكن السيد الصادق ان يعزز التحول باتجاه ما نص عليه في جبهته من أهداف الديموقراطية والسلام من دون تحالف مع قوى تريد هذا التوجه داخل النظام، وبعد ان انسحب المهدي من التجمع المعارض الذي يرى ضرورة تحقيق الهدفين بقوة السلاح؟ فإذا كانت عودة المهدي تستهدف التأثير من الداخل بعد رفض المقاومة المسلحة من الخارج فقد كان الأولى به البحث عن تحالفات داخل النظام بوجه المنظمة الشمولية، وداخل المجتمع السوداني أيضاً، أو تغذية وتدعيم ما هو قائم في الواقع كالتجمع الذي يقوده المحامي غازي سليمان. ولكن مصيبة السودان دائماً في الأجندة الفردية والذاتية. وكرر المهدي طرحه ذاك عن جبهته، ومن بعد ان ضخم كثيراً دور حزب الأمة في مقالاته بصحيفة الحياة العودة من تهتدون الى تفلحون وبالذات في الحلقة الحادية عشرة العدد 13788 - تاريخ 11 كانون الأول 2000 الموافق 25 رمضان 1421ه إذ ذكر: "يعتقد حزب الأمة ان العمل الجماعي واجب وطني لتوحيد الجهد من أجل المقاصد الوطنية. ويعتقد ان المرحلة المقبلة هي مرحلة عمل جماعي من أجل تحقيق الأجندة الوطنية وسوف يسعى مع القوى السياسية السودانية الأخرى لتكوين جبهة عريضة تلتزم ميثاقاً وطنياً محدداً وتعمل من أجل الأجندة الوطنية". فما هو الفارق بين ما يطرحه الصادق المهدي وما طرحه الرئيس البشير الداعي للجبهة الوطنية وللميثاق الوطني والبرنامج الاستراتيجي؟ وما الفارق بين ما يدعو له المهدي في هذا الاطار المحدد بالذات وما يدعو له المحامي غازي سليمان؟ وما هو الجديد الذي أتى به المهدي بعد اعلان دمشق في 17 أيار 1997؟ أم ان الفارق يكمن في الأجندة الخاصة؟ ما زال الدفع بتوجهات الرئيس البشير نحو وفاق وطني حقيقي وتكوين الجبهة الوطنية المتحدة ووضع البرنامج الاستراتيجي والميثاق الوطني ضرورياً من أجل توسيع قاعدة الحوار الوطني وتأمين مشاركة كل الأطراف الوطنية السودانية في الداخل والخارج لتشكيل الجبهة الوطنية المتحدة وذلك بهدف ايجاد الصيغة الملائمة للتحول الديموقراطي السلمي وصولاً للخروج بالسودان وشعبه من مأزقه الراهن داخلياً واقليمياً وعربياً ودولياً. ان تشكيل الجبهة الوطنية المتحدة في الداخل لا يقتصر فقط على تنظيم قوى وطنية - موازية - للنظام في ظل الانفراج السياسي بل يعتبر هذا التشكيل الحل الأمثل والواقعي لإشكالية الدولة والمجتمع في الواقع السوداني، فالمجتمع بتعدديته المركبة يستحيل عليه ان ينتظم في حركة شمولية احادية مهما كانت منطلقاتها الايديولوجية او العقائدية، ولهذا لا بد من الأخذ بالمنطق الجبهوي الذي يستجيب لهذه التعددية المركبة من جهة ويؤمن توسيع قاعدة المشاركة في الحكم واتخاذ القرارات من جهة أخرى. غير انه ليس بالإمكان ممارسة هذه الجبهة الوطنية لدورها في توسيع قاعدة المشاركة في الحكم واتخاذ القرار بوجود المجلس الوطني الذي يشكل مرجعية أخرى غير مرجعية الجبهة الوطنية، مما تترتب عليه حال أخرى من الازدواجية والتناقض، فلا بد من حل المجلس الوطني واتخاذ الجبهة الوطنية الشاملة لكل القوى السودانية بديلاً دستورياً جديداً، ونقل الصلاحيات الدستورية للمجلس الوطني اليها الى ان يتم التحول الديموقراطي. فالمجلس الوطني هو مجلس النظام و25 في المئة من أعضائه يتم تعيينهم بموجب المادة 67 - 2 - ب من الدستور. والباقون يأتي بهم الموالون للنظام. أما المؤتمر الوطني الحاكم فمآله الى الجبهة الوطنية المتحدة الشاملة لكل القوى السودانية إذ يشكل واحدة من أهم أربع قوى سودانية ذات ثقل في اتخاذ القرار المؤتمر الوطني، حزب الأمة، الحزب الاتحادي الديموقراطي، حركات الجنوب. انه من أولى مهمات "الجبهة الوطنية المتحدة" ان تضع البرنامج الوطني الاستراتيجي لتتولى تنفيذه حكومة وفاق وطني منبثقة عنها تستمر لفترة زمنية أدناها عشر سنوات. فما وصلت اليه البلاد من انهيار اقتصادي ومديونية وما نتج من حرب الجنوب لا يمكن معالجته خلال فترة وجيزة أو أقل من عشر سنوات. فاستمرار الوفاق مطلوب طوال هذه الفترة حتى لا تعكر صفوه المنازعات الحزبية أو البرلمانية بما كان عليه الحال طوال البرلمانيات السابقة، فليس المطلوب العودة الى ما قبل 1989، ومن يفكر بامكان هذه العودة متعجلاً تشكيل حكومة وقتية وانتقالية لمدة سنتين أو أربع سنوات تعقبها انتخابات تأتي به الى الحكم ليكرر ما سبق فهو واهم قطعاً وغير مستدرك لحسابات الانقاذ وضرورات الوطن. فالمهم الآن هو تشكيل "الجبهة الوطنية المتحدة" ووضع البرنامج الاستراتيجي وتشكيل حكومة السنوات العشر الوفاقية، ذلك اذا أراد النظام ان يظهر الصدقية. أما طرح الشعارات في لحظات الأزمة وصراعات أجنحة الانقاذ فهذا أمر لا ينطلي علينا ولا نقبله، فقد صبرنا بما يكفي منذ اعلان دمشق في 1997. وكم أعجبتني مقالة في صحيفة الحياة كتبها أستاذ الدراسات الأفريقية السوداني محمد بابكر ابراهيم بعنوان: انتصر البشير لنفسه فهل ينتصر للسودان - عدد 13444 - تاريخ 30 كانون الأول 1999 الموافق 22 رمضان 1420ه، ولكن كيف ينتصر البشير للسودان - والبشير يريد ذلك - وهو محاصر بين الأجندة الخاصة، بعضها داخل قصره، وبعضها بيد المعارضين كالتجمع والمحاورين كالسيد الصادق. اضافة الى سلبية الجيل الثاني وانصرافية القوى الاجتماعية الحديثة. إزاء هذا الواقع قد يعيش البشير المرارات التي عشناها بحثاً عن البدائل منذ ما قبل سقوط نميري وبعده، ولكن ما بيده من وسائل غير ما كان بأيدينا، وعلى الاتجاه نفسه يمضي معه كثيرون، قولاً وفعلاً وعلى رأسهم محمد طه محمد أحمد، رئيس تحرير صحيفة الوفاق ومحمد محجوب هارون - رئيس مجلس ادارة صحيفة الصحافي الدولي ومحجوب عروة - صاحب جريدة الرأي العام وتقف الى جانبه أقلام كثيرة أخرى حتى يكون موقعه أمام نائبه. * سياسي ومفكر سوداني.