يحلو للرئيس الفرنسي جاك شيراك أن يمازح مضيفيه الأجانب خلال زياراته الخارجية بالقول إنه يمكن أن يفوز في الانتخابات إذا ما ترشح في بلدانهم، في إشارة إلى صورته الايجابية في أذهان قطاعات من الرأي العام خارج فرنسا. وللاعتراف ضمناً بأن "الشيراكية" في بلادها تحتاج إلى الكثير من الجاذبية. وقد بينت انتخابات التيار الديغولي الأخيرة لاختيار رئيس للحزب الذي أسسه شيراك قبل أكثر من عشرين عاماً، ان رئيس الجمهورية لم يعد السيد المطلق، ليس في حكومته وبرلمانه وتياره اليميني فحسب، وإنما أيضاً في حزبه الذي اقترع أخيراً ضد جان بول دولفوا مرشح شيراك الشخصي ولمصلحة السيدة ميشيل اليو - ماري التي جمعت حولها كل المعترضين على مواقف رئيس الجمهورية منذ انتخابه العام 1995. والحديث عن خسارة هائلة لجاك شيراك في التنافس الانتخابي على رئاسة التيار الديغولي لا ينطوي على أية مبالغة، ذلك ان مصادر هذا التيار تجمع على القول إن شيراك وزوجته وابنته والعديد من المقربين إليه وما يسمى ب"شبكات الاصدقاء والأنصار" المرتبطين بقصر الاليزيه، كل هؤلاء بذلوا جهوداً كبيرة من أجل فوز دلفوا، عضو مجلس الشيوخ ورئيس جمعية بلديات فرنسا، برئاسة الحزب الديغولي "التجمع من أجل الجمهورية". وكان رئيس الجمهورية نفسه قد دفع بهذا السياسي المغمور إلى حلبة التنافس وفي ظنه ان شعبيته في القاعدة الحزبية كفيلة بتجاوز "بارونات" الحزب أو "الفيلة" الكبار فيه حسب المصطلح السائد في "التجمع". ويسود اعتقاد في الأوساط الديغولية مفاده ان شيراك أخذ في الآونة الأخيرة يضيق ذرعاً ببارونات حزبه الذين يجاهرون بانتقاداتهم القاسية لسياسته الداخلية ولتفاهمه عموماً مع رئيس الوزراء الاشتراكي ليونيل جوسبان في حكومة التعايش. ولربما اعتقد بأنه قادر على ضبط حزبه بواسطة شخصية من خارج حلقة "البارونات" وبالتالي ضمان ولاء الديغوليين خلال المرحلة المقبلة وصولاً إلى استحقاق الانتخابات الرئاسية في العام 2002 حيث بات من المؤكد أن شيراك يرغب في خوضها أملاً في البقاء في قصر الاليزيه لولاية ثانية. وكان شيراك قد حقق انتصاراً مهماً في معركة رئاسة مجلس الشيوخ الفرنسي، عندما تمكن أنصاره من حمل الديغولي جان فرانسوا بونسليه إلى هذا المنصب عبر مناورة بارعة على حساب مرشح الوسط والليبراليين رئيس المجلس السابق رينيه مونوري الذي يؤكد أنه لم يكن يشك في تأييد الرئيس له ضمن إطار التقاسم الضمني للمناصب الأولى بين الديغوليين والتيار الوسطي الليبرالي، وقيل يومها إن ايصال ديغول إلى رئاسة مجلس الشيوخ يندرج في استراتيجية شيراك المبنية على الفوز مرة ثانية برئاسة الجمهورية. لكن استراتيجية الرئيس الانتخابية لم تكن تحظى بتأييد البارونات الديغوليين الكبار الذين عبروا بطرقهم المختلفة عن اعتراضهم على الموقع الحيادي الذي اختار الرئيس ازاء "حكومة التعايش"، وهذا الموقع أدى إلى إضعاف التيار اليميني والفريق الديغولي بصورة خاصة، إذ كان على هذا الفريق ان يتجنب معارضة الحكومة بقوة تماشياً مع موقف رئيس الجمهورية، والامتناع عن "المعارضة" كان يضعف الحزب. وضعف الحزب ألحق أذى كبيراً بأقطابه الذين أصبحوا يخشون من أن تنحسر عنهم قواعدهم الانتخابية، خصوصاً أنهم انتخبوا على أساس برامج مناهضة لليسار وليس من مصلحتهم مهادنة الاشتراكيين