ما همّ "مهرجان ادنبره الجانبي" إن تواصل النقاش المزمن عما اذا كان ثمة علاقة بين الفن والواقع ام ان الفن معني بنفسه وحسب؟ فأضخم تظاهرة للعروض المسرحية والفنية في العالم قررت ان تسحب البساط من تحت نظريات "الفن للفن" وتفتح الباب على مصراعيه للواقع كي يطل بكل قسوته وفجاجته في عدد من العروض. وسواء كانت المحاولة مقنعة ام لا، فالأكيد انها استقطبت اهتماماً واسعاً، مع انها لا تتعدى الحفنة ضمن 1300 عرض قدمها عشرة آلاف ممثل وعازف وراقص في الدورة الثانية والخمسين للمهرجان الجانبي. هذه النزعة "الواقعية" بامتياز تجلت في مسرحية "جندي" التي قُدمت على مسرح "ترافيرس"، احد اهم منابر المهرجان الجانبي. وكانت المسرحية، التي اخرجها جون ويلر، حدث الساعة في العاصمة الاسكتلندية لأيام عدة. اذ ان ويلر حاول ان يستخلص بعض دروس الواقع عبر ممثلين غير محترفين من دون الاتكاء على الفن العالي فأحرق هذا الواقع الفج مسرحيته. واضطر ان يسدل الستار عليها حين انكشف امر علاقة بطله نيكولاس غلاسنوفيتش بميليشيا "مجلس الدفاع الكرواتي" المتهمة بارتكاب جرائم التطهير العرقي ضد مسلمي البوسنة. وهكذا ارتكب المخرج غلطة قاتلة في سياق بحثه القديم عبر فرقة "مشروع غراسماركت" المسرحية، عن رؤى جديدة عفوية لتجارب شتى يقدمها اصحابها من دون توسط الادوات التمثيلية "الزائفة". وراوغه النجاح الذي كان من نصيب عروض سابقة له حازت خمسة منها جوائز المهرجان الجانبي. لكن رغبته باستكشاف "تجربة الحرب والجندي الذي يرتكب جريمة القتل باسم القومية ... او لأنه يجد متعة في القتل" والغوص في العالم السايكولوجي لهؤلاء "القتلة" جديرة بالاهتمام. وكذلك الأسئلة التي تثيرها تجربته كلها. فهل حقاً يتيح العمل مع ممثلين غير محترفين رسم صورة نضرة لهذه التجربة او تلك، ام انه لن يثمر سوى نسخة من نسخ عدة للصورة الواقعية ذاتها؟ ثمة آراء تقول ان الفن عاجز عن القبض على الحياة بحركتها وتعقيداتها كلها، مهما حاول الالتصاق بها بقصد التعرف عليها بصورة افضل. واللافت ان التقاط التجربة حتى في عمل فني تسجيلي لا يتم بالضرورة بمزيد من الاقتراب من الواقع، بل بالابتعاد عنه احياناً. هكذا قرر الاسرائيلي رون خابيليو ان يولف الحاضر بالماضي والملموس بالمجرد والخاص مع العام في فيلمه الوثائقي "أشلاء - القدس" في الشريط البانورامي الطويل للغاية 6 ساعات، يتحرى المخرج حياته عبر حياة القدس وتاريخها في اسلوب لا يخلو من الشاعرية. ويرسم بذكاء، وقدرة واضحة على ضبط النفس، صورة الآخر العربي سواء كان جندياً اردنياً اطلق النار على "مجنون" اسرائيلي قاده حظه العاثر الى المنطقة المنزوعة السلاح بين شطري القدسالمحتلة قبل النكسة، او كان فلسطينياً عبر عن تذمره خلال الانتفاضة، او اعداء قصفوا بمدافعهم المدينة ومقابر ابنائها اليهود. ورون كان مصوراً قبل ان يتحول مخرجاً ويعمل لعشر سنوات على شريطه الطويل. ولذا توافرت لديه الخبرة التقنية، فضلاً عن الموهبة، فحرك الكاميرا على نحو حاذق والتقط صوراً مليئة بايحاءات لم يبلغها السرد الذي أداه المخرج بصوته. وكان الكلام "العنيف" مقنعاً، اذ قلما ورد ذكر "الارهاب". وكان "التطرف" والفوضى، او التخلف اذا شئت، من العلامات الفارقة للعرب الذين ظلوا صامتين، اجمالاً، في الجزء الأول! وأعاد المخرج، الذي كان والده ضابطاً في الموساد وديبلوماسياً سابقاً، على مسامعنا قصة "الاحتلالات" التي تعرضت لها القدس، وأشار بغير وسيلة الى الجذور العميقة لليهود "اصحابها" هكذا بكل بساطة شوه الحقائق التاريخية، كأنما ليس للفلسطينيين جذور في المدينة المقدسة. اما الشريط الوثائقي "الطلاق على الطريقة الايرانية" الذين وقعته البريطانية كيم لونغينوتو والايرانية زيبامير حسيني فخطف الضوء من الفيلمين الايرانيين "رقصة التراب" اخراج ابو الفضل جليلي و"ولادة فراشة" اخراج مجتبى رائي. ولعل نجاح الفيلم الوثائقي لا يعود فقط الى براعاته التسجيلية و"صدق" شخوصه العاديين الذين لا يختلفون عن اولئك الذين أدوا فيلم "اشلاء" او مسرحية "الجندي" من حيث افتقارهم إلى التجربة التمثيلية. والأغلب ان قسطاً كبيراً من هذا النجاح عائد لموضوعية الكاميرا وقدرتها على الابتعاد ايحائياً عن المحكمة والازواج الذين مثلوا امام القاضي الشرعي للبت في قضايا طلاقهم. هكذا لا تبدو المرأة مظلومة دائماً، على رغم ان هناك الكثير مما يجعل المشاهد الغربي، خصوصاً، يعتبرها ضحية. بعضهن قادرات على التصرف بخبث ومعاقبة ازواجهن، كما فعلت جميلة. ويضع الفيلم قضايا الشرف والرجولة والاخلاق، وحتى البيروقراطية في المجتمع الشرقي، تحت المجهر عبر مشاهد يفيض بعضها بالسخرية المرة او الطرافة. وعندما ينتهي الفيلم تبقى في البال صورة مريم وصغيرتها الممزقة بين الأم والأب الذي طلقها، وزيبا "الطفلة" التي تحاول التخلص من زوجها الكبير نسبياً. الى جانب كل هذا يرتسم في المخيلة وجه ابنة سكرتيرة المحكمة المليئة بالفرح في عالم كئيب، وشكل القاضي الذي يبدو مغلوباً على امره هدّه التعب... او البساطة! وإذا غلبت الواقعية التسجيلية على باقة من عروض المهرجان الجانبي فالتظاهرة التي رحبت على عادتها بشتى أشكال التعبير الفني، ضمت عروضاً واقعية بطريقة مختلفة. وفي مقدمة المسرحيات التي اكتفت بجرعة متواضعة من الواقعية كان عرض "هل من أحد يحنو عليّ؟" الذي اخرجه الشاب المصري الأصل خالد عبدالله، واستمد نصه الايرلندي المعروف فرانك ماكفينيس من تجارب الرهائن الغربيين في بيروت. شخوص المسرحية الثلاثة: ايرلندي وأميركي وبريطاني يطلقون العنان أول الأمر لمواهبهم التمثيلية وقدراتهم على التظاهر، لكن سرعان ما تسقط الأقنعة ويتكشف الألم والضعف العاريان ضمن جدران الزنزانة الأربعة التي لا يبرحها الأسرى. ليس ثمة أحداث من النوع التقليدي، فنحن أمام رهائن يخلعون شيئاً فشيئاً صفاتهم وانتماءاتهم في حوارات ووقفات استعادية مع النفس. لا نرى السجانين ولا نسمعهم، وان كنا نشفق عليهم في نهاية المطاف، لأنهم في قبضة أسر من نوع مختلف. ونأسف للأسرى، كما نحترمهم لأنهم لم يخلطوا بين السجان وثقافته، بل عبروا عن احترام عميق للاسلام وقدرة على الاعتراف بجمال حضارته وانسانه. لكن اذا خلص كاتب هذه السطور الى هذه النتيجة، فقد لا يشاركه الرأي مشاهد أجنبي له خلفية أخرى، خصوصاً أن المسرحية تفسح في المجال لتفسيرات