يرسو الإستحقاق الدستوري، في القمة اللبنانية - السورية الأخيرة على قائد الجيش العماد إميل لحود رئيساً للجمهورية، أضحى موضوع الرئاسة اللبنانية لا يتعدى انتظار دوران آلية الإنتخاب تبعاً لأحكام المواد 76 و77 و49 و73 من الدستور التي ترعى أصول تعديله وإزالة المانع من طريق انتخاب موظفي الفئة الأولى لرئاسة الجمهورية، ومن ثم انتخاب العماد لحود دونما ترشحه غير الملزم دستورياً في كل الأحوال. إلا أن موضوع الرئاسة اللبنانية أضحى في الوقت نفسه محور تساؤل أساسي عن الأسباب التي قادت الإختيار السوري الى العماد لحود بالذات من دون سواه من المرشحين البارزين الآخرين. بل التساؤل أيضاً عن جدية ربط اختياره هذا بشعار احتمال إجراء "تغيير" كبير في لبنان، واقتران هذا "التغيير" بإمكانات الرجل ومؤهلاته الشخصية أولاً، وبظروف إحداثه في المرحلة الحاضرة ثانياً. فيما لم تكتم دمشق إرادتها على امتداد السنوات الأخيرة في تفادي حصول أي نوع من التغيير في السلطة اللبنانية، سواء في رئاسة الجمهورية أو في رئاستي مجلس النواب والحكومة، كما في عضوية الحكومة نفسها. والواقع أن السؤال الأكثر تداولاً في الأوساط اللبنانية الرسمية والشعبية، يتركز على هذه المسألة بالذات: أي تغيّر مرتقب سيُحدثه إميل لحود في البلاد؟ بل أي تغيير داخلي في وسعه إحداثه في خضم مرحلة إقليمية بالغة التعقيد والتأثير على لبنان وسورية معاً؟ وأي مغزى لربط التزكية الشعبية لانتخاب قائد الجيش رئيساً للجمهورية بالقرار السوري باختياره؟ وهو - أي القرار السوري - وحده العامل الحاسم في التسمية وفرض الإنتخاب بشعبية ومن دونها، وفقاً للواقع الإقليمي الذي تُقبل عليه دمشق، ويوجد ترابطاً وثيقاً بين مصالحها ونظام السلطة والحكم في لبنان. ومع ذلك كله فإن إميل لحود ليس أول رئيس لبناني "شعبي"، وإن يكن هو السبّاق في اختبار شعبيته عبر بضعة إستطلاعات رأي أجرتها مؤسسات محلية عدة، استخدمت جميعها تقنيات استطلاعات الرأي العام الأجنبية. علماً أن درس اتجاهات الرأي العام اللبناني في الاستحقاقات الوطنية بهذه الوسائل حديث العهد، وظهر على نحو شبه جدي إبان مرحلة ما قبل التمديد للرئيس الياس الهراوي، واتخذت تباعاً في الانتخابات النيابية العامة 1996 ثم في الانتخابات البلدية والاختيارية 1998 طابعاً أكثر تمرساً وأوسع تفصيلاً في تحديد الرأي العام ودرس اتجاهاته العامة مناطقياً ومذهبياً وطائفياً ومهنياً وعقائدياً واجتماعياً وعمرياً.... وفي كل الأحوال يبقى يحوط بها بعض الغموض في المعايير المعتمدة لانتقاء العيّنات. الرؤساء الشعبيون قبل العماد لحود، كان الرئيس كميل شمعون رئيساً شعبياً بامتياز، رافقت انتخابه 1952 موجة تأييد عارمة مصدرها نجاح المعارضة البرلمانية للولاية الثانية من عهد بشارة الخوري، المتمركزة حول "الجبهة الإشتراكية الوطنية" كان شمعون وكمال جنبلاط وغسان تويني وإميل البستاني أبرز أركانها ومؤيدة من قوى تمثيلية على الأرض، وأدت إلى إرغام رئيس الجمهورية على الإستقالة من منصبه في 18 أيلول سبتمبر 1952، بعد ثلاثة أيام من الإضراب العام في البلاد. وبعده اتخذ انتخاب الرئيس فؤاد شهاب 1958 مظهراً شعبياً كان المسلمون اللبنانيون وقسم من المسيحيين المعارضين للرئيس السابق قاعدته الأساسية، فأتى التأييد الشعبي لقائد الجيش يومها تفويضاً له لإخراج البلاد من الحرب الأهلية. ثم الرئيس الشعبي الثالث سليمان فرنجية الذي رافقت انتخابه حملة تأييد شعبية لم تخلُ فيها مظاهر الإبتهاج من سحب مسلحين زغرتاويين موالين لفرنجية مسدساتهم في قاعة مجلس النواب نهار جلسة الإنتخاب في 17 آب أغسطس 1970 إحتجاجاً على رفض رئيس البرلمان في ذلك الحين صبري حمادة إعلان فوز نائب زغرتا، بدعوى أن فارق الصوت الواحد الذي تقدّم به على منافسه المرشح الشهابي الياس سركيس لا يوفر له الغالبية القانونية للفوز. وكان فوز فرنجية، في خضم انقسام وطني كبير بين الشهابيين وخصومهم، تعبيراً ليس عن مجرد انتقال السلطة من رئيس الى آخر، بل انتقال البلاد من حقبة الى أخرى تطوي 12 عاماً من الحكم الشهابي. الأمر نفسه مع بشير الجميل 1982 رئيساً شعبياً استقطب قبل انتخابه غالبية الجمهور المسيحي، ليحظى في الايام ال23 التالية بقدر من الشعبية خارج طائفته. وعلى مسافة موازية من هؤلاء جميعاً، يكتسب