من يصنع الرؤساء في الجزائر ومن يضع حداً لولاياتهم؟ يثير هذا السؤال استغراب السلطات الجزائرية التي تعتقد جازمة بأن صناديق الاقتراع هي التي تتيح خروج الرؤساء وهي التي تطوي صفحتهم. ويثير استغراباً إضافياً ايضاً من طرف السلطات نفسها التي ترى ان الجزائر تعيش تجربة ديموقراطية وان هذه التجربة هي التي تسمح بتعدد المرشحين وبفوز واحد منهم. ويثير السؤال نفسه حفيظة المطلعين عن كثب على الشؤون الداخلية الجزائرية، فهؤلاء يعتبرون بداهة ان الجيش هو الذي يقترح المرشحين أو يوحي بهم أو لهم. لأن المرشح الذي يفوز سيحكم مع الجيش وليس ضده أو سيحكم الجيش من خلاله أو معه. وبخلاف الجيوش الحاكمة في عدد من دول العالم الثالث، يبدو الجيش الجزائري اكثر قدرة على التكيف مع المعطيات المحلية والخارجية القاهرة. فهو كان يصنع الرؤساء في عهد الحزب الحاكم الواحد، وهو كان يصنع الرؤساء أيضاً في مرحلة بعد الحزب الواحد، ويواصل صنعهم اليوم في عهد التعددية على الطريقة الجزائرية، وفي كل مرة يعتمد الصيغ المناسبة. ان هذه الإشارة ضرورية لفهم التطورات التي تشهدها الجزائر هذه الأيام، وبالتالي لإلقاء الأضواء على الحملة الانتخابية الرئاسية التي انطلقت بقوة بعد الإعلان عن ترشيح عدد من الشخصيات المهمة، بل التاريخية واندفاعها لتصدر واجهة المسرح السياسي مثل عبدالعزيز بوتفليقة وأحمد طالب الابراهيمي ومولود حمروش وسيد أحمد غزالي ومحفوظ نحناح. إن العلاقة بين الجيش الجزائري وحملة الانتخابات الرئاسية لا يمكن احاطتها بغيوم كثيفة، كما كان الحال أيام حكم الحزب الواحد جبهة التحرير الوطني. لا بل يعمد بعض القادة العسكريين النافذين سواء ممن يتولون مسؤوليات حالية أو سابقة، الى التدخل لدى المرشحين واحياناً بقدر أقل من التحفظ المعهود. وهكذا انتشر بسهولة لافتة خبر اللقاء الذي عقد بين السيد أحمد طالب الابراهيمي والجنرال خالد نزار وزير الدفاع السابق، في باريس أواخر العام الماضي، وتلته لقاءات عقدها الابراهيمي مع مسؤولين رسميين فرنسيين لم ترشح معلومات كثيرة عنها لكنها دارت حول الشؤون الرئاسية الجزائرية. ويعتبر الإبراهيمي من أبرز المرشحين لرئاسة الجمهورية خلفاً للرئيس اليمين زروال. وترشيحه لا يعكس بالضرورة إرادة الجنرال خالد نزار المعروف بأنه من أشد المناهضين للمتطرفين في الجزائر، لكنه يعكس في كل الحالات إرادة حقيقية لدى العسكريين الجزائريين في جعل الاستحقاق الرئاسي، استحقاقاً ديموقراطياً على الطريقة الأوروبية أقله من حيث الشكل والأسلوب. والاستحقاق الديموقراطي على الطريقة الأوروبية يفترض تعدد المرشحين وتعدد حساسياتهم السياسية لذا يمكن لهذا الاستحقاق أن يستوعب مرشحاً مخلصاً للنظام مثل الابراهيمي وقادراً في الوقت نفسه على تأطير أصوات "الجبهة الاسلامية للانقاذ" المنحلة التي لا تثق كثيراً بالشيخ محفوظ نحناح مرشح "الإخوان المسلمين" والمنافس الأبرز للرئيس اليمين زروال في انتخابات العام 1995. وإذا صحت المعلومات عن تشجيع الجنرال نزار لترشيح الابراهيمي فإن هذا الترشيح من شأنه ان يشتت الأصوات الاسلامية البالغة حوالي 3 ملايين صوت، وان يؤدي الى تحجيم نحناح الذي نال حوالي 30 في المئة من الأصوات في العام 1995 وبالتالي تحجيم دوره في الحكومات المقبلة، وفي الوقت نفسه ضبط