اذا نجح احمد طالب الابراهيمي في الانتخابات واصبح رئيساً للجمهورية فذلك يعني دخول الجزائر مرحلة جديدة قد تتوج بمصالحة شاملة يعزل فيها الاستئصاليون والمتطرفون الاسلاميون على حد سواء. ويُعتبر الابراهيمي الورقة الاخيرة التي يمكن ان تستخدمها قيادة الجيش في حال قرارها اعادة الاعتبار للجبهة الاسلامية للانقاذ والسماح لها بالنشاط السياسي من جديد. هناك مجموعة مؤشرات واضحة يمكنها ان تؤكد هذا التحليل. لقد سبق للابراهيمي ان صرح لصحيفة "الخبر" الجزائرية في 6 شباط فبراير 1999 بأن "ما يجري على هذه الارض الطاهرة من محن، ستكون له نهاية ان عاجلا ام آجلاً، فقد مرت دول اخرى، تعتبر اليوم من اقوى الدول في العالم بظروف اصعب وأقسى مما تجتازه الجزائر، لكنها خرجت منها بسلام لأن ابناءها اقتنعوا بأنه لا بديل عن التعايش والتفاهم والتغلب على الأحقاد". قد يكون القول بأن احمد طالب الابراهيمي، مثله مثل مولود حمروش، ابن للنظام، قولاً غير منطقي. لكن الامر ليس كذلك، فهذا المرشح عمل في اجهزة الدولة لمدة ربع قرن واطلع على خبايا النظام، وبالضرورة كانت له علاقة متشابكة مع المؤسسة العسكرية، فالابراهيمي لا يعارض من خارج النظام وانما من داخله. لا يمكن مقارنته بمدني او جاب الله او نحناح. فهذه النخب الاسلامية جاءت من خارج الشرعية الثورية التاريخية، وأحد اسباب رفضها ان النخب القديمة لا تسمح بسهولة للجيل الجديد او الخارج عن مرجعيتها من التموقع في اجهزة الدولة. قدم اسمه اكثر من مرة لرئاسة الدولة بتزكية من الجيش نفسه. ولكن يبدو ان الخيار استقر على ان يكون آخر ورقة تلعبها المؤسسة العسكرية في حال خضوعها لفترة انتقالية، تتنازل بموجبها عن كثير من صلاحياتها لمصلحة الحركة الاسلامية الفتية. يعترف الابراهيمي بشكل غير مباشر بمثل هذه الاتصالات مع الجيش. سألته صحيفة "ليبرتيه"، مثلا 8 شباط 99: حسب بعض المعلومات، طلبت منك المؤسسة العسكرية في سنة 1992 ان تخلف في رئاسة الدولة محمد بوضياف بعد ان تم اغتياله، فما كان منك الا رفض هذا العرض. فلماذا رفضت في تلك الفترة ما تريد الوصول اليه اليوم اي رئاسة الدولة؟. اجاب الابراهيمي: "الحقيقة تختلف شيئا ما عما ذكرته. ليس ذلك ما حدث بالضبط. ففي الواقع حدث اتصال بيني وبين وزير الدفاع في تلك الفترة خالد نزار لتبادل الآراء. ولكن لم نتفق، فأنا كنت ادافع على ضرورة الحوار وعدم اللجوء الى الصدام". في كل الاحوال، وبقطع النظر عن ما حدث بالتحديد، توجد علاقة مباشرة بينه وبين قيادة الجيش فلا يعد غريباً عن النظام او خارجاً عنه او متمرداً عليه كما الحال مع الاسلام الاحتجاجي العنيف الذي تمثله الجبهة الاسلامية للانقاذ وتفرعاتها. لذلك يعني وصوله الى الرئاسة ان مشروعا سياسيا جديدا سيحدث قطيعة عميقة مع محاولات الماضي الفاشلة للخروج من الأزمة. ايديولوجيا، يمثل احمد طالب الابراهيمي الدائرة التي تجمع الاتجاه الوطني المتجذر في جبهة التحرير الوطني مع وجود نزعة اسلامية واضحة. وما يميزه عن غيره من المرشحين الذين تكونوا داخل النظام الجزائري هو طبيعة رؤيته للحركة الاسلامية التي تمثلها الجبهة الاسلامية للانقاذ، ان هذه النزعة الاسلامية الوطنية تجد جذورها في تاريخ اسرته، فهو ابن الشيخ بشير الابراهيمي رئيس حركة جمعية العلماء وصديق عبدالحميد بن باديس مؤسس الحركة. كما تتميز مسيرته السياسية بنضاله المبكر وتعلقه بالعمل الفكري والثقافي. ولد الابراهيمي سنة 1932 بمدينة سطيف، درس الطب في جامعة الجزائر ثم انتقل الى باريس ليحصل على الدكتوراه في نفس الاختصاص، ناضل في