إن الإسلام، إذ أبعد العقل عما يتصل بالغيبيات والعبادات، والمعاملات في جانبها العبادي (= التي لم يُعرف القصد من وراء تشريعها)، فإنه أطلق العنان للعقل لإعمال ملكته الطبيعية متسلحاً بالتكوين الثقافي في كل ما يخص شؤون الدنيا حملت الفكرة المركزية للمقال السابق عرضاً مركزاً لفكرة الإسقاط التاريخي، بما يعنيه ذلك من البحث عن أصول تراثية للمفاهيم العصرية، خاصة المفاهيم السياسية، كالانتخابات وفصل السلطات والديمقراطية والمجالس النيابية وغيرها، كما حملتْ رأي من يعارضون فكرة الإسقاط بصفتها كما يقول بعضهم: جريمة لا تغتفر. وهؤلاء يرون أن الأفكار الجديدة التي تدشن في محضن اجتماعي معين، لا تحتاج لبثها في مجتمعات أخرى إلى تبيئة تراثية( = البحث عن أصول تراثية لها)، بقدر ما تحتاج إلى تسويق معرفي مركز يُدخلها في الوعي أولاً، ثم تالياً في اللاوعي، لتتحول إلى سلوك تلقائي. مع ذلك، فإن من الموضوعية بمكان أن نشير إلى إن هناك من المفكرين من يرون عدم إمكانية إدخال الأفكار الجديدة في العقل المكَّون دون أن تحمل معها جواز المرور التراثي، بما يعنيه ذلك من ربطها بأصول تراثية تساعد على إدخالها في الوعي، ومن ثم لاحقا في (اللاوعي) الجمعي. وبدون هذه التبيئة - كما يرون - ستظل تلك الأفكار غريبة على النسق الثقافي القيمي، ومن ثم ستكون عصية على تطويعها في الفضاء الحضاري العام للأمة. ويأتي الدكتور محمد عابد الجابري - رحمه الله - على رأس أولئك المفكرين المنادين بضرورة تبيئة الأفكار الجديدة قبل تسويقها في المجتمع. فلقد نادى بتلك التبيئة على هامش حديثه عن العقد الاجتماعي الأوروبي في كتابه (في نقد الحاجة إلى الإصلاح)، حيث رأى أن فلاسفة الأنوار بحثوا عن سند تراثي لفكرة العقد، حتى يتمكنوا من تمريره في النسق القيمي الأوروبي آنذاك، إذ إن العقد الاجتماعي كان يمثل الخطوة الأهم، بل التي كان لا بد منها، ل"تسييس" شؤون الحكم والسياسة، والتي كانت تمتح حينها من نظرية"الحق الإلهي". ويضرب الجابري مثلًا على التبيئة الأوروبية بما أعطاه المفكر الألماني (بوفيندورف 1632-1694) لفكرة القانون الطبيعي من معنى آخر غير المعنى الذي كان سائداً إبان النهضة الأوروبية، إذ يقول ( =الجابري): "فليس القانون الطبيعي في نظره(= بوفيندروف) من نوع مناقض أو مغاير للقانون الذي مصدره الوحي، بل هما نوع واحد، ويشكلان معاً مجموع القوانين الإلهية. فحكمة الله هي التي اقتضت وضع القوانين الطبيعية، مثلما أن وجوده اقتضى أن تكون هناك قوانين مصدرها الوحي ( وهذا قريب مما قرره ابن رشد في الموضوع ). وهكذا شيد ( بوفيندورف) فكرة الحق الطبيعي على التأكيد على وجود نظام أخلاقي كوني كلي، وعلى وجود قاعدة للعدل لا تتغير سابقة للقوانين المدنية ومستقلة عنها وأسمى منها. إن القانون الطبيعي، هو والقوانين الإلهية، معطى أولي للإنسان. وبما أن الله هو الذي وضعها فلها قوة العقل وقوة الكلي وتمتلك فعالية خاصة. وبفضل العناية الإلهية فإن القوانين الطبيعية مناسبة تماما للطبيعة الإنسانية. أما القوانين الوضعية التي تُسن بمراعاة المجتمع وأحواله، ومراعاة الطبيعة الإنسانية، فهي إنما تمدد مفعول القوانين الطبيعية، وبالتالي يجب أن تستلهمها لا أن تتعارض معها. وهكذا فالتوافق والتعاضد بين القوانين الطبيعية والقوانين الإلهية يعطي القوة للقواعد الوضعية التي يسنها المشرعون، كما يضفي الشرعية ويبرر المقاومة التي يقوم بها المواطنون عندما تتعرض حقوقهم للعدوان من طرف السلطة الحاكمة"، ثم يفتح الجابري في نهاية فقرته تلك قوسين ليقول: "لاحظ عملية التبيئة التراثية الدينية لفكرة العقد الاجتماعي". كما يؤكد على ذات الفكرة (التبيئة) في فصل آخر من الكتاب بقوله:"إن ربط قضية التجديد الثقافي عندنا باستيعاب فكر عصر الأنوار الأوروبي مباشرة من دون أية علاقة مع تراثنا أمر غير منتج وغير معقول. ذلك لأنه عندما يُطلب من العرب أن يستوعبوا الليبرالية الأوروبية، فإن ذلك يعني أن عليهم أن