إميل لحود شعبية مبكرة تسبق انتخابه، مشفوعة بنتائج استطلاعات الرأي العام، في الشهور الثلاثة الأخيرة على الأقل. وبذلك يخلف إميل لحود رئيساً غير شعبي، إتسم عدد كبير من قراراته ومبادراته بطابع غير شعبي، خصوصاً في أوساط المسيحيين لا سيما منهم الموارنة. الامتحان الأول وببساطة، يرث إميل لحود عهداً غير شعبي برمته، مثقلاً بالأزمات الإقتصادية والإجتماعية والخلافات والارتكابات، وبانعدام الثقة بين السلطة والناس، وبطبقة سياسية سيئة السمعة وإدارة موغلة في فسادها. إلا أنه يرث أيضاً من سلفه دولة متماسكة بمؤسساتها الدستورية والسياسية والأمنية، وباتفاقات مع سورية تشكل العضد الفعلي للإستقرار الداخلي. يعني ذلك كله أن تركة العهد المنصرم ملقاة بأوزارها على الرئيس الجديد، بدءاً من الإمتحان الأول: أولى حكومات عهد إميل لحود. وتبعث على هذا التساؤل بضعة مواقف من الإستحقاق الحكومي الجديد. فرئيس مجلس النواب نبيه بري يتحدث عن "معركة حقيقية" على تشكيلة الحكومة الأولى. والمتصلون بالعماد لحود سمعوا أخيراً رد فعله السلبي على أسماء مطروحة للتوزير قيل له أن الحريري يقترحها لدخول حكومته الرابعة، ومن بينها شخصيات عاملة في المؤسسات الخاصة لرئيس الحكومة أو موظفون كبار في الإدارة اللبنانية سمّاهم الحريري نفسه في مناصبهم هذه. وفي المقابل يقول قريبون من قائد الجيش أنه ليس في وارد طلب امتلاك الأقلية الدستورية المعطلة ثلث أعضاء مجلس الوزراء لأسباب تتعلق برفضه المسبق حكومة ينقسم بعضها على البعض الآخر، أو مشتتة الولاءات. وبعيداً عن هذا وذاك يصر بري على تأكيد "الطبيعة الدستورية" لكل حكومة في مرحلة ما بعد الطائف، الحكومة المعبرة عن التوازن السياسي والتمثيلي الوطني في البلاد. أما الحريري فلا يرى بداً من المطالبة سلفاً بحكومة منسجمة تشكل فريق عمل واحداً، يختار هو غالبية أعضائها. مثل هذا الموقف الذي يُلحّ عليه الحريري باستمرار، ولم يتخلّ عنه بُعيد الإعلان عن حسم رئاسة الجمهورية للعماد لحود، سمعه منه من قبل رئيس البرلمان، مقروناً بإصرار الحريري على حكومة يختار أعضاءها بنفسه لقاء محاسبته وحكومته هذه عن أعمالها في مجلس النواب. يضاف الى شدّ الحبال هذا، اعتقاد فريق كبير من الوزراء الحاليين باستمرارهم في مواقعهم في العهد الجديد، من ضمن التصنيف الذي يُلقون به على أنفسهم، على أنهم وزراء ثوابت، حلفاء لدمشق التي لا تتخلّى عنهم. الثوابت المقيدة يعيد ذلك لبّ المشكلة الى حيث ينبغي أن يكون الحل، في دمشق: أي تغيير يُمكن أن يُطلقه الرئيس الجديد في ظلّ ثوابت مُقيّدة له، لم يصادفها - وهو قائد للجيش - في أدق مراحل إعادة بناء المؤسسة العسكرية. حتى إبان الأيام الأولى من تسلّمه قيادة الجيش 1989، سواء بمواجهته عقبات افتعلها له بعض السياسيين اللبنانيين الذين، على غرار ما تمرّسوا عليه في سنوات طويلة، اعترضوا على مناقلات لبعض الضباط لم يؤخذ في خلالها رأي هؤلاء السياسيين، ولا اختير للمناطق التي أخضعت لتلك المناقلات الضباط الموالون لهؤلاء وغالباً من طوائفهم ومذاهبهم. وسواء ب"تمرّد" بعض الضباط ممن عرفوا في سنوات الحرب بعلاقات تعاون وثيقة مع السوريين، فأحجموا عن تنفيذ أوامر القائد الجديد للجيش في مناقلات مماثلة. وحصيلة الأمر، بعدما لاذ بالسوريين من لاذ من هؤلاء، أن أطلقت يد إميل لحود في إعادة بناء المؤسسة العسكرية. وفي الواقع، وعلى ذمة الرواة، فإن الرجل، منذ الأيام الأولى لتسلّمه منصبه الجديد، لم يتردّد في طرح السؤال الآتي على وفد عسكري سوري رفيع المستوى جاءه مهنئاً بتعيينه: "أين تقف حدود سلطتي كقائد للجيش على الجيش؟"، في إشارة صريحة منه الى رغبته في معرفة حدود الدعم الذي يُمكن أن تُوفره له سورية في مهمته. وتالياً رفعها الغطاء الكامل عن بعض الضباط ذوي الصلة بها، شمالاً وبقاعاً، من مرحلة الحرب الأهلية. وفي الدرجة الأولى أيضاً عن بعض السياسيين ذوي التأثير المماثل. جواب الوفد العسكري السوري للحود أن يده طليقة في كل ما يقرّره في إعادة بناء الجيش. وأن "لا غطاء سورياً على أحد في كل ما يتعلق بالمؤسسة العسكرية، أكان سياسياً أو عسكرياً". وفي الواقع هذا ما يود أن يطلبه العماد لحود، بُعيد انتخابه، من الرئيس السوري: إطلاق يده في بناء الدولة اللبنانية... إذا كانت ثمة إرادة في إحداث تغيير ما