عدة. وإذا كانت كيفية استقبال العرض غير واضحة، فالأكيد انه لقي اقبالاً كبيراً ربما كان سره كامناً في الفنية العالية والابتعاد عن المباشرة. وعدا عرض "فانيك" للرئيس التشيخي والمسرحي فاسلاف هافل، الذي يسلط الضوء على عقم البيروقراطية الشيوعية السابقة في بلاده وفسادها، حضر هتلر مرة أخرى من خلال مسرحية "ادولف". واضافة الى المسرحيات التي حملت صبغة "واقعية" الى درجة ما، كانت القدرة على انجاز فيلم واقعي موضع الاهتمام في مسرحية "اقتل الكبار، وعذّب ابناءهم". والعمل الذي كتب نصه ديفيد هارو، يقدم تجربة مخرج تخصص في إعداد الأفلام الوثائقية، يعود الى مسقط رأسه بقصد صناعة فيلم عن المدينة لكنها تضلله وتكاد تبتلعه. وبعيداً عن واقعية الفن الذي وقف على منابر مهرجانه الجانبي ممثلون وممثلات من أميركا وأوروبا وروسيا، استضافت ادنبرة فرقة سيرك اثيوبية لفتت الانتباه. وأصغى الجمهور الى غناء غجر أوروبيين وروس، كما شاهد رقصات طافحة بالموهبة أداها أفارقة وهنود ويابانيون. وعلى جبهة السينما، كانت الوليمة حافلة أيضاً. افتتح المهرجان بفيلم "قطيفة منجم الذهب" للمخرج البريطاني تود هينز، الذي يثير أسئلة الهوية والانتماء الثقافي والسياسي في السبعينات بقصد الولوج الى قلب الثقافة الشعبية البريطانية. أما الختام فكان للفيلم الفرنسي "حياة الملائكة الحالمين" الذي أخرجه ايرك زونكا ولعبت بطولته ايسا ايلودي بوشيز وماري ناتاشارينر اللتان تقاسمتا جائزة أفضل ممثلة في مهرجان كان الأخير. وبين البداية والختام كانت أفلام استحقت الاهتمام مثل شريط الياباني كيوشا كوروساوا الجديد الذي حمل عنوان "علاج"، وفيلم المخرج الجزائري الأصل كريم تريدا "عروس ألبانية". وتريدا صاحب "اللعنة" و"رضا" الذي يعمل في هولندا حيث استقر منذ سنوات، حريص في فيلمه الجديد على تأمل حياة الغربة والغرباء، كما فعل غير مرة. وهو هنا يقوي نبض الألم الذي يعيشه غرباؤه، فبطلته ألبانية تأتي للعمل في هولندا فتجد الماخور بانتظارها. وعندما تنسج قصة حب مع الفلاح الهولندي هانك وتدخل الابتسامة حياتهما، لا يلبث الشر أن يحاصرهما من جديد. بقي أن الفيلم حاز أخيراً جائزة الجمهور للشريط الأكثر شعبية في مهرجان روتردام للسينما. ومن الأفلام التي عرضت في مهرجان ادنبره على امتداد اسبوعين ما صار شهيراً مثل "ألوان أصلية" لإيما تومسون وجون ترافولتا. وبعضها الآخر يطمح الى حصد شهرة كبيرة كشريط "الحاكمة" الذي لعبت بطولته ميني درايفر، و"السجين الاسباني" الذي كتب قصته وأخرجه الأميركي المعروف ديفيد ماميت وقام ببطولته ستيف مارتن. ذهبت جائزتا مهرجان السينما لفيلم "الحب هو الشيطان" للمخرج جون مايبوري، اذ فاز بطله البريطاني المعروف ديريك جاكوبي بجائزة "أفضل أداء"، وحاز الشريط جائزة "أفضل فيلم بريطاني طويل". وفاز تود هانيز بجائزة الاخراج عن فيلمه "قطيفة منجم الذهب"، نوهت اللجنة تنويهاً خاصة بالمخرج الفرنسي غاسبار نوي الذي لقيت باكورته "وحيداً ضد الجميع" ثناء ملحوظاً. وفضلت لجنة جائزة "الاوبزيرفر للأفلام الوثائقية" شريط رون خاببليو "أشلاء - القدس" على فيلم "الطلاق على الطريقة الايرانية"