يُجمع عدد من المراقبين لمسار العلاقات اللبنانية - الفرنسية هذه الايام، على القول ان المخفي في هذه العلاقات ربما يكون اكثر واخطر من الظاهر منها. وعندما يفصح طرف عن "تعثر طفيف" في علاقات البلدين، كما فعل اخيراً السفير اللبناني في باريس ريمون بعقليني فان ايقاع كلامه يبدو وكأنه يكشف رأس هرم من المشاكل الكامنة والمتراكمة. لكن الى اين وصلت العلاقات الفرنسية - اللبنانية وممَ تعاني؟ وهل يمكن تحريرها من الاشاعات والاحكام المسبقة والتحليلات الفئوية وبالتالي اعادتها الى قواعدها الطبيعية؟ الاجابة عن هذه التساؤلات تستدعي وصف العلاقات الثنائية وما طرأ عليها من تغيرات، واول عناصر هذا الوصف يكمن في التغيرات السياسية التي شهدتها باريسوبيروت على حد سواء. ففي باريس ادت الانتخابات البرلمانية المبكرة العام 1997 الى فوز احزاب اليسار بالغالبية البرلمانية وتشكيل حكومة يسارية بزعامة الحزب الاشتراكي والى تعايش "بنّاء" بين رئيس الوزراء ليونيل جوسبان ورئيس الجمهورية الديغولي جاك شيراك. ولم تعبأ السلطات الحكومية اللبنانية يومها بهذا التغيير، وفضّلت تغليب العلاقات الشخصية - السياسية مع شيراك، انطلاقاً من تصور لبناني مفاده ان الديغوليين اقرب الى لبنان والعرب الاشتراكيين وان رئيس الجمهورية في فرنسا يتمتع بالكلمة الفاصلة في السياسة الخارجية وان النجاح السابق الذي نتج عن توثيق العلاقات مع شيراك وأدى الى نتائج باهرة على الصعيد اللبناني، خصوصاً خلال حرب "عناقيد الغضب" الاسرائيلية 1996، يستدعي الرهان على رئيس الجمهورية حصراً. وادرك الاشتراكيون مبكراً هذا الرهان الحكومي اللبناني وحذّروا من يعنيهم الامر من مغبة ذلك ومن ان التصور اللبناني يرتكز اصلاً الى منطلقات خاطئة، فلا الديغوليون اكثر قرباً من لبنان والعرب، وليس شيراك ديغولياً على طريقة الجنرال الراحل، وانما "نيو ديغولي" ويصعب احياناً التعرف على المبادئ الديغولية التقليدية في مواقفه ثم انه لا يتمتع بحرية كاملة في السياسة الخارجية وهو حريص على مشاركة الحكومة في هذه السياسة، غير ان هذه الاشارات لم تجد آذاناً صاغية، حينذاك، لدى مقرري السياسة الخارجية اللبنانية. ولم يطل الامر كثيراً حتى وقعت مفاجأة لبنانية في حجم المفاجأة الفرنسية. ففي العام 1998 انتُخب رئيس جديد للجمهورية وكلف الرئيس اميل لحود الرئيس سليم الحص تشكيل حكومة جديدة. ومع غياب رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري انهارت الاسباب التي قامت عليها سياسة لبنان تجاه فرنسا، ليتبين ان تداخل العلاقات الشخصية - السياسية بين الحريري وشيراك بات قوياً لدرجة يصعب معها على رئيس الحكومة الجديد ان يجد له مكاناً بارزاً في جدول اهتمامات الاليزيه، وبما ان فرنسا ليست دولة عالمثالثية فان رئيس وزرائها لم ينتهز الفرصة ليستقبل سليم الحص الامر الذي ادى الى نشوء حالة غريبة في علاقات البلدين قد تكون هي الاول من نوعها منذ استقلال لبنان. عون والحريري ومما زاد هذه الحالة غرابة ان شيراك واظب على استقبال الحريري بعد استقالته، مع علمه التام بالحساسيات اللبنانية - اللبنانية والجدل المنقول على البث المباشر حول ملفات حكومة الحريري وعلاقاته مع قصر الأليزيه. ولم يتوقف الامر عند هذا الحد، فقد سمحت السلطات الفرنسية للجنرال ميشال عون بالاقامة في باريس، وهو امر كانت