انه "أبو التوتاليتارية المعاصرة" بحسب واحد من واصفيه في القرن العشرين، وهو الذي توجه اليه فولتير بالخطاب قائلاً: "... أنت يا عدو ديكارت، يا من أخطأت مثله، ويا من كانت اخطاؤك في الطبيعيات فاضحة، ولكن قابلة للتسامح معها لأنك جئت قبل نيوتن. أنت يا من نطقت بحقائق لا تعوّض عن أخطائك، انت يا من كشفت للمرة الأولى وهم الأفكار الفطرية، وكنت رائداً ل "لوك" في أمور عدة، وكنت أيضاً رائداً ل"سبينوزا"، عبثاً تدهش قراءك بما تكاد تصيبه من نجاح في اثباتك لهم ان لا وجود في العالم لأي قانون سوى القوانين المتواضع عليها، وأنه لا وجود لعدل وظلم إلا ما اصطلح على تسميته بهذا الاسم في بلد بعينه". توماس هوبز، الفيلسوف النهضوي الانكليزي الذي يوجه اليه زميله الفرنسي التنويري هذا الكلام، يقف وحده - او يكاد - بين كبار فلاسفة تلك العصور، في بحثه عن حكم ينفصل تماماً عن الشعب. فبالنسبة اليه لا مجال للالتقاء بين السلطة وجمهورها. "السلطة اكثر جدياً من ان نتركها للجمهور" يكاد يقول بلسان زماننا ذاك الذي كتب في باريس أواسط القرن السابع عشر ذلك الكتاب الغريب "ليفياتان" أو "التنين" وحمله معه مخطوطاً لدى عودته الى انكلترا خوفاً من أن يضطر الى اعتناق الكاثوليكية زمن كرمويل "ليس وفاء منه للبروتستانتية" كما تقول سيرة حياته في "موسوعة الفلسفة"، بل انطلاقاً من تمسكه بآرائه الفلسفية الحاسمة في ما يخص "أولوية الدولة على الكنيسة". بالنسبة الى هوبز: الدولة للسلطة وأصحاب السلطة. والدين للشعب، والكنيسة يجب ان تخضع للسلطة، لا العكس. لم يكن هذا الأمر الأخير بالجديد في ذلك الحين، لكن الجديد كان ان يأتي فيلسوف عقلاني له سمعة هوبز وتاريخه، ويطور "أمير" ماكيافيللي الى هذا الحد. في العادة يوضع كتاب "التنين" لهوبز في عداد كتب "اليوتوبيات" أو "المدن الفاضلة"، ولكن الباحثين المعاصرين باتوا أكثر ميلاً الى وضعه في خانة الكتب السياسية التي تبحث في الحكم والحكومة، وليس من منطلق خيالي، بل من منطلق ما هو حاصل وكيف يمكن تطويره. هذا الكتاب طبعه هوبز في لندن، العام 1652، أي بعد عودته اليها بعام واحد. ويرى كثيرون أن هوبز هو الذي صمم بنفسه غلاف الكتاب، حيث أتى الغلاف ليعكس المعنى المطلوب تماماً، حيث الحاكم بالسيف والصولجان هو فوق الجميع، له سلطة مطلقة عليهم "وليس ثمة على وجه البسيطة قوة يمكن ان تقارن بقوته". ولئن كان هوبز قد عنون كتابه ب"ليفياتان أو مسألة وشكل وقوة الكومنوولث الديني والمدني" فإنه في رسمة الغلاق ذاتها، أوضح الأمر حيث نجد في كل جزء من أجزاء الرسمة رمزاً للقوى الدينية والمدنية التي يتمتع - أو يجب ان يتمتع - بها الحاكم الفرد. والكتاب نفسه يتوسع في التفاصيل، ولم يفت مؤرخوه ونقاده ان يجدوا فيه، على أي حال، عملاً ثاقب البصيرة، موحداً في شكله وأسلوبه، يطور موضوعاته بلغة واضحة تكاد تشبه المعادلات الرياضية حتى يتوصل في النهاية الى التعبير عن فلسفة متكاملة في المجتمع والإنسان. بالنسبة الى هوبز، وكما يظهر في "ليفياتان" التنين من الواضح ان الكائنات البشرية سلبية في الوراثة، وهي تتصرف دائماً وفقط انطلاقاً من مصالح ذاتية من دون أي دافع من حب أو أثرة أو أخلاق. وبما ان الانسان اناني ولا يتبع سوى غرائزه، يتوجب على المجتمع المدني ان يمنعه من ان يدخل الى الدولة أي قدر من طبيعته الخالصة الفوضوية. ولما كانت المجتمعات في حاجة الى دولة، يتوجب، اذاً، أن تكون ثمة تراتبية هرمية يسيطر عليها ملك يتمتع بسلطة مطلقة، وتلتحق به الكنيسة التحاقاً تاماً. أما الفرد، فإنه منذ اللحظة التي يختار فيها ان يكون عضواً في هكذا مجتمع، عليه أن يخضع تماماً وفي شكل مطلق لسلطة الملك واعوانه. و"التنين" هنا، بحسب نظرية هوبز هو أشبه بإنسان ضخم صناعي، يمثل الملك روحه، ويعاونه أولئك الموظفون الذين يعاقبون ويثيبون في شكل يدفع كل فرد الى القيام بواجبه، حيث تكون النتيجة مجتمعاً سليماً متماسكاً. ان "هوبز" في هذا، "ينكر على الانسان" بحسب الباحثة ماريا لويزا برنبري "اي حقوق طبيعية، لأن الانسان ليس كائناً اجتماعياً بطبيعته". لقد منح الملوك الأوائل السلطة المطلقة على بقية الشعب، ومن واجب الاجيال الثانية ان تحترم هذا العقد. ولد توماس هوبز العام 1588 ومات في هاردويك بعد ذلك بواحد وتسعين عاماً. وهو أكمل دراسته في اوكسفورد وفي العام 1608 عين من قبل آل كافنديش مؤدباً لابنهم ويليام وجال معه في الكثير من البلدان الأوروبية حيث عاشر الارستقراطية واطلع على اساليب الحكم، وتعلم اليونانية. وهو فعل الشيء نفسه حين اصبح مؤدباً الأرستقراطي آخر بعد رحيل ويليام. وفي العام 1640 هرب الى فرنسا إثر الاضطرابات التي عصفت بانكلترا ولا سيما ضد الحكم المطلق الذي كان هو من انصاره. ولقد أقام في فرنسا اكثر من عقد ارتبط خلاله بصداقة مع ديكارت ووضع بعض أهم كتبه مثل "مبادئ القانون الطبيعي والسياسي". وهو يعد عودته اشتغل على العديد من النصوص كما كتب سيرته الذاتية في آخر سنواته وعمل على ترجمة الكثير من النصوص الاغريقية ومن بينها "الالياذه" و"الاوديسه".