ابتسمت السيدة الثمانينية التي جلست على مقعد مجاور في صالة "كوينز هول" في إدنبره، وقالت في خبث واضح: "حضرت اربعة من مهرجانات ادنبره حتى الآن؟ هذا رقم لا بأس به". ولم يطل الوقت حتى انكشف سر الابتسامة المحيّرة، فالسيدة التي تحاول التخلص من وحدتها بالثرثرة مع من تجده في طريقها، كما يبدو، لم تتخلف عن حضور اي من دورات "مهرجان ادنبره العالمي" الذي أكمل قبل ايام عامه الخمسين. والمرأة التي جاءت من اقصى البلاد على رغم تقدمها في السن وسيرها المتثاقل بمساعدة عكّاز كبير، هي واحدة من أصدقاء كثيرين واظبوا على حضور مهرجانات إدنبره "العالمي" وتوأميه "الجانبي" و"السينمائي". فللمهرجانات تقاليدها العريقة التي ولدت على امتداد سنوات طويلة من التجارب والابتكارات، وجعلتها أعراساً ثقافية يخصها كبار المبدعين في العالم بنتاجهم. وكل من يأتي مرة الى التظاهرة التي تستضيفها سنوياً العاصمة الاسكوتلندية الجميلة، لا بد ان يعود ثانية وثالثة. واذا كانت اجمل المدن هي تلك التي تنحت اسمها في ذاكرة الزائر، فادنبره اشبه بملكة جمال فاتنة. والدليل نجده عند صحافية لبنانية متقاعدة استطاعت ان تستعيد وقائع مهرجانات حضرتها قبل نحو ثلاثين عاماً، وتتذكر اسماء الشوارع… والمسارح ومواجهتها مع المايسترو الكبير كارايان في مؤتمر صحافي صاخب، على رغم الزمن الطويل الذي يفصل بين اليوم والبارحة. المهرجان الجانبي ويبدو المهرجان الجانبي اكثر عالمية من المهرجانات الاخرى، بمعنى ان فسيفساء العروض التي تطرز مسارحه ومنابره المئتين كانت الأغنى والأكثر تنوعاً. اذ شهد المهرجان تقديم حوالي 13 الف عرض مختلف أداها 9 آلاف فنان جاؤوا من انحاء الدنيا كافة. واذا كان الروس عرضوا مجموعة من الاعمال على رغم الفاقة التي غلبت على ملامحهم، فالعرب كانوا اوفياء لعادتهم المزمنة في تجاهل ادنبره ومهرجاناتها. ولماذا لا يسعى الفنانون العرب الى طلب مساعدة "المجلس الثقافي البريطاني" مثلاً، اذا قطعوا الأمل من وصول "صدقة" تهبهم اياها مؤسسات رسمية في بلادهم؟ والاسرائيليون، الذين قد لا يعود تخلّفهم عن المهرجانات الى الفقر المدقع وحده حضروا مهرجان السينما ومهرجان الكتاب. ونجح عرض مسرحية "السيد ف" التي كتبها واخرجها يغال ايزراتي وأدى دور شخصيتها الوحيدة جوناثان شيرشي، في اثارة اهتمام لا بأس به. والعمل الذي عرض على مسرح "بلزانس" الجانبي، هو عبارة عن سلسلة من المشاهد تعرض كل منها جانباً من حياة موردخاي فعنونو. ونتعرف عليه بادئ الامر في زنزانته المنفردة، حيث حكم عليه العام 1986 بالبقاء 18 سنة عقوبة له على افشاء اسرار المفاعلات النووية الاسرائيلية في مقابلة مع صحيفة "صانداي تايمز". يسعى العمل الى اضاءة ماضي اليهودي المغربي الاصل الذي ذاق القهر الطبقي والتمييز العنصري في الدولة العبرية. وكانت كارثة تشرنوبل ضاعفت مخاوفه من شرور السلاح النووي الذي تتلمذ في الجامعة على معاداته، فقرر ان يحاول ايقاف المأساة مهما بلغ الثمن، وفضح المفاعلات التي تملكها دولة تزعم انها الضحية فيما تجلب الموت الى الشرق الاوسط. "السيد ف" عرض شجاع بلا شك، والا كيف يجرؤ على الكشف عن العنصرية المتفشية في اسرائيل، حيث العربي الفلسطيني مواطن من الدرجة العاشرة واكثر المستضعفين معاناة من جور المتزمتين وحكومتهم؟ وعلى رغم مرارة العنصرية التي تجرعها فعنونو واهله اليهود الشرقيون المهاجرون، فهو يدرك جيداً ان "معاناة العرب اكبر من معاناة اليهود الشرقيين". ومن الاسباب التي دفعت به الى مزيد من الضيق والتبرّم بالواقع هو "انني أُعامل كعربي". فبفضل لون بشرته ولكنته العربية يتعرض الشاب دوماً للمساءلة في الحافلات العامة مما يضطره الى الاسراع بالقول: "انا مواطن اسرائيلي، وابراز هويتي مع بطاقة السفر" خوفاً من ان يلقوا به خارج الباص اذا لم يثبت انتماءه! والأدهى ان العربي لا يلقى الاضطهاد على يد اليهود الاوروبيين وحدهم، بل ايضاً على ايدي ضحاياهم الشرقيين. مثلاً يترفع والد فعنونو، المؤمن للغاية، عن صديقة ابنه المسيحية ديبي - وهو تبرأ من ابنه فيما بعد عندما علم انه تحول عن اليهودية الى المسيحية. لكن التعالي يغدو نفوراً حين يلاحظ وجود العربي غانم عند ولده ويسأله: وهل هاجرنا من المغرب الى اسرائيل حتى نصادق العرب؟ وعدا انها تشكو من امراض العنصرية والتزمّت الديني، نرى اسرائيل في عيون فعنونو دولة تعيش على السرية البوليسية، ويبدو بحثها عن الامن المزعوم محاولة للهيمنة، ولو حققت هذا الهدف عن طريق "الكذب علينا…" والتسبّب ب "هولوكست آخر". لكن على رغم جرأة فعنونو وتشبثه بالقاعدة الفلسفية الداعية الى التمسّك بالمبادئ ولو دفع المرء حياته ثمناً لهذا الاخلاص، يبدو السجين الشاب مستعداً للقبول بتفسيرات توفيقية ونقل البندقية من كتف الى آخرى. فهو يشير الى ان بوحه بأسرار المفاعلات قد يساعد اسرائيل على تعزيز موقعها القوي وجعلها مرهوبة الجانب في المنطقة! وهناك تناقض لا يخفي نفسه بين موقف فعنونو من التسلح النووي، ومن الامراض الاخرى المتفشية في بلاده، مثل العنصرية والبوليسية والتزمّت. ففي حين يضع دمه على كفه لرفع الكابوس النووي، يكتفي بالاشارة والشجب المعنوي للعلل الباقية، مع انه رجل فعل ومناضل قادر على التضحية. ولا ننسَ ان حماسة "البطل" التراجيدي لنزع التسلّح النووي تنعكس سلباً على ادائه الذي تشوبه المباشرة. وبراعة الممثل شيرشي في الانتقال من دراما المسرح الى دراما الواقع خلصت المشاهد من الرتابة. لكن هذه الحركة المنتظمة بين الممثل والانسان العادي القادر على مخاطبة الجمهور مباشرة، قرّبت العرض من الخطابية بعواطفها الجياشة احياناً. فلماذا لم تستثمر اداة التعاطي مع المشاهد لتصعيد قدرته على التخيّل والاستنتاج، بدلاً من أن يقول له الممثل ما يريد بصيغة تلقينية؟ و اللغة الملونة بصياغات تشبه الشعر، والغوص في عالم فعنونو ورغباته… وموسيقاه، كلها عناصر كانت تهيئ للعمل ان يرود آفاقاً اخرى ويرتقي فنياً. لكن العرض - الذي أُعد في سياق حملة للافراج عن فعنونو - يبقى انجازاً يستحق التقدير على صعيد المعالجة الجريئة التي تستند الى موهبة ممثل جيد ومخرج متمكن. الرقص على الطريقة المصرية وبعيداً عن السجون ونزلائها، حضر الشرق الاوسط حضوراً محدوداً جداً. كليوباتره، رمز الانوثة الطاغية لدى الغربيين مرّت من هنا، اذ استعان بها الممثلون في هذا العرض او ذاك. اما بلادها