كان رئيس الحكومة الفرنسية ادوار بالادور يتربع مثل أبي الهول على عرش مؤسسات استطلاع الرأي منذ اشهر عديدة وكان بعض انصاره وعدد من خصومه يظن ان الرجل يضع ورقة الرئاسة الاولى في جيبه وان الانتخابات الرئاسية اصبحت بالنسبة اليه مجرد اجراء شكلي وانه قد لا يحتاج الى المرور بالدورة الثانية فهو قد يُنتخب رئيساً بنسبة تتجاوز ال 50 في المئة في الدورة الاولى. وكان ثبات بالادور وتقدمه المتواصل في استطلاعات الرأي يدفع بعض الصحافيين والمحللين السياسيين الى التساؤل عن جدوى ترشيح جاك شيراك الخصم الأبرز لرئيس الوزراء، وعن جدوى ترشيح شخصيات يمينية اخرى طالما ان سيد الاليزيه صار معروفاً قبل الانتخابات. وكان ان تدخّل العرابون وكاشفو البخت والمنجمون للتأكيد على حسن طالع السيد بالادور وبعض هؤلاء رآه بعينه في مكتب الرئاسة في الاليزيه. تدفق التوقعات الايجابية وتكاثر المُحابين حول الرجل لم يفقده صواب الرؤية، ولم يدفعه الى التخلي عن حذره المعهود فكان يُعلّق دائماً على ذلك بقوله: يجب ان نلتزم الحذر فاستطلاعات الرأي مبالغ في تقديراتها النهائية وهي قابلة للتعديل. بالادوريون كثر كانوا يعلّقون على حذر زعيمهم بالاشارة الى تواضعه معتبرين، ربما بتسرع، انه صار متوّجاً وان لا شيء يوقف زحفه نحو الاليزيه… لكن تطورات الامور خذلت هؤلاء وذهبت في اتجاه الاحاسيس القلقة والحذرة التي ما فتئ يُعبّر عنها رئيس الوزراء. بدأت اسهم ادوار بالادور تنخفض بنسبة ملحوظة فور مصادقة الحزب الاشتراكي الفرنسي على ترشيح ليونيل جوسبان منتصف شباط فبراير الماضي فما ان اعلن هذا الأخير عن ترشيحه رسمياً حتى جعلته استطلاعات الرأي في طليعة المرشحين القادرين على اجتياز الدورة الاولى 23 نيسان/ ابريل المقبل. لكن الاستطلاعات نفسها اكدت فوز بالادور في الدورة الثانية مقابل شيراك او جوسبان. لم يكن تقدم جوسبان ليفاجئ المرشح بالادور الذي يعرف ان اليسار الفرنسي كان على الدوام حاضراً في الانتخابات الرئاسية وان هزيمته الساحقة في برلمان العام 1993 ليست كافية لطي صفحته… لكن المفاجأة الحقيقية جاءت من جهة جاك شيراك وكان لها وقع الصاعقة في الاوساط البالادورية. اذ اكدت آخر استطلاعات للرأي العام ان زعيم التيار الديغولي وعمدة بلدية باريس مرشح لإلحاق الهزيمة ببالادور وجوسبان في الدور الثاني من الانتخابات وان هناك خطراً حقيقياً من عدم تمكن رئيس الوزراء الحالي من اجتياز عتبة الدول الاول. الظاهرة الجديدة فور ظهور الاستطلاعات المذكورة، سارع خبراء ومؤرخو الحملات الانتخابية الى وصفها ب "الثورة الحقيقية". ويقول هؤلاء انها المرة الاولى التي تشهد فيها انتخابات رئاسية تغييراً جذرياً في المعطى الانتخابي وفي نسب المرشحين عشية الانتخابات. فقد اكدت التجارب السابقة ان المرشحين البارزين كانوا يحافظون على نسبهم في البورصة الانتخابية وان نتائج الانتخابات كانت تؤكد النسب المذكورة واذا ما حصل خطأ في التقدير فإنه لا يتجاوز هامش الاخطاء الثانوية التي لا تؤثر في النتيجة العامة. تباينت الآراء حول تفسير الظاهرة الجديدة. اعتبر البعض ان تقدم شيراك وتراجع بالادور يحمل معنى محدوداً وان رئيس الوزراء سيستعيد صدارة استطلاعات الرأي بعد ان يعطي دفعاً جديداً لحملته الانتخابية. واعتبر البعض الآخر