الصوت "الجبهوي" الانقاذي في قناة الابراهيمي التقليدية. لكن الجيش الجزائري لا يهتم فقط بالصوت الاسلامي، فهناك أيضاً أصوات لا تقل شأناً واهمية من ضمنها كتلة "جبهة التحرير الوطني" التي أيدت بجناحها الرسمي ممثلاً بالسيد بوعلام بن حمودة ترشيخ السيد عبدالعزيز بوتفليقة في حين تتوزع عواطف جناحها غير الرسمي والمعارض بين الابراهيمي ومولود حمروش رئيس الوزراء الاصلاحي السابق الذي منح "الجبهة الاسلامية للانقاذ" حق العمل الشرعي عندما كان رئيساً للحكومة من أيلول سبتمبر 1989 الى حزيران يونيو 1991. ومن الطبيعي ان تتعدد اهتمامات العسكريين الجزائريين بتعدد الكتل التمثيلية في البلاد، فالكتلة العلمانية والقبائلية يمكن ان تكون أكثر قرباً من رئيس الوزراء السابق السيد سيد أحمد غزالي الذي اشرف على انتخابات العام 1991 واكد انه يريدها "نظيفة" وانه سيقبل بنتائجها إلا انه عدل عن ذلك عندما فازت بها "الجبهة الاسلامية للانقاذ" وأعلن تعليق الانتخابات. وكان الجنرال خالد نزار وزيراً للدفاع في حكومته، كما كان وزيراً للدفاع في حكومة سلفه مولود حمروش. ولا تحتاج السلطات العليا الى اثباتات اضافية على حسن نيات سيد أحمد غزالي، فهو صرح مراراً في فترة 1991 - 1992 انه "متضامن مع الجيش" ولا يحمله مسؤولية الأخطار التي ارتكبت في البلاد، لأن هذه الاخطاء "يتحمل مسؤوليتها السياسيون" أما الجيش فهو "حاجز في مواجهة العنف وليس جيش انقلابات". وهو ايضاً "حامي المؤسسات والساهر على حسن أدائها وعلى أمن المواطنين" والكلام دائماً للسيد غزالي الذي أعلن ترشيحه للانتخابات الرئاسية بواسطة "مقربين منه، وأكد ان حظوظه كبيرة اذا ما توافرت الظروف الموضوعية المناسبة للاقتراع". وبين حمروش الاصلاحي والمعتدل وأحد زعماء المعارضة في جبهة التحرير الوطني، وأحمد طالب الإبراهيمي الوجه القومي والديني المعروف وأحد قادة التحرير الكبار، وسيد أحمد غزالي التكنوقراطي اللامع في عهد بومدين والشيخ محفوظ نحناح صاحب مقولة "الشوراقراطية" أي حاصل الجمع بين الشورى والديموقراطية، والذي كان على الدوام حجر الزاوية في الصيغ السياسية التي اعتمدتها السلطة الجزائرية خلال الحرب الأهلية، بين هؤلاء جميعاً يبدو بوتفليقة المرشح الأكثر قدرة على الاستئثار بعواطف القادة العسكريين في هذه المرحلة والذي يمكن ان تتوافر فيه شروط الخلافة المرسومة لعهد الجنرال زروال. لكن قبل الإشارة الى هذه الشروط والى فرص بوتفليقة في الخلافة لا بد من التوقف قليلاً عند مواصفات الحملة الرئاسية وارتسام خريطة المرشحين بصورة شبه نهائية. ان ما يمكن ملاحظته في هذا المجال هو ان الطابع الغالب للمرشحين يكمن في انتمائهم عموماً باستثناء نحناح الى عهد الرئيس الراحل هواري بومدين، فهم كانوا من أركان النظام البومديني وبعضهم أقصي بطريقة غير لائقة في عهد الرئيس السابق الشاذلي بن جديد. وفي طليعة الذين تعرضوا للاقصاء السيد بوتفليقة الذي كان مرشحاً قوياً لخلافة بومدين وهو وزير خارجيته خلال 14 سنة 1964 - 1978 وكان التنافس حاداً بينه وبين بن جديد، إلا ان إرادة العسكريين غلبت العسكري، على وزير الخارجية المحنك والخبير في الشؤون الدولية، وقيل يومها ان كتلة الشرق الطاغية في الجيش الجزائري انحازت لمصلحة عسكري من الشرق ولم تحبذ بوتفليقة