يبدو رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري متفاجئاً مع مؤيديه من المنحى الاصلاحي للعهد الجديد الذي بدأ في 24 تشرين الثاني نوفمبر الماضي ولحكومته الاولى برئاسة الدكتور سليم الحص، لأن هذا المنحى استهدف جملة امور، منها الانجازات الإعمارية والإنمائية التي تحققت خلال ست سنوات من الحكم وهدفت الى تأهيل لبنان لدخول القرن الواحد والعشرين ببنية تحتية جيدة وبوضع اقتصادي صلب وباستقرار نقدي متين. ومن بين هذه الانجازات المؤسسات التي اقامها الحريري بهدف التعاطي مع العالم العربي والعالم الاوسع من اجل الاسراع في اعادة بناء البلد وتحصين هذا البناء وتوريط هذين العالمين في مسؤولية الاستثمار والمشاركة في اعادة البناء والتنمية وحماية الانجازات، خصوصاً في ظل الاحتلال الاسرائيلي لأجزاء من لبنان والتهديدات الاسرائيلية المستمرة بضرب كل ما انجزه لبنان منذ انطلاق الجمهورية الثانية بعد اتفاق الطائف، خصوصاً بنيته التحتية، ومنها الدم الجديد والكفوء الذي ضخه في الادارة اللبنانية على اختلاف مؤسساتها والذي كان له الفضل الواسع في الانجازات المعروفة. اختصار واحتواء لكن هل يمكن للحريري ومؤيديه ان يعتبروا ما يحصل مفاجأة؟ يتبين من العودة الى الوراء وتحديداً الى السنوات الست التي امضاها الحريري في رئاسة الحكومة، بالاحداث التي شهدتها وبالتطورات التي حفلت بها، ان الشعور بالمفاجأة ليس في محله، لا بل لا حق لأصحابه فيه، ويظهر ذلك جلياً من خلال المعطيات الآتية: 1 - قامت بين اواخر العام 1992 موعد وصول الحريري الى السلطة وبين صيف وخريف 1995 موعد انتخابات رئاسة الجمهورية معارضة واضحة ومعلنة له اي الحريري تناولت مواضيع وقضايا عدة. ومنها اختصاره الحكومة في شخصه بعدما حول اتفاق الطائف مجلس الوزراء مؤسسة تضم ممثلين عن معظم الطوائف اللبنانية، خصوصاً الست الرئيسية منها وتتخذ قرارات تعبر عن اكثرية اللبنانيين. ومنها ايضاً احتواؤه رئاسة الجمهورية التي كان الرئيس الياس الهراوي متربعاً على سدتها. ومنها ثالثاً محاولته السيطرة على مجلس النواب بعدما عجز عن احتواء رئيسه على رغم "التعامل" الجيد بين الاثنين في فترات معينة. ومنها رابعاً المحاولة الدائمة لمجلس النواب بقيادة رئيسه نبيه بري السيطرة على الحكومة وعلى السلطة التنفيذية من خلال عرقلة مشاريعها وجعل نفسه حكماً حيناً والمقرر الاول في كل شأن مهم حينا آخر. ومنها خامساً امساكه بمفاصل الادارة العامة والمؤسسات الرسمية عبر تسليمها لأشخاص عملوا معه يوماً او وثق فيهم وتحلوا في معظم الاحيان بكفاءات علمية عالية وبامتيازات. ومنها سادساً اطلاقه فكرة التمديد ثلاث سنوات للرئيس الهراوي في صيف 1994 من مدينة زحلة وأمام مسؤولين سوريين كبار ووقوفه تبعاً لذلك ضد وصول قائد الجيش العماد إميل لحود الى رئاسة الدولة على رغم ترشيح معظم النواب له فضلاً عن التحركات الحزبية والشعبية. ومنها سابعاً واخيراً تعطي المعارضة فترة اي الحريري بالمؤسسة العسكرية مما اظهر وجود تناقض كبير بينه وبينها في الرؤية السياسية والوطنية وفي الاهداف. 