ان تقدم شيراك شبه نهائي وان هذا التقدم حصل في مرحلة فاصلة، اي بعد اتضاح معالم الخريطة الانتخابية وبعد نشر معظم البرامج الانتخابية بحيث صار الناخبون يعرفون مقترحات المرشحين البارزين وباتوا قادرين على تحديد خياراتهم. الراجح ان ارتفاع اسهم شيراك ناتج عن الاعتبارات التالية: 1 - انعدام الفوارق الأساسية بين المرشحين اليمينيين ما يجعل ناخبي اليمين مجبرين على الاختيار بين الرجلين بحسب المواصفات الشخصية كالطابع الكاريسمي والخصائص الدينامية والقدرة على التعبير عن مشاعر التيار اليميني والقدرة التنظيمية… الخ. وفي كل هذه المجالات يتقدم شيراك على بالادور. 2 - يعاني رئيس الوزراء من ازدواجية شخصية بين الحكم والترشيح للرئاسة وما يخسره بوصفه رئيساً للحكومة يخسره بوصفه مرشحاً، لذا يمكنه القول ان الفضائح الاخيرة التي ضربت الحكومة شأن فضيحة التنصّت على الهاتف والتراجع في المواجهة مع الحركة الطالبية، والخلاف الاميركي - الفرنسي حول شبكة التجسس ناهيك عن تورط ثلاثة وزراء في قضايا عدلية والخلافات بين الوزراء المنقسمين بين شيراك وبالادور، كل ذلك ادى الى هبوط اسهم رئيس الحكومة المسؤول وارتفاع اسهم جاك شيراك المرشح غير المسؤول مباشرة عن الشأن الحكومي… ولعل شيراك يعرف معنى ذلك لأنه عانى بنفسه من نقطة الضعف هذه عندما كان رئيساً للحكومة عام 1988 ومرشحاً للانتخابات الرئاسية. ولعله انطلاقاً من هذه المعرفة رفض تولي الحكم عام 1993 مفضلاً اعداد نفسه للاستحقاق الرئاسي بمعزل عن قيود الحكم. شيراك واللغة الجديدة 3 - استطاع جاك شيراك ان يطلّ على الرأي العام بشخصية جديدة وبلغة جديدة. فلم يعد ذلك اليميني المحافظ المستعد لخوض المعارك ضد اليسار انتصاراً لليبرالية ودفاعاً عن البورجوازية الفرنسية. فهو استفاد من انحسار اليسار ومن تجمع معظم المحافظين حول بالادور وصعود اليسار الديغولي الى القمة ممثلاً بفيليب سيغان رئيس البرلمان، استفاد شيراك من ذلك كله وصار يعتمد لغة يسراوية مليئة بالانتقادات ضد "اولئك الذين يغتنون ويجمعون الثروات وهم نيام" في اشارة الى المضاربة بالبورصة وهي اشارة يتعهد نقلها عن فرنسوا ميتران، اضافة الى حديثه عن العدالة والمساواة وحل مشاكل الفقر والبطالة وضمان التقاعد وحماية الطبابة والضمان الاجتماعي وهي عبارات تشكّل محطات اساسية في الخطاب اليساري الفرنسي منذ عشرات السنين. ويستخدم شيراك هذه العبارات مستفيداً من ضعف اليسار وتشتت ناخبيه المحبطين من التجربة الاشتراكية في الحكم. لهذه الاسباب تقدم شيراك وحطم بالتالي صورته المحفورة على مرّ السنين في اذهان الفرنسيين بوصفه يمينياً متشدداً وفئوياً مشهوراً ومرشحاً مهزوماً على الدوام في الانتخابات الرئاسية فمن هو شيراك وهل يستقر في قصر الاليزيه في الربيع المقبل؟ رعاية بومبيدو كان رئيس الجمهورية الراحل جورج بومبيدو يمتدح جاك شيراك الشاب الملتحق به لتوه، كان يمتدحه في جلساته الخاصة بقوله: "لو طلبت من شيراك ان يحفر لي نفقاً بين قصر الاليزيه وقصر ماتينيون في ليلة واحدة لفعل ذلك بدون تأخير". ويكشف هذا الوصف عن مدى الاخلاص الذي يكنّه شيراك الشاب لرئيسه وهو اخلاص سيظل ثابتاً حتى الآن. ذلك ان عمدة باريس واظب على رعاية زوجة بومبيدو وعائلته بعد وفاته وكان حتى وقت قريب يفاخر بكونه بومبيدولياً اكثر من اي شيء آخر… واذا ما طرأ تغيير على تحديد خياراته السياسية وعلى تجربته الشخصية فان الرجل يدين بصعوده السياسي اولاً واخيراً لجورج بومبيدو. وُلد جاك شيراك في باريس عام 1932 وكان طفلاً وحيداً لأب يعمل مديراً لشركة في باريس ويعود اصله الريفي الى منطقة "الكوريز". دخل كأبناء طبقته الميسورة الى الثانويات الكبرى في العاصمة الفرنسية ومنها الى مدرسة الادارة العليا E.N.A ليخرج بدبلوم في العلوم السياسية وفي هذه المدرسة ظهرت تدريجياً مؤهلاته القيادية حيث بدا منهجياً وطموحاً ومنظّماً. واستطاع ان يحصل على رتبة "ماجور" بعد خضوعه، اثناء الدراسة، للخدمة العسكرية الإلزامية في وحدة المدرعات لكنه كاد يفقد هذه الرتبة على اثر توقيعه "نداء ستوكهولم للسلام" وهو نداء صاغه ونظّمه الحزب الشيوعي الفرنسي. لكن شيراك الذي شعر بأن مستقبله السياسي مهدد برمته كافح بكل الوسائل كي لا يُجرّد من رتبته العسكرية وتوسل لدى رؤسائه من اجل ارساله الى الجزائر للمشاركة في الحرب. في تلك الفترة كان يرغب في ان يكون جنرالاً وضابطاً نظامياً لكن القيادة العسكرية كانت ترى انه من غير الضروري تعريض حياة شاب يتمتع بمؤهلات مرموقة للخطر. وهو سيستفيد بسرعة من تجربته وسيقلع عن بيع وقراءة صحيفة "لومانيته" الناطقة باسم الحزب الشيوعي، وسيرفع شعار "الجزائر فرنسية" وسيتعلق بهذا الشعار، وان كان سيقرّ في ما بعد بأنه اخطأ سياسياً فانه سيؤكد بأنه لم يخطئ عاطفياً تجاه هذه القضية التي طغت على الرأي العام الفرنسي وربما ما زالت حتى الآن. في نهاية عشريناته وبداية ثلاثيناته اندفع شيراك نحو السلطة من بابها العريض اي قصر ماتينيون وتمكن من الالتحاق بمكتب جورج بومبيدو آخر رئيس للوزراء في العهد الديغولي. ومن دائرة بومبيدو انطلق لخوض معارك انتخابية محلية ناجحة فحاز على اعجاب رئيسه الذي قرر مكافأته بتعيينه وزيراً للشؤون الاجتماعية وكان عمره 35 عاماً، ومنذ ذلك الحين سيستقر في الصف السياسي الاول. في ايار مايو 68 كان شبان فرنسا ينفذون انتفاضة شاملة ويحوّلون الحي اللاتيني الى عاصمة والسوربون الى مقر لحكومتهم وتمكنوا من زعزعة اركان السلطة الديغولية التي انحسر عنها معظم انصارها. قلّة من الرجال اثبتت اخلاصها ووقوفها الى جانب السلطة ومن بين هذه القلّة كان جاك شيراك الأبرز وكان مقاوماً للشبان المنتفضين. وهنا ايضاً كافأه جورج بومبيدو فعينه وزير دولة لشؤون الموازنة فأصبح خاضعاً لوزارة المالية التي كان يقودها في حينه الاقتصادي الفرنسي اللامع فاليري جيسكار ديستان سليل إحدى العائلات الفرنسية المرموقة. لم تنشأ علاقة حبيّة بين الرجلين اللذين اختلفا سريعاً فجيسكار كان "جيسكاردياً وشيراك كان بومبيدولياً مخلصاً" بحسب تعبير آلان دوهاميل الكاتب والمعلّق الفرنسي الشهير الذي عاصر الرجلين وما زال. لتفادي القطيعة بينهما، عيّن بومبيدو جاك شيراك وزيراً مكلفاً بالعلاقة بين الحكومة والبرلمان. فلم يتمكن من اداء هذه المهمة بسبب اصراره على بومبيدويته، لذا سرعان ما اختلف مع الديغوليين التاريخيين في البرلمان ومع رئيس الحكومة الديغولي جاك شابان دلماس… لم يستجب بومبيدو لنصائح مستشاريه بإقالة شيراك بعد فشله لا بل فرضه وزيراً للزراعة، ومن خلال هذه الوزارة ثبت