فولجت منابر "مهرجان ادنبره الجانبي" من بوابة الرقص الشرقي! والفنانات الهاويات في اسكوتلندا يبدين "انحيازاً" واضحاً للرقص على الطريقة المصرية، فهن يتجاهلن الاسلوب التركي تماماً. لكنك احياناً تتمنى لو انهن يتركن الرقص المصري وشأنه اشفاقاً على هذا الفن من التشويه الذي يلحق به حين تكون الفنانات كهؤلاء اللواتي حاولن تطعيم مسرحية "حلم منتصف ليلة صيف" بحركات باهتة خرقاء سمَّينها رقصاً مصرياً! اما المتحمسات اللواتي توافر لهن قدر من الخبرة والموهبة فاستقطبن اهتماماً لا بأس به من جمهور المهرجان الجانبي في صالة "غرافيتي". واللافت ان تعلّق هؤلاء الاسكتلنديات الثلاث بهزّ البطن الاصيل دفعهن الى تسمية فرقتهن "عزيزة". وصالة "غرافيتي" واحدة من منابر عدة أفردت حيزاً غير صغير في برامجها للرقص الذي تراه بأنواعه كلها. حتى السيرك وجد طريقه الى المهرجان عبر عروض قدمتها فرقة بولشوي الروسية وغيرها. لكن من يحمل "اندلسه" معه دائماً، لا بد ان يرى الفلامنغو اكثر اصالة من انماط الرقص التي يبالغ بعضها في مواكبة العصر، لا بل في محاولة تجاوزه. والفلامنغو قادر على الامساك بشغاف القلب بفضل جمال الحركات والعنفوان الذي يلوح على وجه الراقصة. وهذه المواصفات، وغيرها توافرت بسخاء لفرقة عازف الغيتار الغجري دييغو مورا التي أتت من بيرو. ولدييغو ايضاً اندلسه التي تطل عبر اوتار الغيتار، وحركات زميلاته الثلاث اللواتي شاركتهن الرقص ضيفة اندلسية مع انها تجاوزت الستين. وحين يلتف خصر راقصة الفلامنغو فيما ترتفع ذراعاها صوب السماء تحسبها راقصة شرقية موهوبة تدوخ المشاهد بحركاتها الانيقة. ومن اميركا الجنوبية ايضاً جاءت الفرقة المميزة "بيافروس" التي وظّفت الرقص احياناً في عرضها المأخوذ عن عمل وقّعه المسرحي البرازيلي المثير للجدل نيلسون رودريغيز، حيث يسلّط الضوء بقوة على رغبات الانسان وهواجسه وعزلته القاتلة. واللافت ان ممثلين ثلاثة أدّوا العرض بمساعدة عشرات الدمى المختلفة، والموسيقى، والاضواء، من دون ان ينبسوا بكلمة. لكن غياب الحوار تماماً في ما يسمى "المسرح الطبيعي" لم يجرد العمل من بلاغته. وفيما كان العرض البرازيلي محط اقبال ملحوظ، ذهبت حائزة "أولى الاوائل" في المهرجان الجانبي الى مسرحية كاد يقاطعها الجمهور عن حياة مجرم روع لندن في الستينات. إلا أن المكافأة ستفتح أمام جيل آدامز، صاحبة المسرحية الفائزة، طريق النجاح والشهرة الذي بدأه في إدنبره فنانون كبار من قبيل إيما تومسون وماغي سميث وديريك جاكوبي... لكن المهرجان الجانبي ضم اعمالاً لبعض النجوم، مثل الفنان المعروف ستيفن بيركوف الذي قدم العرض الاول لمسرحيته "الرسالة" الذي يتحرى فيها بعض العُقد التي يعاني منها البريطاني. وبيركوف المميز باسلوبه الذي يسعى الى صدم المشاهد، عرّج ايضاً على "مهرجان ادنبره للكتاب". وهناك قرأ مقاطع من سيرته الذاتية الجديدة وتحدث عن رؤيته المسرحية وهمومه كاتباً وممثلاً ومخرجاً. وحفلت روزنامة المهرجان الذي أُسس قبل سنوات بلقاءات مع كتّاب بريطانيين واجانب ترافقت غالباً مع قراءات من نتاجهم الاخير. ومن المناسبات التي شدّت كثيرين كان الحوار مع جيني كالدر الذي تناولت