في الحكم والمغامرة بمقاعدهم النيابية. من أجل استراتيجية الرئيس للعام 2002، ف"التيار الديغولي ليس جهازاً لتحضير المعارك الانتخابية لجاك شيراك"، حسب فيليب سيغان رئيس المجلس النيابي السابق وأحد أقطاب الديغوليين. ويجدر التذكير هنا بأن انحسار التأييد لشيراك في الدوائر العليا في حزبه بدأ مبكراً، ومنذ العام 1993، عندما فاز اليمين الفرنسي بزعامة شيراك بالانتخابات النيابية وكان عليه أن يختار رئيساً للوزراء من بين صفوفه، وكان على زعيم اليمين ان يتولى رئاسة الحكومة في مواجهة الرئيس فرنسوا ميتران، لكن شيراك فضل تعيين صديقه ادوار بلادور بدلاً منه في هذا المنصب، الأمر الذي أثار حفيظة قسم كبير من مؤيديه، ومن بعد شكل بلادور تكتلاً داخل التيار الديغولي ونافس شيراك على رئاسة الجمهورية في الدورة الأولى العام 1995، وهو ما زال يتزعم مجموعة من المؤيدين والأنصار لا تدين بالولاء التام للزعيم الديغولي. وازداد تخلي عدد من القيادات الديغولية عن شيراك بعد انتخابه رئيساً، فقد اختار آلان جوبيه رئيساً للحكومة الأولى في عهده وحرم بلادور وأنصاره من أي منصب حكومي، وما لبث جوبيه ان واجه صعوبات في الحكم وفي رئاسة الحزب معاً، بسبب السياسة النيوليبرالية التي اعتمدها، ضارباً عرض الحائط بوعود شيراك الانتخابية التي تضمنت التزاماً صريحاً بمعالجة عدد من القضايا الاجتماعية المعقدة وردم الهوة بين غلاة الرأسماليين والمعدمين. ولكي يتفادى كشف الحساب أمام الرأي العام بسبب تنكره لوعود الرئيس، اقنع جوبيه شيراك بحل "الجمعية الوطنية" البرلمان التي كانت تضم أكثرية نيابية يمينية يتصدرها الديغوليون، غير أن هذه الخطوة أفضت إلى كارثة حقيقية، إذ خسر اليمين الانتخابات 1997، وشكل تحالف اليسار حكومة جديدة، ولما كان قرار حل الجمعية الوطنية مناقضاً لمواقف معظم القيادات الديغولية، فإن هذه الأخيرة حملت شيراك المسؤولية واتسعت حركة المعترضين عليه لتشمل هذه المرة فيليب سيغان الذي أصبح في ما بعد رئيساً للحزب. وحاول أن يجمع من حوله ممثلي التيارات المختلفة وقام باصلاحات جذرية من ضمنها اعتماد قانون داخلي لانتخاب رئيس الحزب بدلاً من تعيينه. إلا أن سيغان الذي كان عليه ان يخوض معركة الانتخابات الأوروبية، لم يتمتع بتأييد من رئيس الجمهورية الذي قبل باختياره رئيساً للحزب على مضض خشية أن ينافسه باسم الديغوليين في العام 2002، ولم يكتف شيراك بالامتناع عن تأييد سيغان، فأوعز لأنصاره باتخاذ مبادرات لم يرض عنها رئيس الحزب الذي استقال احتجاجاً قبل شهر من الاستحقاق الأوروبي ليخلفه في هذا المنصب نيكولا ساركوزي أحد أنصار بلادور السابقين والتائب العائد إلى الحظيرة الشيراكية، غير أن ساركوزي واجه انهيارين كبيرين خلال رئاسته للحزب: الأول انشقاق شارل باسكوال وزير الداخلية السابق وأحد أبرز مؤسسي الحركة الديغولية بعد شيراك، والثاني خسارته الانتخابات الأوروبية بعدما فشل في جمع زعماء اليمين الليبرالي والوسطي من حوله. والأخطر من ذلك أن باسكوا المتحالف مع فيليب دوفيلييه اليميني المتشدد استطاع أن يفوز بنسبة من الأصوات التي تعادل تقريباً أصوات الديغوليين الشرعيين فاستقال ساركوزي من رئاسة الحزب بعدما امتنع شيراك عن تأييده. وبعد استقالته تم تحديد موعد لانتخاب رئيس للحزب فتنافس على المنصب أربعة مرشحين، واحد منهم فقط يحظى بثقة شيراك، فخسر المرشح الشيراكي وفازت ميشيل آليو - ماري برئاسة الحزب بفضل أصوات مؤيدي سيغان وبلادور أساساً. وتؤكد انتخابات رئاسة الديغوليين ان الرئيس الفرنسي يواجه تمرداً حقيقياً داخل الحزب الذي أسسه، فهل تعمل الرئيسة الجديدة على رأب الصدع بين شيراك وخصومه فتعيد اللحمة إلى الحزب، وتضبط البارونات المتصارعين بين بعضهم البعض بقدر صراعاتهم مع رئيس الجمهورية؟ الجواب لن يكون صعباً للغاية، فالسيدة آليو - ماري أوضحت الخطوط العامة لسياستها خلال التنافس على رئاسة الحزب، وحاولت أن تطمئن رئيس الجمهورية منذ اللحظات الأولى لانتخابها عندما أكدت أنها ستعمل على تحضير الاستحقاقات الانتخابية المقبلة بلديات وبرلمان ورئاسيات "مع جاك شيراك ومن أجله"، وفهم من ذلك أنها تعتبره المرشح الطبيعي للديغوليين في رئاسيات العام 2002، وان من الصعب الحكم على التطورات التي تسبق الاستحقاق المذكور، فالرئيسة الجديدة مضطرة لأن تأخذ في الاعتبار مواقف وحساسيات الأطراف التي أيدتها وكلهم خصوم للرئيس الفرنسي، ومن بينهم مرشحان محتملان للرئاسة، أي سيغان الذي وفر لآليو - ماري حوالي 25 في المئة من الأصوات، وبلادور الذي وفرّ لها أكثر من 6 في المئة. في المقابل أكدت الرئيسة الجديدة أنها لن تهادن رئيس الحكومة جوسبان، وقالت إنه الشخص الأكثر "كرهاً" في نفسها، وإذا ما طبقت هذه المشاعر وترجمتها في سياسة يومية تجاه الحكومة، فإنها ستسبب حرجاً لرئيس الجمهورية الذي يخشى من التصدي لجوسبان وهو في أوج شعبيته كي لا تزيد حظوظه في التقدم عليه في الانتخابات الرئاسية. والنقطة الثانية التي لن تتخلى عنها رئيسة الحزب الديغولي تكمن في إصرارها على أن يتعامل شيراك مع الحزب مباشرة وليس عبر المستشارين الرئاسيين كما كان يحصل من قبل، ما يعني ان آليو - ماري ترغب في تنسيق علني ومباشر مع شيراك في المواقف الواجب اتخاذها من الحكومة الاشتراكية، وهو ما يتعارض بقوة مع استراتيجية الرئيس وتكتيكاته للسنوات المقبلة وما يفسر أيضاً محاولة اختيار رئيس مغمور للحزب وليس سيدة حديدية. وعلى الصعيد الداخلي، ستسعى الرئيسة الجديدة إلى إعادة الاعتبار لكل الذين همشتهم الشيراكية، ومن بين هؤلاء بلادور وسيغان وساركوزي وغيرهم، والراجح ان الشيراكية ستتحول إلى تيار في الحزب الديغولي كغيره من التيارات، باعتبار أن أنصار شيراك حصلوا على 37 في المئة من الأصوات التي صبت في خانة مرشحه دلفوا في مقابل 62 في المئة لخصومه الذين اقترعوا لمصلحة آليو - ماري، وفي ظل ميزان القوى المائل بقوة لمصلحة الخصوم لن يكون شيراك الطرف المقرر في شؤون الحزب، وإنما خصومه. في ضوء ذلك، يمكن الحكم على الاستحقاقات الانتخابية المقبلة وحسم الموقف من الترشيحات المعلنة لبلدية باريس، وهنا أيضاً عبرت الرئيسة الجديدة عن مواقف صريحة، فهي لن تسخر من ترشيح جان تيبيري لرئاسة البلدية، لكنها أيضاً لن تؤيده في مواجهة الأكثرية الساحقة من الديغوليين التي ترى أن تيبيري سيسبب بخسارة بلدية العاصمة وأن شيراك يوفر له الحماية على رغم تورطه في فضائح تسيئ إلى سمعة الديغوليين وصورتهم لدى الرأي العام. والراجح ان تدعم آليو - ماري مرشح اجماع في انتخابات باريس، ومرشح الاجماع لن يكون بالضرورة مناهضاً لشيراك، لكنه لن