حين بقرت قذيفة سطح مقر إقامة السفير الألماني في أثينا بعد أيام من مقتل مستشار وزير المال الايطالي ماسيمو دانتونا برصاص مجهولين في أحد شوارع روما، بدا أن منظمتي "الألوية الحمراء" الايطالية و"17 نوفمبر" اليونانية قررتا العودة الى دائرة الضوء. لم يكن الاهتمام الذي حظيت به هذه "الصحوة" المزدوجة مبالغاً فيه، فمعروف أن المنظمتين من أشد مجموعات العنف الاوروبية بأساً. الا أن ثمة فروقاً صغيرة وكبيرة بينهما. خلافاً لرفاقهم الايطاليين، لم يعلن ناشطو "17 نوفمبر" مسؤوليتهم عن الهجوم على بيت السفير أو على فرع مصرف أميركي تعرض الشهر الماضي لإعتداء مماثل. غير أنهم الوحيدون في اليونان الذين يملكون قذائف من النوع المضاد للدبابات الذي استعمل في الهجومين، وكانوا سرقوا كمية كبيرة منها أوائل الثمانينات من إحدى الثكنات العسكرية. والصمت، من حيث هو أداة للتمويه وتكريس الغموض، كان علامتهم الفارقة خلال حياتهم الطويلة نسبياً. فعلى امتداد ربع قرن لم يُعتقل أي من أعضاء المجموعة اليونانية أو تُكشف هويته، فيما كانت "الألوية الحمراء" تتعرض لضربات أمنية قوية. ولو لم ينفذ "ورثة" خاطفي رئيس الوزراء السابق ألدو مورو العملية الأخيرة بعد سبات دام حوالي 11 عاماً، لتأكدت توقعات راجت عن أن المجموعة لقيت نهايتها. أما "17 نوفمبر"، فلم تترك مجالاً لأحلام من هذا النوع. ولئن احتجبت قليلاً لسبب أو آخر، فإن "أبناءها" يتكفلون بالتذكير أن العنف لم يختفِ نهائياً من الحياة السياسية في اليونان. وبعض هؤلاء عبّر عن انتمائه بواسطة الإسم الذي أطلقه على نفسه مثل "مجموعة أطفال نوفمبر"، التي أعلنت مسؤوليتها في كانون الثاني يناير الماضي عن زرع قنبلة في مكتب جورج باباندريو نائب وزير الخارجية السابق. وولاء "الثوريين" الجدد للمنظمة الأم له مبررات كثيرة. فهي تتمتع بهيبة اسطورية تعود في جانب منها الى صرامتها البالغة في التعاطي مع الجانب الأمني لنشاطاتها. وليس غريباً أن تتمتع باحترام واسع في أوساط الثوريين لأنها لاتزال مجهولة تماماً لدى أجهزة الأمن. فقد نجحت المنظمة في تفويت الفرص على جهات كثيرة تحاول اقتفاء آثارها. والمطاردة مستمرة منذ نفذت عمليتها الأولى عشية عيد الميلاد العام 1975 التي راح ضحيتها ريتشارد ولش رئيس محطة الاستخبارات الاميركية سي.اي.ايه في أثينا. تفصل بين تلك البداية والهجوم الأخير على بيت السفير الألماني عمليات عدة استهدفت مصارف بريطانية وأميركية وهولندية وفرنسية وحافلات تقل جنوداً أميركيين وأهدافاً مماثلة. وبعد ولش نفذ ناشطو "17 نوفمبر" 36 عملية أدت الى مقتل 22 شخصاً بينهم 4 ديبلوماسيين أميركيين ورجال أمن وشرطة وقضاة وسياسيون وناشرون يونانيون فضلاً عن عدد من الديبلوماسيين الأتراك. وكان آخر ضحاياهم مالك سفن اسمه كونستانتينوس بيراتيكوس اغتيل في آيار مايو الماضي. وهذا الثري