يستعيدوا على صعيد وعيهم تراثاً أجنبياً عنهم، بموضوعاته وإشكالياته ولغته، وبالتالي لا يشكل جزءا من تاريخهم. هذا في حين أن الشعوب لا تستعيد في وعيها، ولا يمكن أن تستعيد، إلا تراثها أو ما يتصل به". ثم يضيف: "إن الطرح الصحيح لهذه الإشكالية يجب أن يكون في نظرنا على الشكل التالي: إن على الفكر العربي أن يستعيد ويستوعب الجوانب العقلانية والليبرالية في تراثه ويوظفها توظيفاً جديداً في نفس الاتجاه الذي وظفت فيه أول مرة: اتجاه محاربة الإقطاعية والغنوصية والتواكلية وتشييد مدينة العقل والعدل: مدينة العرب المحررة. وفي إطار الاستعادة/ الاستيعاب للجوانب العقلانية في تراثنا يجب توظيف مكتسبات الفكر الإنساني الحديث والمعاصر. وبعبارة أخرى: إن هذه المكتسبات ستظل أجنبية عنا ما لم نوظفها في قضايانا توظيفاً علمياً أصيلًا. ومثل هذا التوظيف يتطلب، أولا وقبل كل شيء، تأسيسها داخل فكرنا، وذلك بربطها بالجوانب المماثلة لها أو القريبة منها في تراثنا. وهنا، كما في جميع المجالات، يجب علينا التسلح بالرؤية التاريخية الواعية، سواء إزاء تراثنا أو تراث غيرنا. فالمفاهيم التي نستعيدها من تراثنا، أو نقتبسها من الفكر الأوروبي الحديث والمعاصر، يجب أن نُخضعها لعملية تبيئة جديدة، وذلك بالتعامل معها في تاريخيتها ونسبيتها، مع الانتباه إلى المقاصد المتوخاة منها، وكيفية التبرير الإجرائي المستعمل لإدخالها في الوعي العام". مع ذلك، فإننا نخالف الجابري فيما ذهب إليه، فنرى أن التبيئة التراثية التي اضطر إليها فلاسفة الأنوار، إنما راجعة إلى ظروف السياق التاريخي الذي كانوا يعيشون فيه، ولا يتعداه إلى غيره. ذلك أن أوروبا كانت حينها في بداية انعتاقها من عقلية العصور الوسطى الخرافية، تلك العصور التي كان خلالها العقل الجمعي الأوروبي مغموساً بتراث ديني مسيحي لا يعطي للعقل البشري أية فعالية في أي مجال كان، خارج الكنيسة الكاثوليكية وسلطانها الذي هيمن على العقلية الأوروبية طيلة ألف سنة، بعكس الإسلام الذي أعطى العقل مساحة كبيرة للتفكير وابتكار الحلول للمشاكل الإنسانية (الدنيوية) بعيدا عن انتظارها تهبط فجأة بشكل سحري، أو البحث عنها بين دفتي النصوص، كما كانت تعتقده الكنيسة الكاثوليكية الرومانية في القرون الوسطى، وتجبر الناس عليه: حكاماً ومحكومين. إن الإسلام، إذ أبعد العقل عما يتصل بالغيبيات والعبادات، والمعاملات في جانبها العبادي (= التي لم يُعرف القصد من وراء تشريعها)، فإنه أطلق العنان للعقل لإعمال ملكته الطبيعية متسلحاً بالتكوين الثقافي في كل ما يخص شؤون الدنيا، وعلى رأسها شؤون الحكم والسياسة. إضافة إلى أن الإسلام لم يعرف - على الأقل من الناحية النظرية - الدولة الثيوقراطية التي عرفتها أوروبا في القرون الوسطى. ويكفي تذكر قوله صلى الله عليه وسلم في قصة تأبير النخل المعروفة:" ما كان من دينكم فإليَّ، وما كان من دنياكم فأنتم أولى به"، فهذا النص ليس موجودا مثله في المسيحية، على الأقل في الفترة التي كان فلاسفة الأنوار يحاولون تبيئة فكرة العقد الاجتماعي وغيرها من قيم الفلسفة السياسية الحديثة في العقل الأوروبي المقيد حينها بسلطة الكنيسة الكاثوليكية التي كانت تحتكر العقل والروح معاً. وبالتالي، يمكن القول إن نجاح الأفكار الحديثة لا يحتاج إلى تبيئتها تراثيا، وإن هذه التبيئة، إن كان ثمة حاجة إليها، قد تكون في ظروف تاريخية معينة، كما حدث بالنسبة لظروف تدشين فكرة العقد الاجتماعي في أوروبا. من ناحية أخرى، فإن هناك حاجة إلى الفصل في التجربة السياسية في الإسلام، بين النص والتاريخ. النص مطلق ومنظور إليه لذاته، أما شؤون الحكم والسياسة وما تم في أروقتهما، فهي محض تجربة بشرية. وبرغم أن تلك التجربة قد استوحت شيئاً من النص، أو أنها تعتقد بصورة أو بأخرى أنها استصحبته كلية، فهي في النهاية نسخة من ضمن نسخ التجارب التاريخية العديدة التي لا يمكن لها بحكم التصاقها ببيئتها الظرفية أن تكون عابرة لإحداثيات الزمان والمكان.