صفوف فيدرالية جبهة التحرير الوطني بفرنسا حيث انتخب عضوا في قيادتها. اعتقلته السلطات الفرنسية من سنة 1957 الى سنة 1961. بعد اطلاق سراحه، عين في السنة نفسها عضوا في بعثة الحكومة الموقتة للجمهورية الجزائرية في دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، لم يتفق مع توجه بن بله فعارضه ما أدى الى سجنه من 1964 الى 1965. عين منذ انقلاب بومدين وزيرا للتربية حتى سنة 1970 وتمكن في هذه الفترة من تنفيذ سياسة التعريب التدريجي. ثم شغل منصب وزير للاعلام والثقافة من سنة 1970 حتى 1977، وفي 1982 عين وزيرا للخارجية حتى شهر تشرين الثاني نوفمبر 1998. مارس سياسة الانفتاح على الغرب والحد من اندفاع الجزائر نحو الكتلة الشيوعية. يعتبر عضواً بارزاً في جبهة التحرير الوطني حيث شارك بكثافة في اجتماعاتها ومناقشاتها منذ اندلاع ازمة 1993. يعد من المثقفين البارزين لدى النخبة السياسية الجزائرية المخضرمة، اذ صدرت له بعض الكتب بالعربية والفرنسية. وهو عضو في كل من مجمع اللغة العربية في دمشق ومجمع اللغة العربية في القاهرة والأكاديمية الملكية في الأردن، ومؤسس "المجلة الجزائرية للعلاقات الدولية". فما يميزه عن بقية المرشحين هو ثقافته الواسعة وإتقانه المثير للاعجاب للغتين العربية والفرنسية. اما من الناحية السياسية فتميز، منذ انفجار ازمة 1992، برفضه تدخل الجيش وإلغاء انتخابات، ونشط في لجنة شكلت وطالبت باطلاق سراح الشيخين مدني وبلحاج. يمثل التيار الاسلامي داخل جبهة التحرير الوطني التي لم يترك صفوفها ابدا، يسانده في توجهه الرئيس السابق للبرلمان الجزائري في اواخر عهد بن جديد، عبدالعزيز بلخادم، وكذلك الأمين العام لجبهة التحرير السابق عبدالحميد مهري. يعتمد في خوضه الانتخابات على التيار الاسلامي الوطني، وخصوصا الانصار السابقين للجبهة الاسلامية للانقاذ. صرح لصحيفة "ليبرتيه" يوم 8 شباط 1999 بأنه يقبل بسرور اصوات الاسلاميين، وردد بأن على الجيش الوطني الشعبي ان يلتزم الحياد وان لا يتدخل في الصراعات القائمة، وان يأخذ بعين الاعتبار التطلعات المشروعة للشعب الجزائري الذي يود ان يُحكم ديموقراطياً". الابراهيمي يدرك ان التجربة الانتخابية الجزائرية اكدت ان الاحزاب لا تحرك ولا تتحكم كلياً في انصارها وقواعدها. فحزب محفوظ نحناح مثلا لم يربح شيئا في الانتخابات التي سبقت حل "الفيس"، لكنه قفز بشكل سريع جدا في الانتخابات التي حدثت دون مشاركة الجبهة المنحلة. هذا التحول يؤكد وجود احتياط ضخم من الناخبين المفتونين بأي خطاب اسلامي غير المنتمين لأي من الاحزاب القائمة. وهو الرصيد الذي سيرجح كفة واحد من المرشحين، ومن المرجح ان يتجه نحو احمد طالب الابراهيمي، خصوصا ان قيادات من "الفيس" مفرج عنها، مثل عبدالقادر حشاني، اعلنت صراحة دعمها له ونشطت في جمع التوقيعات لتزكيته. انتج ترشح الابراهيمي ردود فعل عنيفة من جانب "العائلة الديموقراطية" خصوصا العلمانية والشيوعيين ممثلين في اتجاه الهاشمي الشريف، التروتسكية لويزة حنون مقربة من الابراهيمي ومن المفترض ان تنشط لمصلحته وبعض تقنيي النظام الليبراليين مثل سيد احمد غزالي والجمعيات المستقلة مثل جمعية "جزائرنا" والصحافيين المقربين من بعض الدوائر الاستئصالية في الجيش. هذه المجموعات تشكل في اطار تحالف غير معلن يستهدف محاربة وصول الابراهيمي للرئاسة. وقامت بشن، وهي ما زالت تشن، هجوما شديدا على جميع المستويات وصل الى حد اتهامه بالتآمر مع احزاب اخرى وقيادة الجيش من اجل اعادة ترتيب الوضع السياسي في الجزائر. بدأت هذه الحملة منذ ان صرح