عدو نموذجي للمنظمة الماركسية اللينينية. فهي سعت الى ضرب الاغنياء والنافذين في أسلوب بدت معه كأنها وريثة روبن هود: تنتصر للمظلوم وتنصف الفقير على حساب الغني. هكذا استطاعت المجموعة التي تشوب ايديولوجيتها نزعة قومية واضحة المعالم أن ترسم لنفسها صورة شعبية في أذهان العامة. وأضفت نشأة المنظمة "الارهابية" مزيداً من الجاذبية على صورتها، فهي ولدت من رحم تظاهرات الطلاب ضد حكومة الكولونيلات العسكرية 1967-1974. واستعارت اسمها من تاريخ يوم الأحداث الدامية التي وقعت حين حاول الجيش فضّ اعتصام الطلاب في معهد أثينا، ماأدى الى سقوط 23 قتيلاً وإصابة مئات الجرحى. ولايزالون يحيون تلك الذكرى سنوياً بالمسيرات والهتافات المعادية لأميركا. فواشنطن كانت بمثابة الموجه والراعي لحكومة الكولونيلات. والأخيرة لم تدفن الديموقراطية فحسب، بل رتبت الانقلاب العسكري في قبرص الذي أعطى المبرر لتركيا كي تقوم بغزو الجزيرة العام 1974 وتقتطع منها جزءاً هو الآن جمهورية شمال قبرص التركية. ولو شاخت ذاكرة اليونانيين ونسيت بطش الحكومة العسكرية، فكيف تغيب قبرص عن البال وهي التي تكاد تدفع بهم باستمرار الى الحرب مع تركيا. ولم ينفع الاعتذار الرسمي الذي قدمه السفير الاميركي أوائل العام الماضي قائلاً:"كنت أتمنى لو أن بلادي وقفت بثبات أشد الى جانب الديموقراطية والحرية خلال تلك السنوات"، في إطفاء جذوة هذا العداء. فبعد أشهر من الاعتذار الصريح، زحف حوالي 10 آلاف متظاهر لمناسبة الذكرى الخامسة والعشرين ل"17 نوفمبر"، وهم يهتفون "الاميركيون قتلة" و"فلتسقط الامبريالية" على سفارة واشنطن في أثينا حيث أحرقوا العلم الاميركي. صحيح أن هذا العداء لأميركا تسبب في أعمال عنف تجاوز عددها المئتين العام الماضي، تبنت "17 نوفمبر" ستة منها فقط. وصحيح أيضاً أن عدداً من معارضي الحرب في يوغسلافيا ترجموا غضبهم عمليات ضد أهداف غربية كان أحدها منزل السفير الهولندي. لكن هذه شيء، ونزول "17 نوفمبر" الى الميدان بثقلها المعنوي الذي لاتضاهيه أي منظمة "ارهابية" مماثلة شيء آخر. وإلا لماذا حذرت مصادر في الادارة الأميركية مواطنيها من أن اليونان أضحت أخطر دولة أوروبية بالنسبة إليهم؟ وما مبرر اسراع وزيرة الخارجية مادلين أولبرايت في أعقاب الحادث الى توقيع اتفاق مع نظيرها جورج باباندريو ينص على توثيق عرى التعاون بين الأجهزة الأمنية التابعة للبلدين؟ ندم أوروبي طبيعي أن تشعر حكومة حزب "باسوك" الاشتراكية بمزيد من القلق، أقله بسبب التوقيت. وواضح أن العلاقات الاميركية- اليونانية لم تكن في حاجة الى "الارهاب" ليسممها، فقد تكفلت الغارات الجوية على يوغوسلافيا بذلك، لكن عمليتي "17 نوفمبر"جاءتا لتكرسا العداء لأميركا والغرب في وقت يُفترض أن تصل مساعي الحكومة للتقرب، أو الاندماج مع أوروبا، ذروتها. فكوستاس سيميتيس، الذي خلف مؤسس "باسوك" رئيس الحكومة الراحل أندرياس باباندريو في كانون الثاني يناير 1996 في السلطة، خطا خطوات عدة على طريق استمالة أوروبا. وعلى رغم أن أصواتاً في كواليس بروكسل البيروقراطية لاتزال تبدي ندمها على قبول اليونان، فقد تعهد سيميتيس منذ فوزه في انتخابات ايلول سبتمبر 1996 تطبيق قوانين التقشف على أمل أن يؤهل ذلك بلاده للدخول في نظام الوحدة النقدية الاوروبية مطلع القرن المقبل. وأعرب عن أمله في الانتهاء مع بداية السنة المقبلة من تلبية الشروط الأوروبية لقبول أثينا. غير أن النجاح في خفض العجز النقدي ونسبة التضخم لم يكن مجاناً. ولئن عاد ذلك على سيميتيس بثناء زملائه الاوروبيين، فهو أدى أيضاً الى تراجع شعبيته في استطلاعات الرأي. والأدهى أن العام 1998، خصوصاً، كان عام الاضطرابات والاضرابات. ففي ايلول سبتمبر أضرب الاطباء احتجاجاً على خفض الحكومة الاجور التي يتقاضونها عن ساعات العمل الاضافية. ثم قام أضخم النقابات "الاتحاد العام لعمال اليونان" بإضراب رئيسي آخر في أواسط كانون الاول ديسمبر جاء تتويجاً لاحتجاجات عدة على اجراءات التقشف. وكانت العناوين العريضة لقائمة "المرفوضات" خصخصة مؤسسات حكومية وتجريد العمال من الحقوق والتعويضات التي نصت عليها قوانين الضمان الاجتماعي. وعبر ناشطو االنقابات عن احتجاجهم بإيقاف العمل في مستشفيات ودوائر للجمارك ومصارف ووسائط نقل وكثير من مؤسسات القطاع العام والخدمات. وقبل أن تهدأ عاصفة التذمر الداخلي، كانت حكومة "باسوك" على موعد مع أزمة من نوع آخر عندما أُختطف الزعيم الكردي عبد الله أوجلان أواسط شباط فبراير الماضي من السفارة اليونانية في نيروبي. الظروف التي اقتيد فيها زعيم "حزب العمال الكردستاني" من ملجئه اليوناني الى سجنه التركي غامضة. لكن مهما قيل عن المساهمة الاميركية والاسرائيلية في نجاح عملية الاعتقال، يبقى الدور اليوناني ملتبساً للغاية وكل الاحتمالات واردة. غير أن من الصعب على حكومة أثينا أن تجد مفراً من اللوم، إما لأنها تصرفت بسذاجة وتركت الآخرين يخدعونها، وإما لأنها وافقت على تسليم لاجىء سياسي لمطارديه. أوجلان يرجح الاحتمال الثاني. وهو يكيل الاتهامات لأثينا التي يقول إنها قدمت له المال والسلاح بيد وطعنته باليد الأخرى! الا أن أثينا تسعى الى الحفاظ على علاقات "ودية" مع الحزب الكردي. وفي هذا السياق استضافت أثينا مؤتمراً صحافياً قبيل بدء المحاكمة حذر فيه قياديون أكراد تركيا من مغبة ايذاء زعيمهم. وواضح أن المؤتمر الصحافي حمل رسالة يونانية واضحة الى أنقرة. فالأخيرة تحاول منذ اللحظة الأولى استثمار اعترافات أوجلان في معركتها المستمرة مع جارتها اللدود أثينا. والخلافات بين اليونان وتركيا لاتفتقر الى أزمات جديدة تزيدها تأججاً. فالعداء القديم حافل بالملفات الساخنة. وهذه لاتبدأ بقبرص والصواريخ الروسية ولاتنتهي بجزر بحر إيجه. ولئن