ترفضه سابقاً، وصار بوسع الجنرال اللبناني ان يدعو الى مؤتمرات ويشترك في ندوات ويطلق تصريحات مناهضة لسورية بصورة خاصة، وسورية نفسها كانت العام الماضي حاضرة في العاصمة الفرنسية بوصفها "شريكاً استراتيجياً" مفترضاً لفرنسا. وبدأ استقبال شيراك المتكرر والعلني للحريري يثير تساؤلات في بيروت، وباتت وتيرة اللقاءات اشبه بأن يلتقي الرئيس اميل لحود مراراً وتكراراً ميشال روكار رئيس الوزراء الفرنسي السابق مع علمه التام بوجود منافسه ليونيل جوسبان على رأس الحكومة في فرنسا او ان يلتقي الحص ادوار بالادور ويبحث معه حصراً شؤون العلاقات اللبنانية - الفرنسية مع علمه التام بأنه خصم شهير وغير محبب للرئيس شيراك. بيد ان مظاهر الفتور، وربما اكثر من ذلك، بين الحكم اللبنانيوفرنسا لم تظل محصورة بالنواحي المذكورة آنفاً، فقد بادر لبنان الى تعيين سفير جديد في باريس هو السيد ريمون بعقليني خلفاً للسفير السابق ناجي ابي عاصي الذي تميز ببراعة في متابعة علاقات البلدين وادارة الجانب اللبناني فيها بمهارة ربما يتجاوز التناقضات والحساسيات، الا ان تأخر باريس غير المعتاد في الموافقة على خيار الحكومة اللبنانية وبعد ذلك في قبول اوراق اعتماد السفير الجديد، أوحى بأن فرنسا كانت تفضّل ان يعين لبنان سفيراً اكثر انخراطاً في علاقات البلدين واكثر فرنكوفونية. او على الاقل ان يستشيرها لبنان بصفة غير رسمية في هوية السفير المقترح كما جرت العادة بين البلدين من قبل. وشاءت الصدف ان لا يُبدّد السفير بعقليني الحيرة الفرنسية، فقبل ان يُقدّم اوراق اعتماده، لبى دعوة مجموعة من الصحافيين اللبنانيين، وتحدث خلال اللقاء عن "جفوة" في علاقات البلدين والتي تعني ان ترتقي الى مرتبة سامية ، معرباً عن استعداده لبذل دور في هذا المجال، وبدا انه يريد ابلاغ رسالة ايجابية الى الفرنسيين. غير ان الرسالة التي وصلت عبر الصحافة اللبنانية كانت اقرب الى السلبية منها الى الايجابية فلم يتبدد "الفتور" الذي اشار اليه السفير ولم ينخفض حجم المشاكل المكتومة. والراجح ان "الحيرة" الفرنسية تجاه تعيين السفير بعقليني هي نتيجة حيرتين اكبر حجماً واهمية: الاولى تتصل بانتخاب الرئيس اميل لحود رئيساً للجمهورية، اذ ان فرنسا كانت تفضل "لحودياً" آخر اقرب الى الرئيس الحريري او على الاقل اسماً آخر يوحي بشراكتها مع سورية في اختياره، غير ان دمشق التي شاركت فرنسا في لجنة "تفاهم نيسان" وفي ازمة الشرق الاوسط بعدما استبعدتها الولاياتالمتحدة منذ مؤتمر مدريد، كانت تنتظر ان يردّ الفرنسيون "المصعد" باتجاه الشام، وعندما زار الرئيس حافظ الاسد فرنسا العام الماضي، وجرى حديث عن علاقة استراتيجية بين البلدين وعن عزم فرنسي على الحلول محل الاتحاد السوفياتي جزئياً في مركز النفوذ الاقليمي السوري، تبين له ان طموحات الفرنسيين الاستراتيجية قاصرة على الفرنكوفونية في سورية وعلى تنشيط السياحة والعلاقات الثقافية، وهي قضايا لا تعين سورية على تحسين موقعها الاستراتيجي في مواجهة اسرائيل. لذلك كان من الطبيعي ان تؤيد دمشق انتخاب رئيس لبناني غير معروف بحماسه الفرنكوفوني، وسبق لمارتن انديك مساعد وزير الخارجية الاميركية لشؤون الشرق الاوسط ان اعرب عن تقديره له، وبذلك كانت دمشق شريكة لواشنطن حصراً في اختيار الرئيس اللبناني. زيارة لحود لباريس وبخلاف الرؤساء اللبنانيين المنتخبين لم يقم الرئيس لحود بزيارة فرنسا بعيد انتخابه حتى الآن وما زال موعد زيارته محاطاً بغموض، فهل تتم الزيارة قبل القمة الفرنكوفونية؟ وان تمت قبلها فان ذلك ايضاً يشكل سابقة غير معهودة في علاقات البلدين. ومما لا شك فيه ان استبعاد رفيق الحريري من رئاسة الحكومة لم يقابل بمظاهر الفرح في قصر الاليزيه، فالمسؤولون الفرنسيون من كل الاتجاهات خصوصاً في الولاية الرئاسية الحالية عملوا على تنويع علاقاتهم مع مختلف الطوائف اللبنانية، فلم تعد باريس "الأم الحنون" لفريق واحد. لكن حسابات فرنسااللبنانية لا تتقاطع دائماً مع الحسابات السورية فدمشق المرجع الفاصل في الشؤون اللبنانية، ربما ارتأت ان الحريري مفيد للعلاقات السورية - الفرنسية، واللبنانية - الفرنسية، خارج الحكم، اكثر منه داخل الحكم، وفي ظل هذه الرؤية اختار الرئيس لحود الدكتور سليم الحص رئيساً للحكومة وهو ينتمي بقوة الى الثقافة الأنكلوساكسونية وليس معروفاً بأي طموح فرانكوفوني. وهكذا بدأت التغييرات التي شهدها لبنان، ابتداء من رئيس الجمهورية مروراً برئيس الحكومة وصولاً الى السفير اللبناني في فرنسا، لم تكن متوافقة مع تطلعات المسؤولين الفرنسيين ولم تستدرج اي حماس لا لدى رئاسة الجمهورية ولا لدى رئاسة الحكومة، وبدا انها تترافق مع حسابات سورية لقضية الشرق الاوسط ولمفاوضات السلام المرتقبة ومبنية على تقدير صائب للتغيير الذي كان كامناً في اسرائيل. وربما على مشاورات اميركية - سورية بعيداً عن الاضواء. وعليه لا حاجة للتأكيد مجدداً ان فرنسا ليست طرفاً مقرراً في ازمة الشرق الاوسط ولم تتمكن سورية من استدراجها الى الصف العربي الشرق اوسطي بما يتجاوز لجنة "تفاهم نيسان" وهي بالنسبة الى دمشق الطرف الدولي الاكثر فاعلية على الساحة اللبنانية بعد الولاياتالمتحدة، لكنها تختلف عن اميركا بأنها قد تطالب يوماً بفك الارتباط اللبناني - السوري، في حين تطالب واشنطن بهذا الارتباط كضمان للهدوء الامني على الحدود اللبنانية - الاسرائيلية والسورية -الاسرائيلية. يبقى القول ان دمشق تدرك ان فرنسا لم تعد تملك قواعد صلبة لسياستها العربية، فهي خسرت العراق خلال حرب الكويت من دون ان تربح الخليج، وخسرت الورقة الفلسطينية بعد اتفاقات اوسلو وخسرت الورقة اللبنانية خلال الحرب الاهلية وبات قسم كبير من المسؤولين الفرنسيين ينظر باتجاه المغرب الغربي اكثر بكثير من المشرق، وادركت دمشق ايضاً ان باريس غير مهيأة للتورط اكثر في ازمة الشرق الاوسط. واختبرت ذلك خلال زيارة الاسد الاخيرة، وان المشروع الاوروبي المنافس للولايات المتحدة على الصعيد الدولي يحتاج الى الكثير من الوقت حتى يقف تماماً على قدمين ثابتتين وكل ذلك استدعى استخلاصات سورية ولبنانية لم تظهر معانيها كفاية الى العلن بسبب النظرة العاطفية التي ميزت دائماً العلاقات الفرنسية - اللبنانية والعلاقات العربية - الفرنسية. والخلاصة هي ان "العطف" الفرنسي على لبنان يبقى ضمن اطار الحضانة الدمشقية او على الاقل مشتركاً معها، والعلاقات الفرنسية - اللبنانية لا تخرج عن هذا الاطار، لأن الخروج عنه هو بمثابة خروج من الحكم اذا كان الخارج لبنانياً، وبمثابة التهميش في لبنان اذا كان المعني بالأمر اجنبياً. ولا يعني ذلك ان فرنسا صارت على هامش الصفحة اللبنانية، فهي ليست على الهامش لكنها في المقابل لم تعد في المتن