انهارت "دولة اليسار" في فرنسا وبدأت "دولة اليمين" تمارس سلطتها في الحياة السياسية والاجهزة والمؤسسات الرسمية. لم يبقَ من "دولة اليسار" بعد الانتخابات النيابية الاخيرة وهزيمة الحزب الاشتراكي الساحقة فيها، سوى رئيس الجمهورية فرنسوا ميتران، وأزمة كبرى داخل الحزب الاشتراكي. اما "دولة اليمين" فباتت تسيطر على الجمعية الوطنية البرلمان ومجلس الشيوخ والحكومة بعد تشكيلها برئاسة ادوار بلادور المنتمي الى الحزب الديغولي "التجمع من أجل الجمهورية" بزعامة جاك شيراك. الديغوليون يسيطرون الآن على رئاسة الحكومة وعلى عدد من الوزارات المهمة فيها، اي على السلطة التنفيذية، وهم يسيطرون على السلطة التشريعية بفضل انتخاب احد زعمائهم، فيليب سيغان، رئيساً للبرلمان، وبفضل مجموعتهم البرلمانية الاكبر والاكثر تماسكاً. وبات الديغوليون يحاصرون خصمهم الوحيد فرنسوا ميتران، الذي نجا من الكارثة التي حلت بالاشتراكيين وهم يسعون الى تحجيم صلاحياته المهمة التي يتمتع بها دستورياً، في مجالي الخارجية والدفاع، اذ اختار رئيس الحكومة بلادور، زميله آلان جوبيه وزيراً للخارجية في اطار خطة تقضي بتقييد حركة الرئيس الفرنسي في هذا المجال، وجوبيه 47 عاماً هو الامين العام للحركة الديغولية واليد اليمنى لزعيمها شيراك، وهو كان من أشد المطالبين بتنحية رئيس الجمهورية اذا ما حقق اليمين انتصاراً ساحقاً في الانتخابات البرلمانية، ومعروف بعدائه الشديد للاشتراكيين. وقد رفض جوبيه التخلي عن منصبه الحزبي في خطوة يراد منها اثارة الرئيس اذ جرت العادة من قبل ان يتخلى الوزراء عن مناصبهم الحزبية خلال فترة انتدابهم للوزارة، باعتبارهم وزراء لكل فرنسا وليس لفريق منها. وعيّن رئيس الحكومة في وزارة الدفاع فرنسوا ليوتار 51 عاماً الرئيس السابق للحزب الجمهوري وأحد ابرز الوجوه الليبرالية في فرنسا والمرشح المعلن لرئاسة الجمهورية عام 1995. وليوتار لا يحتفظ بأي احترام للاشتراكيين، وله تاريخ حافل باستخدام لغة شديدة العداء ضدهم وضد ميتران بصورة خاصة. لكن ليوتار الطامح الى الرئاسة الأولى، غيّر تكتيكه اخيراً واكتفى برئاسة الشرف في حزبه "الجمهوري" وبدأ يتحدث باحترام عن ميتران. وبالطبع فان الامور الدفاعية في فرنسا تبقى اقل اثارة للعداء والحساسية، من الامور المتصلة بالسياسة الخارجية، والسبب في ذلك ان رئيس الجمهورية هو القائد العام للجيوش الفرنسية ويتمتع بصلاحيات هائلة لا ينازعه احد فيها في هذا الحقل، الا ان وزيراً قوياً للدفاع يمكنه ان يحد من حركة الرئيس المطلقة، وتلك هي الحال مع فرنسوا ليوتار. الحصار الذي يضربه الديغوليون حول رئيس الجمهورية شمل ايضاً سد فجوة كبيرة يمكن لرئيس الجمهورية ان ينفذ منها ويستعيد زمام المبادرة، وتتمثل هذه الفجوة في "تجمع الوسط" الفرنسي. ولا بد من التذكير هنا بأن ميتران حاول مراراً استمالة شخصيات من "الوسط" الى جانبه ونجح في اغراء عدد منهم وضمهم الى حكوماته الاشتراكية، شأن ليونيل ستوليري وجان بيار سواسون وآخرين. ولاقفال الباب امام احتمالات من هذا النوع عمد ادوار بلادور الى تعيين 15 وزيراً من "الاتحاد من اجل الديموقراطية" بينهم وزراء ينتمون الى "الوسط" ويتسلمون حقائب مهمة للغاية، شأن وزارة العدل السلطة القضائية التي اسندت الى السيد بيار ماينيري 53 سنة فضلاً عن وزراء آخرين مقربين من ريمون بار وفاليري جيسكار ديستان، وإذا ما اضفنا السيدة سيمون فيل 65 سنة وزيرة الدولة ووزيرة الشؤون الاجتماعية والصحة فيكون عدد وزراء "الاتحاد" 16 وزيراً مقابل 13 وزيراً ديغولياً. ويكتسب هذا التوزيع للحقائب الحكومية معنى مهماً في اطار سد "الفجوة" التي يمكن ان ينفذ منها رئيس الجمهورية لاغراء "تيار الوسط" بالتمرد على "الدولة الديغولية"، وفق ما يردده الاشتراكيون عندما يتحدثون عن الحالة الراهنة. ويهدف تدعيم وجود الوسط والليبراليين في الحكومة، ايضاً الى استيعاب انصار رئيس الوزراء السابق ريمون بار وهو من المرشحين المعلنين لرئاسة الجمهورية، وأنصار الرئيس السابق فاليري جيسكار ديستان الذي يراوده حنين دائم للعودة الى قصر