يكون من بين المخلصين له بلا شروط، شأن مساعده السابق جان تيبيري. أما في ما يتصل بدور آليو - ماري في إعادة تأطير أحزاب المعارضة الليبرالية والوسطية حول الديغوليين، فإن التقديرات الراهنة تفصح عن نسبة كبيرة من التفاؤل، خصوصاً أن زعيمين كبيرين من زعماء اليمين رحبوا بانتخاب السيدة آليو - ماري، فقد أكد السيد فرنسوا بايرو ان انتخابها يعتبر "بادرة أمل" في هذا الاتجاه، في حين اعتبر الوزير السابق آلان مادلان ان "الديغوليين بدأوا مرحلة جديدة". لكن عبارات المجاملة لا تكفي وحدها لإعادة الأمور إلى سابق عهدها في التيار اليميني، لأن النتائج المتواضعة التي حققها الديغوليون في الانتخابات الأوروبية جعلتهم على مستوى تمثيلي واحد تقريباً مع الأحزاب الأخرى وجردتهم من ورقة الحزب الأكثر تمثيلاً في المعسكر اليميني، وعلى الأقل قلصت الفارق بدرجة كبيرة بينهم وبين منافسيهم. وبما ان زعامة اليمين تفترض محوراً قوياً وتمثيلاً واسعاً، فإن هذين الشرطين غير متوافرين الآن على الأقل، ما يعني ان الحكم على قدرة آليو - ماري على إعادة اللحمة إلى صفوف اليمين يحتاج إلى بعض الوقت، خصوصاً إلى معرفة مصير "اللحمة" داخل الحزب الديغولي نفسه. من جهة ثانية، يبدو ان آمال زعيمة الديغوليين بعودة شارل باسكوا إلى الحظيرة قد تبخرت بسرعة بعدما رفض القطب الديغولي السابق فكرة المؤتمر العام التي طرحتها رئيسة الحزب خلال حملتها الانتخابية للخروج بمساومة تحفظ وحدة الحركة الديغولية وتتيح تمثيل كل مكوناتها بما يتناسب مع أحجامهم وتطلعاتهم. ولا شك في ان سيدة الديغوليين الحديدية تحتاج إلى قدرة جبارة ووسائل هائلة لضبط التيار الديغولي وباروناته والتيار اليميني العريض وتطلعاته التي تزداد ابتعاداً عن الحركة الديغولية. وهي أيضاً تحتاج إلى عزيمة شديدة للمواءمة بين شعاراتها الانتخابية القائمة على العداء الراديكالي لرئيس الحكومة جوسبان واستراتيجية شيراك القائمة على عدم التصدي لرئيس الحكومة وتجنب المواجهة المكشوفة معه كي لا يبدو وكأنه يضع العصي في دواليب حكومة ناجحة على أكثر من صعيد، خصوصاً في مسائل تهم الفرنسيين بالدرجة الأولى من البطالة والأمن والضمانات الاجتماعية. والراجح أن الإرادة الصلبة لن تخون آليو - ماري، فهي أكدت غداة انتخابها أنه "إذا اختلف شخصان بقوة فسأطلب منهما ان يضربا بعضهما البعض داخل الغرفة لكن لن اسمح لأي منهما بقول كلمة واحدة في الخارج". ولعل أهمية هذا الكلام ستكون مضاعفة داخل حزب يصنف في فرنسا بأنه "ذكوري" بامتياز، فهل يستسلم الحزبيون ل"ثاتشر" فرنسا التي تعدهم بنهوض جديد بعد سنوات الفوضى والهزائم الانتخابية المتتالية؟ أغلب الظن ان الجميع يراهن على نجاح آليو - ماري بما في ذلك خصومها، لكن أحداً لن يغفر لها كبوتها الأولى، ففي هذه الحالة قد يكون مصيرها شبيهاً بمصير سيدة حديدية أخرى. لكن هذه المرة في الحزب الاشتراكي الفرنسي، فرئيسة الوزراء السابقة اديث كريسون تحولت خلال أشهر من سيدة حديدية إلى سيدة مخملية عندما فشلت في اقناع البارونات الاشتراكيين بأن النساء يخطئون كالرجال. بين ثاتشر البريطانية الناجحة وكريسون الاشتراكية الفاشلة تقف اليوم آليو - ماري الديغولية التي تشير التقديرات الأولى إلى أنها ستكون أقرب إلى المثال البريطاني منها إلى المثال الفرنسي