حدثان شهدتهما باريس خلال عطلة نهاية الأسبوع الماضي، عكسا مجدداً حالة التشتّت المزرية التي يعيشها اليمين الفرنسي. تمثّل الحدث الأوّل بالانتخابات الداخلية في حزب "التجمّع من أجل الجمهورية" الديغولي لاختيار رئيس له، وتمثّل الثاني بانعقاد المؤتمر التأسيسي لحزب "التجمع من أجل فرنسا". التزامن بين الحدثين قد يكون من باب الصدف، لكن هذا لا يخفّف من سلبية مضمونه الرمزي. فإعلان وزير الداخلية السابق شارل باسكوا عن تأسيس "التجمع من أجل فرنسا" الذي يتزعمه بالاشتراك مع النائب المحافظ فيليب دوفيلييه، يكرّس القطيعة النهائية بينه وبين الحزب الديغولي الذي طالما كان يعد من أقطابه البارزين. فكيف إذا كان هذا الاعلان حلّ في ظل البلبلة القائمة منذ مدة في صفوف الديغوليين وفي ظل انعدام التجانس الذي عكسته الانتخابات الداخلية. ففي سابقة غير مألوفة لدى الديغوليين، تنافس على رئاسة الحزب أربعة مرشحين يمثّل كل منهم أحد التيارات المتصارعة داخله، خلافاً للتقليد الذي كان متبّعا حتى الآن، إذ كان يتم اختيار رئيس الحزب بالتزكية. فمثّل الوزير السابق فرانسوا فييون في هذه الانتخابات، تيار رئيس الجمعية الوطنية السابق فيليب سيغان، الذي كان تولى رئاسة الحزب الديغولي واستقال اثر فورة غضب عشية الإنتخابات الأوروبية في الربيع الماضي. كما مثّل الوزير السابق باتريك ديفيدجيان التيار "الليبرالي الاوروبي" الذي يجسّده الرئيس السابق للحزب بالوكالة نيكولا ساركوزي، والذي استقال من هذا المنصب إثر الهزيمة الساحقة التي واجهها في الإنتخابات الاوروبية. ومثّلت الوزيرة السابقة ميشال آليو - ماري، التيار الداعي للتمسّك بالمبادئ والقيم التقليدية للديغولية. والأهم في الأمر هو أن المرشحين الثلاثة نافسوا على رئاسة الحزب عضو مجلس الشيوخ جان بول دولوفوا، الذي يعد مرشّح الرئيس الفرنسي جاك شيراك الذي يتزعّم الحزب الديغولي. صحيح أن دولوفوا حلّ في مقدمة المرشحين وحاز على 06ر35 في المئة من الأصوات، لكنه مضطّر لمواجهة آليو - ماري التي حازت على 01ر31 في دورة ثانية تعقد في 4 كانون الأول ديسمبر المقبل. ومن الطبيعي إذاً أن تثير هذه النتائج نوعاً من المرارة في أوساط مؤيدي شيراك من الديغوليين، نظرا لما تظهره من غياب للإجماع الحزبي من حوله ومن عدم تسليم لتوجيهاته. ومن شأن هذه المرارة ان تتعزّز عندما ينظر شيراك من حوله، ولا يرى أحداً، بعد أن ابتعدت عنه غالبية الوجوه التقليدية في حزبه وفي مقدمها باسكوا الذي كان من بين المقربين واختار أخيراً، متابعة السير على طريق منفصل. وتسعى الأوساط المؤيدة لشيراك الى تعزية نفسها عبر التخفيف من شأن مغادرة باسكوا لأسرته السياسية التقليدية، بالقول إن الشعارات التي يرفعها حزبه من تمسّك بمبادىء "السيادة" وتغليبه للمصلحة الوطنية الفرنسية على المصلحة الأوروبية، تجعله ممثلا لقيم الماضي. كما ترى هذه الأوساط أن تشكيل حزب يميني جديد على غرار "التجمع من أجل فرنسا" لا يشكّل تحدياً فعلياً لشعبية الديغوليين، إذ أن هذا الحزب عبر الطروحات التي يعتمدها، أكثر جاذبية بالنسبة لناخبي اليمين المتطرّف منه لناخبيها. وبمعزل عن مدى صحة هذه الأقوال، يبقى ان الصورة القائمة اليوم هي أن الأسرة الديغولية التي يفترض ان تجمع من حولها الفصائل اليمينية الفرنسية كافة، هي بحد ذاتها مبعثرة ومشتّتة، وأن شيراك الذي يتزعّم هذه الأسرة، لا يسيطر على أكثر من ثلثها.