2 - احتدام المعركة بين الحريري ومعارضيه السياسين بين 1995 و1998 اي في الولاية الممددة للرئيس الهراوي. اذ استمر هؤلاء في اثارة القضايا التي يعترضون عليها والمذكورة اعلاه وأضافوا اليها اموراً جديدة، منها تحميله مسؤولية الدين العام الكبير الذي من شأنه رهن البلد، في رأيهم، للمدينين، وبينهم جهات اجنبية متنوعة، ومنها تحميله مسؤولية الهدر والفساد في الادارات العامة، خصوصاً في التلزيمات والصفقات. واحتدمت المعركة ايضاً في الفترة نفسها بين الرئيس الحريري والمؤسسة العسكرية اذ اتهمها بتوفير التغطية لمعارضيه، خصوصاً للشرسين وللديماغوجيين منهم. وبتزويدهم كل ما يحتاجونه من معلومات للاستمرار في معارضتهم. وهي للاسف موجودة وبكثرة. المؤسسة العسكرية طبعاً حاول الرئيس السابق للحكومة احتواء المؤسسة العسكرية او هكذا اتهمه معارضوه من خلال طريقتين. الاولى اقامة علاقة وثيقة شبيهة بالعلاقات التي نسجها مع جهات سياسية سواء في الشكل او في المضمون. وعندما اخفق في ذلك لاعتبارات متنوعة يتعلق بعضها بنوعية القيادات في المؤسسة العسكرية ويتعلق بعضها الآخر بموقف سورية الداعمة لپ"استقلال" الجيش عن السياسة والسياسيين، انتقل الى الطريقة الثابتة وهي التركيز على ان الخلاف القائم هو بينه وبين بعض الاجهزة الامنية في الجيش وليس مع المؤسسة العسكرية ككل او مع قيادتها، لكنه اساء بذلك التقدير اذ فسرت خطوته بأنها محاولة لدق اسفين داخل قيادة هذه المؤسسة او لضربها عن طريق استعداء الناس على قسم منها. وطبعاً لم يرضِ ذلك الراعي الاقليمي للوضع اللبناني الذي حرص منذ سنة 1989 على ايلاء الجيش اهتماماً خاصاً وابقائه بمنأى عن اي تدخلات سياسية، خصوصاً ان قيادة هذا الجيش تحظى بثقة دمشق. وخلال السنوات الثالث المذكورة خسر الحريري معركته عندما اضطر الى توقيع مرسوم ترفيع "خصم عسكري" عنيد له حمّله دائماً مسؤولية متاعبه السياسية. 3 - شهد العام 1998 انتقال العماد إميل لحود من قيادة الجيش الى رئاسة الجمهورية بالانتخاب من غالبية أعضاء مجلس النواب 118 من اصل 128 وبعد تزكية واضحة من الناخب الاوحد له اي سورية. وكان الرئيس الحريري يعرف ان هناك استحالة لمعارضة التزكية والانتخاب، لذلك حاول ترطيب العلاقة مع المؤسسة العسكرية وقائدها قبل انتقاله الى سدة الرئاسة الاولى. وعقد اجتماع بينهما في السرايا الحكومي الكبير ظن يومها ان اموراً كثيرة بينهما توضحت وان من شأن ذلك تسهيل مهمته في رئاسة الحكومة التي كان الجميع متيقناً بأنه سيعود اليها مع العهد الرئاسي الجديد. لكن المفاجآت تكررت بعد ذلك، بدءاً بالخطاب الذي ألقاه الرئيس لحود في مجلس النواب بعد قسم اليمين الدستورية امامه. وتضمن عناوين لسياسات اعتبرها اللبنانيون تلخيصاً لبرامج معارضي الحريري او على الاقل لموافقهم او متبنياً لها. أول الغيث وأثار ذلك قلق الحريري وبدا عدم الرضى على وجهه من خلال شاشات