اقدامه في المجال الريفي وفي منطقة "الكوريز" مسقط رأس اجداده، وهو لن يتخلى عن هذه المنطقة منذ ذلك الحين بالرغم من كونها محاطة بمناطق يسارية تقليدية. في العام 1974 تفاقمت حالة جورج بومبيدو الصحية وصار جاك شيراك وزيراً للداخلية وكان عمره 42 عاماً ومع انه كان يُقدَّم بوصفه خليفة للرئيس الراحل، فان شيراك حديث السن لتولي الرئاسة الاولى لكن وزارته كانت معنية بالتحضير للانتخابات الرئاسية التي شهدت تنافساً حاداً بين الزعيم الديغولي المعروف جاك شابان دلماس ووزير الاقتصاد اللامع فاليري جيسكار ديستان. يومها انحاز شيراك لديستان ودخل في قطيعة مع الديغوليين القدامى. بداية الزعامة بعد فوز ديستان تقرّب شيراك من تياره واصبح رئيساً للوزراء لكن شهر العسل لم يدم طويلاً مع الرئيس الجديد، فاستقال شيراك واستطاع ان يجمع 43 نائباً ديغولياً وان يؤسس "التجمع من اجل الجمهورية" مهمشاً بذلك الديغوليين التاريخيين ومهيئاً نفسه لمواجهة التيار الجيسكاردي يميناً والتيار الاشتراكي - الشيوعي يساراً. بعد استقالته المدوّية من الحكومة اندفع شيراك معارضاً فاليري جيسكار ديستان بقوة واتهمه بتمثيل المصالح الاجنبية في فرنسا. وصادف ان اصيب في تلك الفترة بجروح كبيرة خلال حادث سير ودخل الى مستشفى "كوشان" للمعالجة ومنها وقّع نداء شهيراً عُرف في ما بعد بنداء "كوشان" اتهم فيه الرئيس ديستان بتمثيل حزب "الاجانب" في فرنسا. وكان ديستان يومها معروفاً بتقرّبه من الولاياتالمتحدة الاميركية ومعجباً بسياستها الليبرالية الأمر الذي كان يتعارض مع النزعة الديغولية القومية التي قضت بانسحاب فرنسا من الحلف الاطلسي وتفكيك قواعده في الاراضي الفرنسية. العداء الشيراكي - الجيسكاردي سيطبع المراحل الانتخابية اللاحقة، ففي العام 1981 تنافس شيراك وجيسكار وفرنسوا ميتران على الرئاسة. لم يتمكن شيراك من اجتياز عتبة الدور الاول وحصل على 18 في المئة من الاصوات في الدور الثاني فكان عليه ان يؤيد المرشح اليميني وخصمه جيسكار ديستان فأصدر بياناً مقتضباً أيّد فيه خصمه اليميني "من طرف شفتيه وبصورة شخصية". في الدور الثاني فاز ميتران وتبين من حسابات انتخابية اجراها انصار جيسكار ان ربع اصوات شيراك ذهب الى المرشح الاشتراكي. تصدّر شيراك منذ العام 1981 واجهة المعارضة اليمينية للسلطة الاشتراكية وخاض انتخابات العام 1988 بهذه الصفة لكن الضغائن التي يكنّها له انصار جيسكار وريمون بار جعلت ميتران يفوز عليه بفارق تجاوز ال 10 في المئة من الاصوات… وهو يخوض الآن انتخابات رئاسية جديدة وبخلاف جديد مع خصوم يمينيين كانوا اكثر المقرّبين اليه حتى الأمس وعلى رأسهم ادوار بالادور صديقه المقرّب "منذ 30 سنة". يتمتع جاك شيراك بمصادر قوة عديدة فهو شخص طويل القامة ويبدو كعملاق عندما يطلّ على محازبيه في المهرجانات الانتخابية، كاريسمي الشخصية يحوز على اعجاب وتقدير محازبيه، ويؤكد اصدقاؤه انه اكثر ثقافة وعمقاً مما يظهره ويحب افلام الوسترن والروايات البوليسية. ويتمتع بقدرة على جذب الآخرين وكسب تعاطفهم وبالرغم من كونه انانياً فهو ليس حقوداً ويتمتع بذاكرة قوية وبإرادة حديدية. يتربع شيراك على عرش بلدية باريس منذ العام 1978 بدون انقطاع وتوفر له بلدية العاصمة مصادر مالية ضخمة وتجعله في قلب الاحداث