الأليزيه. ويتضح ذلك من خلال تعيين السيد فيليب ماستر 65 سنة وزيراً للمحاربين القدامى، وماستر ليس سوى مدير مكتب ريمون بار عندما كان رئيساً للحكومة 1978 - 1981 ورئيس الحملة الانتخابية الرئاسية لبار عام 1988. ولكي تستقر "الدولة الديغولية" وتتمكن من مواصلة حصار رئيس الجمهورية، ومن ضبط منافسيها الليبراليين و"الوسطيين" فان قادة "التجمع من أجل الجمهورية" توصلوا في ما بينهم الى نوع من الاتفاق الذي يتيح لكل طرف احتلال موقع في هذه الدولة لا يتعارض مع مصلحتهم العامة في تسلم السلطة كاملة عام 1995. هكذا تمثل في حكومة بلادور التيار الديغولي المعارض لاتفاقية ماستريخت، لوزيرين هما: وزير الداخلية المخضرم شارل باسكوا 65 عاماً المعروف عنه تعلقه الشديد بالجنرال ديغول الى حد أنه كان يقول: "لو طلب مني الجنرال أن امسك مسدساً وان أطلق النار على أحد ما فانني لا أتردد في تنفيذ أوامره لحظة واحدة". وباسكوا كورسيكي الأصل ويتميز بصراحته وهو الذي ساهم بتحرير الرهائن الفرنسيين من لبنان 1986 - 1988، لكن صورته ما زالت مرتبطة "بطائرات الشارتر" التي أعادت مهاجرين أفارقة من دولة مالي، عنوة الى بلادهم. يضاف الى باسكوا فرانسوا فيلون 39 سنة وزير التعليم العالي والبحث العلمي، وهو من المقربين جداً من فيليب سيغان رئيس البرلمان وقائد اوركسترا الديغوليين المعارضين لمشروع الوحدة الأوروبية. هكذا أصبح باسكوا في الحكومة وفيليب سيغان رئيساً للبرلمان لينحصر بذلك التيار المعادي لماستريخت في الشؤون الداخلية الفرنسية وليبتعد عن الشؤون الأوروبية وليظل دائماً عنصراً فعالاً في التيار الديغولي. هذا الترتيب الديغولي للقوى، ليس عفوياً بنظر الخبراء الفرنسيين في الشؤون الداخلية، الذين يرون فيه ملامح خطة كانت موضوعة سلفاً للتطبيق في الوقت المناسب. وهي خطة ترمي في أبعادها النهائية، للتمهيد لانتخاب جاك شيراك رئيساً للجمهورية في العام 1995. وإذا كان من الصعب توقع مدى نجاح هذه الخطة بعد سنتين، فإن المحللين الفرنسيين يعتقدون أن ميتران سيسعى الى عرقلة هذه الخطة وانه ما زال يملك أوراقاً مهمة من خلال صلاحيته كرئيس للجمهورية. ويسود اعتقاد في باريس ان ميتران الذي لم يبد اعتراضات ملحوظة على سيطرة الديغوليين على مراكز ومفاتيح السلطة الأساسية في البلاد، يستعد عندما تلوح الفرصة المناسبة لاثارة هذا الموضوع أمام الرأي العام. ولا تكون الفرصة مناسبة إلا عندما يبدأ الرأي العام الفرنسي بالاحتجاج على الحكومة التي سرعان ما ستفقد بريقها خلال أشهر، أي في الخريف المقبل. ويستفاد من معلومات متداولة على نطاق ضيق في العاصمة الفرنسية أن الديغوليين لن يسمحوا لرئيس الجمهورية باستجماع قواه لشن هجوم مضاد وفك الحصار عنه، فهم يدرسون عدداً من السيناريوهات التي تهدف الى إثارة الرئيس أو استفزازه، خصوصاً في مجال صلاحياته، لخوض مواجهة مكشوفة معه ودفعه بالتالي الى الاستقالة. وهكذا تستعد فرنسا الآن لنوع من التعايش الهادىء علناً بين الديغوليين ورئيس الجمهورية، والحافل ضمناً بكافة أنواع المخططات السياسية التي يضمرها كل طرف للآخر. لكن مشكلة ميتران المباشرة في الفترة المقبلة ستكون محصورة في معالجة الأزمة الكبرى التي يواجهها الحزب الاشتراكي بعد الانقلاب الذي أطاح بقيادته مطلع هذا الشهر. فقد عمد أنصار رئيس الوزراء السابق ميشال روكار الى التحالف مع أنصار الوزير السابق ليونيل جوسبان المستقيل لتوه من الحزب، وأطاحوا الأمين العام لوران فابيوس وعينوا قيادة مشتركة موقتة برئاسة روكار نفسه، على أن تهيىء هذه القيادة لمؤتمر تحضره القيادات العامة لليسار والحزب الاشتراكي في الصيف المقبل. لكن هذا "الانقلاب" لم يحظ بتأييد قادة الحزب الآخرين، ولا سيما لوران فابيوس الذي رفض مصافحة روكار بعد انتهاء أعمال قيادة الحزب، كما رفض القيادة الجديدة كل من جاك ديلور المفوض الأوروبي وجان بيار شوفينمان وزير الدفاع السابق وبيار موروا رئيس الاشتراكية الدولية وآخرون، مما يعني ان الصراع صار مفتوحاً على معركة "كسر عظم" في الحزب. ومن شأن ذلك زيادة متاعب ميتران.