التلفزة. وتردد ان الحريري سأل لحود: "لماذا تكلمت على هذا النحو يا فخامة الرئيس". ومنه ايضاً الخلاف الذي نشب بين لحود والحريري على نتائج الإستشارات النيابية الملزمة لتسمية رئيس مكلف تشكيل الحكومة. علماً ان اثارة موضوع المادة 53 من الدستور والكلام عن حق النواب في تفويض رئيس الجمهورية تسمية مرشح مناسب لتشكيل الحكومة او ترك الحرية له في هذا الموضوع كان يجب ان تجعله اكثر حذراً في التعاطي مع لحود. ومنه ثالثاً سرعة قبول اعتذاره وتسمية الحص مكانه بعد استشارات نيابية سريعة. ومنه رابعاً وأخيراً البيان الوزاري بما تضمنه من ادانة لسياسات حكومات الحريري ومن تبنٍ لمضمون خطاب القسم ولنهج معارضيه، البنائين منهم والديماغوجيين. هذه التطورات المتنوعة كان يجب ان تدفع الرئيس الحريري ومؤيديه الى عدم اعتبار ما حصل مفاجأة في موضوع الاصلاح الاداري وضع مدراء عامين بالتصرف ورؤساء وأعضاء مجالس ادارة والذي هو اول الغيث. لا بل كان يجب ان تدفعهم الى توقع ما حصل. لأن العهد الجديد بحكومته الاولى لا يستطيع تنفيذ سياسته بإدارة الحريري لا سيما انه تبنى عملياً مقولة المعارضين بأن الادارات العامة اصبحت حريرية الهوى والولاء . فهذه الادارة تستطيع ان تعرقل عمله وبل تستطيع ان تخرّب عمله. فضلاً عن ان العهد الجديد يريد ادارة جديدة او بالاحرى قيادات ادارية جديدة غير ممسوكة من الحريري وكفوءة في الوقت نفسه. مع الاشارة هنا الى ان الذين ادخلهم الحريري الادارة لم يكن عيبهم قلة كفاءاتهم بل ولاؤهم له وليس للدولة او للادارة، بخلاف الذين أدخلتهم مرجعيات اخرى الى هذه الادارة. من دون تمييز هل يعني ذلك ان العهد الجديد بحكومته الاولى يتبع سياسة منهجية هدفها استئصال "دولة" الحريري الادارية بعد ابعاد دولته السياسية؟ هذا ما يقوله انصاره الكثيرون، وهو حقيقي، لكنه ليس كاملاً لأن الموظفين الحريريين غير المتورطين في اي قضية والذين ولاؤهم الدولة قبل اي شيء سيبقون في مراكزهم، هذا في حال وجودهم. وكذلك لأن الحركة الاصلاحية الادارية التي قام بها مجلس الوزراء قبل اسبوعين طاولت الاداريين الحريريين واداريين آخرين بعضهم كان ولاؤه للرئيس السابق الياس الهراوي وبعضهم الآخر كان ولاؤه للرئيس نبيه بري وبعضه الثالث كان ولاؤه لجهات متنوعة منها الوزير السابق إيلي حبيقة. طبعاً يأخذ انصار الحريري وجهات اخرى على الحكومة تقلص مساحة الاصلاح عن جماعة بري في الادارات العامة على رغم اقتناع الجميع بضرورة شمولها اياهم لأن في ذلك شيئاً من عدم العدالة ولأن فيه ايضاً ما يذكي النعرة المذهبية التي يحاول البعض "اشعال" الشارع الاسلامي بواسطتها، لكن مجلس الوزراء أكد أن الاصلاح مستمر وبدا أن اجراءاته ستطال كل المسيئين والمرتكبين من دون اي تمييز بين مرجع وآخر وبين مذهب وآخر وبين طائفة وأخرى. فساد تاريخي هل الحريري مسؤول وحده عن الفساد في الادارة والسياسة؟ للانصاف تقتضي الاجابة بالنفي. فالفساد كان موجوداً دائماً في لبنان. ولعل محاولة الرئيس فؤاد شهاب تحقيق اصلاح من خلال بناء مؤسسات الادارة بين 1958 و1964 دليل على وجوده، ولعل فشل هذه المحاولة بعد ذلك عندما عادت الادارة الى احضان السياسيين دليل آخر على وجوده. ان الحرب التي عصفت بلبنان طوال اكثر من 16 عاماً جعلت الفساد السياسي والاداري القاعدة، في حين يفترض ان يكون الاستثناء الذي يثبتها ويؤكدها كما هي الحال في العالم المتقدم. وهذه الحرب فتتت المؤسسات وشلتها وحالت دون اي محاولة جدية لإعادة بنائها على اسس عصرية استناداً الى قوانين يقرها مجلس النواب. وبعد انتهاء الحرب وقيام الجمهورية الثانية انشغلت الحكومتان الاولى والثانية فيها بانهاء الحرب وازالة اثارها و"فكفكة" ادواتها، وانشغلت الحكومة الثالثة باجراء انتخابات نيابية سنة 1992 للمرة الأولى منذ 20 سنة . وعندما جاءت الحكومة الثالثة برئاسة الحريري اواخر سنة 1992 كان في برنامج رئيسها الاصلاح وهو حاول الحصول على تأييد سياسي ونيابي لصلاحيات استثنائية تمكّن حكومته من تحقيق الاصلاح، لكن محاولته اخفقت فقام بحركة تطهيرية متسرعة كرست الفاسدين بدلاً من ان تجعلهم عبرة لغيرهم، بسبب عدم توافر الملفات واستنسابية القرارات وعودة "المطهرين" او معظمهم الى وظائفهم ومواقعهم بأحكام قضائية. العقاب والتحديث هل الاصلاح الذي يقوم به العهد الرئاسي الجديد لحكومته الاولى علمي وعصري؟ معارضو هذا الاصلاح، خصوصاً الذي يطالهم مباشرة او مداورة، يؤكدون انه غير علمي وغير عصري. ويقولون ان وزراء الاصلاح الاداري في حكومات الرئيس الحريري، خصوصاً الاخير منهم بشارة مرهج، وضع دراسات علمية بالتعاون مع مؤسسات دولية من اجل تنفيذ بعض هذه الدراسات ومنها تنفيذ 65 مشروع مكننة في الادارات. لكن مؤسسات الرقابة في حينه وكان على رأسها الوزير الحالي للاصلاح الاداري حسن شلق لم تتجاوب. ويقول هؤلاء ايضاً ان هناك طريقتين للاصلاح: الاولى جعل العقاب الاداة الاولى لتحقيقه، وهو ما يعتمد حالياً. والاخرى التحديث سواء في العنصر البشري ام في القوانين. والحكومة الحالية تعتمد في رأيهم الطريقة الاولى. علماً ان مسؤولين كبار فيها يؤكدون عزمهم على تحديث القوانين التي تسمح بتحديث الادارة. لكنهم يؤكدون في الوقت نفسه استحالة اسناد الاصلاح الى المفسدين او الى المشكوك في ولائهم للدولة وضرورة الانطلاق من القوانين ومن المؤسسات القائمة ريثما تنتهي الحكومة من ورشة تحديث القوانين المتعلقة بالادارة فتحيلها الى مجلس النواب. هل ينجح العهد الجديد بحكومته الاولى في تحقيق الاصلاح؟ يرتبط ذلك بأمور عدة. منها استقرار الوضع الاقليمي او عدم انعكاس توتره سلباً على لبنان الامر الذي يجعله مع سورية مضطرين الى تأخير او وتيرة الاصلاح. ومنها ايضاً عدالة الاصلاح وتأكد الناس انه فعلاً خفف معاناتهم مع الادارة العامة. ومنها اخيراً استمرار الضوء الاخضر السوري المعطي للعهد ولحكومته من اجل ترتيب اوضاع الداخل لأن لدى الفاسدين والمرتكبين والمفسدين تغطية سياسية محلية لديها بدورها مع الاسف تغطية سورية