الذي ينتمي الى منطقة محاذية للمغرب الأقصى. ويقال ان أصوله العائلية البعيدة من مدينة وجدة المغربية. ومع بوتفليقة استبعدت وجوه بومدينية كثيرة مثل محمد صالح يحياوي وهو ليس مرشحاً للانتخابات، لكنه من المؤيدين لبوتفليقة وسيد أحمد غزالي. أما مولود حمروش الذي عمل مع بن جديد بإخلاص فهو من جيل شاب ولم يكن منخرطاً تماماً في الصراعات بين أجنحة نظام بومدين. من الغرب وإذا كان المقصيون يُحملّون بن جديد مسؤولية ما أصاب الجزائر من ويلات ويعتبرون انه وجه ضربات قاصمة للنظام البومديني، وإذا كانوا يعتبرون انه يتحمل مسؤولية مباشرة عن انبثاق "الجبهة الاسلامية للانقاذ" وعما جرى من بعد وينسبون إليه الرغبة في التعاون مع "الانقاذ" ويأخذون عليه تنحيه عن الحكم بطريق مثيرة، فإنهم في المقابل كانوا مجبرين على لعب أدوار سريعة في فترة ما بعد بن جديد ومجاراة المعطيات القاهرة التي عرضتها الحرب الأهلية، باستثناء بوتفليقة الذي ضرب الرقم القياسي في التزام الصمت حوالي عقد من الزمن. كان يمكن لبوتفليقة 61 عاماً ان يكسر صمته مرة واحدة في العام 1995 عندما طرح اسمه بصورة جدية كمنافس لزروال، لكنه رفض المنافسة، ربما لاعتقاده بأن كتلة الشرق العسكرية لا يمكن ان تنحاز لمرشح من الغرب وتتخلى عن جنرال من "باتنة" معقل الجنرالات الجزائريين الشرقيين، خصوصاً ان الكتلة نفسها لم تغلب بوتفليقة من قبل على بن جديد ابن الشرق على رغم كونه الضابط غير البارز بين المرشحين لأنه الأكبر سناً بين الجنرالات "الشرقيين". إلا ان الظروف الانتخابية الحالية تختلف تماماً عن الظروف السابقة، فالعسكريون يغلبون عدداً من الأولويات من بينها: 1- تثبيت التداول الانتخابي في رئاسة الجمهورية وبالتالي التعامل مع الاستحقاق الرئاسي بصورة جدية واللجوء الى صناديق الاقتراع، أما التحكم بالكتل التمثيلية للناخبين فمسألة تندرج في الاستحقاق نفسه وعلى الطريقة الجزائرية، ولم يعد بوسع القابضين على الوضع اختيار مرشح واحد وحشر أصوات الناخبين كلهم في خانته. 2- أدرك الحاكمون الفعليون ان التيار الأصولي ينهض في الجزائر بعد ضرب الصيغة البومدينية القومية - الدينية التي حطمها بن جديد من دون ان يكون لديه الوقت الكافي لتثبت صيغة بديلة لها وقابلة للحياة، وفي هذا الوقت الضائع والانتقالي نهض المتطرفون واحتلوا المسرح السياسي ليشكلوا تحدياً جدياً لكل السلطات، وفي طليعتها الجيش. والراجح ان العسكريين الذين تمكنوا من تحجيم التيار المسلح ومن إلحاق ضربات قوية بالجبهة الاسلامية للانقاذ وحملها على التخلي عن العمل المسلح، يدركون ان ذلك كله على رغم اهميته، لا يكفي لوضع حد للأزمة الجزائرية، وبالتالي لا بد من اعادة الاعتبار لبعض المفاهيم البومدينية في الحكم ومن ضمنها النزعة الوطنية معطوفة على اسلام محلي والتمتع بأخلاق حكم مناهضة للفساد وعرض الثروات في الشوارع أمام الجياع والفقراء. 