الابراهيمي لصحيفة "لوموند" الفرنسية يوم الجمعة 5 شباط الماضي عن امكانية اصدار عفو عام في حال نجاحه، واجهته جمعية "جزائرنا" ببيان شديد اللهجة 8 شباط 99 قالت فيه بأنه نداء للتمرد وتحريض على العنف لأن الصرخات الشاكية للآلاف من ابنائنا … المحتضرين تحت سكاكين الأغوال الذين يريد العفو عنهم سوف تبقى تتردد لمدة طويلة في اذهاننا وتدفعنا، بالتالي، الى استعمال كل الوسائل لافشال مثل هذه الخيانة". كما وصفت الجمعية احمد طالب الابراهيمي بپ"القائد الروحي للأصولية الاسلامية"، وأكدت ان العودة الى الاستقرار مشروط بالتطبيق الصارم لقوانين الجمهورية ومحاكمة الجرائم ضد الانسانية للارهابيين الاسلاميين ومدبريهم". وفي السياق وجه احد صحافيي "الخبر" شريف رزقي: مدير الصحيفة السابق بدوره نقدا لاذعاً للابراهيمي في مقال عنوانه "احمد طالب الابراهيمي يكشف عن اوراقه: دعوة صريحة للاستسلام". ورد فيه: "ولئن اوضح المرشح ذو الهندام "الأنيق"، الذي شرع مبكرا في رحلة استمالة قاعدة الحزب المحظور، ان مثل "هذا القرار لا يمكنه ان يترك اي حالة دون عقاب"، ويتطلب "الرضى العقلاني للرأي العام"، فان مثل هذا الانحراف الخطير يفتح الباب على مصراعيه امام حملة انتخابية قد تغيب فيها أدنى اخلاقيات السياسة، وتعرض البلاد لمصير مفتوح على كل الاحتمالات… لنا ان نتمنى ان تكون وصفة احمد طالب الابراهيمي مجرد فعل معزول وليس استراتيجية تتقاسمها دوائر في السلطة او مرشحون آخرون". "الخبر" 7 شباط 99". كما انتقد الهاشمي الشريف رئيس الحركة الديموقراطية الاجتماعية شيوعية علمانية الابراهيمي بشدة واعتبر ان "الرئاسيات المقبلة تخدم التيار الاسلامي والمافيا السياسية قصد اقتسام الريع على حساب المواطنين واستمرار التأزم السياسي والأمني". اما اكبر هجوم تعرض له فجاء من سيد احمد غزالي المرشح الذي لم يقبل المجلس الدستوري ملفه. فقد اتهمه بحبك مؤامرة واسعة هدفها "اعادة بعث الاصولية في وجهها الانساني". ويتهم غزالي الابراهيمي بكونه "مرشح الاجماع او مرشح الاصولية ذات الوجه الانساني". ويشك غزالي في ان الضجة المثارة حول بوتفليقة "مفتعلة والهدف منها اخفاء سيناريو آخر قد يكون هو الأصح. ويتساءل رئيس الحكومة السابق: "هل نحن نعيش جولة ثالثة من مسلسل سانت ايجيديو دون علمنا؟ ام ان قطار مرشح الحق الإلهي بوتفليقة لم يكن في الحقيقة مبرمجاً الا لإخفاء قطار المرشح الحقيقي، مرشح الاجماع، الذي يحتمل جدا ان يكون مرشح الأصولية في وجه انساني… وفي هذه الحال تكون كل الضجة التي قمنا بها غرضها الاتيان بطالب الابراهيمي" "الخبر" 11 اذار/ مارس 99. بعد هذه الحملة يصبح احمد طالب الابراهيمي ثاني مرشح يتعرض الى مثل هذا الجدل السياسي العنيف بين مؤيد ومعارض، وهو ما يمكننا من الاستنتاج ان هذه الانتخابات ستنحصر في النهاية بين شخصيتين بوتفليقه/ الابراهيمي. كلاهما عضو في جبهة التحرير الوطني، وهما صديقان قديمان للراحل هواري بومدين، مرتبطان بعلاقة مركبة ومعقدة مع قيادة المؤسسة العسكرية، ينزعان نزعة عربية صريحة. اما ما يفرقهما فيكمن في اصولهما الفكرية الايديولوجية. فبوتفليقة وطني ليبرالي، اما الابراهيمي فهو وطني اسلامي. نجاح الأول سيعطي زخماً جديداً للحياة السياسية قد يتوج بالافراج عن الشيخين مدني وبلحاج وايجاد صيغة للتعامل مع الجبهة الاسلامية للانقاذ. اما نجاح الثاني، فسيحقق النتائج نفسها لكن، مع دفعها الى اقصى مدى ممكن قد يصل الى مشاركة بعض عناصر "الفيس" في الحكم بعد ان انهي دور "حمس" وزعيمها محفوظ نحناح! * كاتب تونسي مقيم في جنيف.