بصورة دائمة فالسلطات كلها في باريس وكلها معنية بشكل او آخر ببلديتها اي بشيراك نفسه الذي يستقبل زوار العاصمة الفرنسية الاجانب الذين يحلّون ضيوفاً على خصمه التاريخي فرنسوا ميتران وهو الوحيد بين رؤساء البلديات يتمتع بهذا الامتياز. على الرغم من محدودية تمثيل حزبه "التجمع من اجل الجمهورية" الذي لم يتجاوز نسبة ال 18 في المئة في المناسبات الانتخابية المختلفة، باستثناء الانتخابات النيابية عام 1993، فان التيار الشيراكي يستند الى مراكز قوى متنوعة فهو يتمتع بصداقات في القطاع الزراعي والنقابي ولدى فئات واسعة من الكادرات والصناعيين ويلقى تأييداً في اوساط ما تبقى من الاشراف والسلالات النبيلة التي يعبّر عنها حزب "المركز الوطني للمستقلين" C.N.I الذي انحاز اليه في الانتخابات الرئاسية بخلاف الاحزاب اليمينية الاخرى التي انحازت بأكثريتها الساحقة الى خصمه بالادور. وتظل دينامية جاك شيراك السمة الابرز في شخصيته. فهو زرع فرنسا مدينة مدينة وقرية قرية خلال الشهور الماضية وتناول الطعام عشرات المرات على موائد مناصرين ومؤيدين له في المدن والأرياف واستمع الى آلاف الاشخاص وخاطب عشرات الآلاف. يقول المقربون منه انه لا ينام الا قليلاً ويتابع الشؤون الصغيرة والكبيرة ويؤكدون انه يتمتع بقدرة كبيرة على التهام الملفات وهضمها بسرعة وانه قادر على التكيّف مع التطورات الجديدة ويقظ لمتابعة المتغيرات ويستشهدون بمثال وقع مؤخراً. فقد علم ان احد الباحثين الفرنسيين ويدعى ايمانويل تود قد وضع دراسة مهمة للغاية عن القطيعة بين النخبة والشعب الفرنسي، فطلب الاطلاع على هذه الدراسة واوصى بتوزيع 250 نسخة منها على ابرز مساعديه ومنذ ذلك الحين وهو يعتمد مضمونها في حملته الانتخابية بالرغم من انه لم يلتق تود الا ثلاث مرات وبصورة عابرة. ويؤكد المقربون منه ان خير دليل على مرونته استعداده للتكيّف مع المعطيات والظروف السياسية المستجدة فمع بداية حياته السياسية تأثر بجورج بومبيدو، ثم بفاليري جيسكار ديستان لفترة قصيرة واعتمد على مستشاري بومبيدو الشهيرين في السبعينات بيار جويليه وماري فرانس غارو، ثم استبدلهما في ما بعد بشارل باسكوا وادوار بالادور، وهو يعتمد اليوم على فيليب سيغان وآلان جوبيه وآلان مادلان، جامعاً بذلك الحساسية الديغولية اليسارية سيغان والليبرالية مادلان. لم يكن شيراك يوماً قريباً من قصر الاليزيه اكثر منه في هذه الايام لكن القرب من الرئاسة الاولى يتطلب اجتياز ربع الساعة الاخير بنجاح. ففي هذه المدة يتحدد مصير الاليزيه وشيراك يعرف اكثر من اي شخص آخر ان الامر لم يُحسم لصالحه بعد، ذلك ان اكثر من نصف الناخبين الفرنسيين ما زال متردداً في تحديد موقف من الانتخابات. ولكي لا يبعث آمالاً نهائية في نفوس انصاره وهيئة اركانه الانتخابية فهو ما برح يؤكد لهم ان الفوز بالرئاسة لا يُحسم الا في يوم الاقتراع في الدورة الثانية اي في 8 ايار مايو المقبل وان باب المفاجآت ما زال مفتوحاً على مصراعيه. شيراك رئيساً؟ هذا ما يتمناه الديغوليون الذين يطمحون لاسترداد الاليزيه بعد غياب استمر ربع قرن لكن الفرق ما زال كبيراً بين تمنياتهم والرمال الانتخابية المتحركة التي تنتشر حول القصر الجمهوري الفرنسي وتهدد بالهلاك كل مرشح يشاء سوء طالعه ان تكون "دعسته ناقصة".