3- أدرك الحاكمون الفعليون ان اختيار عسكري للرئاسة لم يكن موفقاً لا في عهد بن جديد ولا في عهد زروال، ففي الحالتين كانت شؤون الحكم تتداخل مباشرة مع شؤون المؤسسة العسكرية، وفي الحالتين كان تنحي الرئيس يتم بطريقة دراماتيكية، لذا يُرجح ان يكونوا قد حسموا أمرهم في اختيار رئيس مدني يحكم مع الجيش، ولا يكون طرفاً مع تيار أو ضده. 4- لم تعد اسطورة B.T.S أي باتنة وتبسة وسوق أحراس تنطبق على واقع السلطة في الجزائر والنفوذ في البلاد، فالسلطة في الجيش والاقتصاد والسياسة لم تعد حكراً على هذا المثلث على رغم احتفاظه بمحاور مهمة في مراكز القرار. وعليه لم يعد اختيار رئيس من الشرق أو من المثلث المذكور أمراً طبيعياً ويمر من دون صعوبة، خصوصاً ان التمرد الاسلامي يتم في مناطق الوسط والغرب أساساً وهي مناطق مهمشة الى حد ما بالقياس الى مناطق الشرق، لذا يرى بعضهم ان اختيار بوتفليقة للرئاسة الأولى يمكن ان ينسجم مع المعطيات الحالية المستجدة. 5- انطوت الجزائر خلال سنوات الحرب الأهلية الماضية على نفسها، فلم تطل على الخارج إلا عبر المجازر بعدما كانت ديبلوماسيتها قادرة في احدى الفترات على لعب أدوار في غاية الأهمية في الأزمات الدولية، وكانت السياسة الخارجية مصدر فخر للجزائريين، ويعتقد بأن السلطة بصدد إعادة احياء السياسة الخارجية الجزائرية. 6- لقد برهنت السنوات الماضية ان القادة العسكريين الجزائريين تصدروا واجهة الاحداث عندما كانت الحرب سيدة الموقف في البلاد، وتعامل العالم معهم على أساس انهم المسؤولون الحقيقيون عن شؤون الحرب والسلام والمكلفون بالاصلاحات والذين يفصلون في الشؤون الاقتصادية والسياسية والعسكرية معاً، وهذا الدور لا يتناسب مع مزاج العالم الخارجي والمؤسسات الدولية التي تفضل التعامل مع المدنيين في الشؤون الاقتصادية والاجتماعية، لذا يعتقد بأن انسحاب الجيش وراء الستار بات ضرورياً، بل ان مصلحة العسكريين الفعلية هي التشارك مع المدنيين في تولي الشؤون العامة. في ظل هذه الأولويات يبدو بوتفليقة يتمتع بالقسم الأكبر من المواصفات التي تنطبق على صورة المرشح الأقرب الى عواطف وعقول الجنرالات في هذه المرحلة. فهو مدني ولا ينتمي الى B.T.S، لكنه من المجاهدين الأوائل في صفوف الثورة الجزائرية، وهو بومديني شارك في اطاحة الرئيس أحمد بن بله، وهو الشخصية الجزائرية الأكثر خبرة بالشؤون الدولية، وقد خبره معظم القادة العسكريين في كل العهود، والمدني الوحيد الذي يحظى بتأييد الجنرال العربي بلخير المعروف بأنه أحد الذين يصنعون الرؤساء في الجزائر، فكيف اذا كان يقف الى جانبه ايضاً الهادي الخضيري والجناح الرسمي في "جبهة التحرير" وجناح كبير في "حركة النهضة الاسلامية" وبعض قدامى جبهة الانقاذ والعديد من شخصيات الحزب الحاكم التجمع الوطني الديموقراطي حيث يتردد بأن بوتفليقة وعد قيادة الحزب بعدم حل البرلمان اذا ما انتخب رئيساً علماً بأن الغالبية البرلمانية تعود الى الحزب نفسه. ومن النادر في الجزائر ان يجمع مرشح للرئاسة حول شخصه كل هذه المؤشرات دفعة واحدة، وان يفشل في استحقاق انتخابي، لذا لن يطول الوقت قبل ن ترتسم صورة بوتفليقة على شاشات التلفزيون كثاني رئيس للبلاد في الجمهورية الثانية... إلا إذا حدثت المفاجأة واثبت الحاكمون الفعليون، خلافاً لكل اعتقاد، أنهم يريدون الديموقراطية ولا شيء غيرها. لكن هل يرمز اختيار بوتفليقة رئيساً للجمهورية الى التغيير المطلوب في الجزائر؟ وهل يلبي طموحات الجيل الشاب، وهل يشكل رهاناً على المستقبل؟ أغلب الظن ان هذه الأسئلة تعتبر في الجزائر من الكماليات، لأن الأولوية بالنسبة الى الحاكمين الفعليين هي الخروج من الحرب، وبعد ذلك لكل حاديث حديث!.