حققت اليونان تعادلاً، على الأقل، مع تركيا في الجولات الأخيرة فهي خسرت جولة أوجلان. فقد قاد اعتقاله الى المطالبة بتخلي رئيس الحكومة سيميتيس عن سلطاته والى استقالة -أو تسريح - وزراء الخارجية والداخلية والأمن وضابط استخبارات رفيع المستوى. ولايستبعد أن تؤدي المحاكمة الى إشعال فتيل العداء مع الاكراد اذا حُكم على أوجلان بالاعدام. وعدا أن أثينا قد تصبح هدفاً لأعمال عنف انتقامية، ربما تمكنت أنقرة نتيجة المحاكمة من تشويه سمعتها في المحافل الاوروبية، خصوصاً بتهمة مساعدة الارهاب. ومن سخرية الموقف أن الاوراق خُلطت لمصلحة تركيا. والأدهى أن استغلال أنقرة إعترافات أوجلان قد يساهم في "شق" باب الاتحاد الاوروبي أمامها بعدما أوصدته دونها أثينا لسنوات بحجج شتى، في مقدمها مصادرتها حقوق الاكراد. ولعل أثينا تعقد آمالاً قد لاتخيب بأن تكون محاكمة الزعيم الكردي عرضة لانتقادات منظمات حقوق الانسان لأنها لم تكن "نظيفة" تماماً في ضوء قواعد متعارف عليها عالمياً لدى محاكمة سجين سياسي. لكن أياً تكن نتيجة المحاكمة، فهي ألحقت سلفاً أضراراً بالموقف اليوناني حتى في عيون اليونانيين الذين قال بعضهم انهم يشعرون ب"العار" بسبب "تسليم" بلادهم للاجىء صديق. وهذا لايمثل "خاتمة الاحزان" بالنسبة الى سيميتيس. فالتذمر الداخلي لم ينته بعد وإن كانت الحرب قد حولت الانظار قليلاً عن سياسة الحكومة الاقتصادية في بلاد يؤيد 95 في المئة من مواطنيها الصرب اخوانهم في المذهب الارثوذكسي ضد حلف الناتو. تضحيات الاشتراكيين هكذا يجد سيميتيس نفسه بين مطرقة أوروبا وسندان الشعب اليوناني، مرة على الجبهة الاقتصادية، وأخرى في الميدان السياسي. فهو بذل "تضحيات" منها تراجع شعبيته في سبيل الانتساب الى أوروبا، لكن هذه لم تقبل به بعد. ودفعه حماسه لها الى القيام بانقلاب شبه جذري على توجه الحزب وشعاراته، حتى أن البعض يقولون أن سيميتيس استل روح اشتراكية "باسوك" ولم يُبقِ فيه من إرث مؤسسه باباندريو سوى الاسم ورتوش قليلة. وهذه التجربة ليست غريبة، فهي تشبه سيرة حزب العمال البريطاني الحاكم وعدد من الاحزاب الاشتراكية التي "جددت" نفسها وصارت تؤمن باقتصاد السوق. فبينما كان رئيس الوزراء الراحل باباندريو يندد بأوروبا والحلف الاطلسي فيرتفع رصيده من الشعبية، يمد خلفه يده الى بروكسيل فتنأى عنه لسبب أو آخر. والأدهى أن سيميتيس يبدو متفقاً مع الزعيم المحافظ الراحل قسطنطين كرامانليس الذي حمل شعار "اليونان تنتمي الى الغرب" في أواخر السبعينات في المعركة الانتخابية ضد زعيم "باسوك" الاشتراكي صاحب شعار "اليونان تنتمي الى اليونان". والسؤال هل يكلف هذا التحول كوستاس سيميتيس رئاسة الحكومة في الانتخابات المزمع اجراؤها أواخر العام الحالي، خصوصاً أن الوقت المتبقي لتعديل الكفة صار قصيراً، أم ينجح في اقتناص الفوز على معارضة هشة؟