فيه كتابها الجديد عن قصة حياة الاديبة الاسكوتلندية ناومي ميتشيسون التي تخطّت المئة عام وتكاد تكون منسية تماماً منذ نحو 70 عاماً! وعدا عشرات الادباء والكتّاب المحليين مثل الشابة الاسكوتلندية آل كنيدي والروائية الانكليزية المعروفة مارغريت فورستر، ومجموعة من الشعراء البريطانيين الشباب ذوي الاصول الآسيوية، تناول سياسيون بالشرح والمناقشة كتاباتهم او كتبهم المفضلة. أليكس سالموند رئيس "الحزب الوطني الاسكوتلندي" تحدث باسلوبه الساخر الذي يفيض بالذكاء عن مجموعة قراءاته الاخيرة. اما النائب جيرالد كوفمان، وزير الخارجية السابق في حكومة الظل العمالية، فحاور زميله روي هاترسلي الوزير السابق ونائب رئيس حزب العمال حتى 1992، عن: "كيف تصبح وزيراً؟". غير ان الكاتبة النيوزيلاندية الاصل دوريس ليسنغ كانت "النجم" البريطاني الاكثر سطوعاً. وهي قرأت مقاطع من روايتها الاخيرة "حب" كما اسمعت الجمهور بضع فقرات من الجزء الثاني من سيرتها الذاتية الذي اطلقت عليه "السير في الظل". وجاء عدد من اصحاب الاسماء الكبيرة من دول بعيدة للالتقاء بجمهورهم على منابر المهرجان. غابرييل غارسيا ماركيز كان "الصيد الثمين" الذي تباهى به منظّمو المهرجان. وقد تسابق الناس للفوز ببطاقة الدخول - التي سرعان ما اضحت نادرة جداً - كي يستمعوا للاديب الكولومبي حائز نوبل يصف شغفه بالكلمات… والانسان… ويحكي عن مدرسة "الواقعية السحرية" التي اعطتها روايته هيبتها الفنية الراسخة. اما "جاره" ماريو فارغاس ليوسا، الاديب الذي كاد ان يصبح رئيساً لبلاده بيرو، فأجاب عن اسئلة حول روايته الجديدة "موت في جبال الأنديز". كما توقف عند كتاب سيرته الذاتية الذي نشره تحت عنوان "سمكة في الماء". وناقشت الاديبة والشاعرة الكندية مارغريت آتوود رواياتها التسع ومجموعتها الشعرية مع الكاتبة الاسكتلندية ليز لوتشيد. وقرأ الاديب الاسرائيلي عاموس عوز مختارات من روايته الجديدة "بانثر في القبو" التي تدور احداثها في القدس قبل ضياع فلسطين بعام واحد. الا ان جمهور عوز لم يكن كبيراً في شكل يتناسب مع الضجة التي اثيرت حوله، وخاب امل البعض بنسبة الحضور. وألقى محاضرة الختام الروائي والشاعر النيجيري الاصل بن اوكري الفائز بجائزة "بوكرز"، عن الألف الثالثة وما تعنيه للاديب والانسان. عملية ولادة الكتاب وشجونها الفنية لم تشغل بات باركر التي نالت العام الماضي جائزة "بوكرز" البريطانية المرموقة عن روايتها "طريق الاشباح". فهي كانت معنية بحضور عرض افتتاح فيلم "التجديد" المأخوذ عن قصة تمثل الجزء الاول من ثلاثية تحمل العنوان ذاته. وكانت "طريق الاشباح" جزءها الثاني. اما مهمتها الثانية فكانت مناقشة العلاقة بين الادب والسينما وتأثيرهما المتبادل على نسيج هذه الرواية او ذاك الفيلم. ولئن نجحت الاديبة في اضاءة جوانب شتى من التجربة اللافتة ومحاولة الدمج بين نمطين فنيين لكل منهما قواعده، فماذا عن الفيلم؟ سينما الحب والحرب أنجز الشريط المخرج الاسكوتلندي المعروف جيليز ماكنون، ولعب بطولته جوناثان برايس ويؤدي دور الطبيب النفساني الدكتور ريغرز الذي يرعى عدداً من نزلاء أحد مستشفيات إدنبره العائدين من الحرب العالمية الاولى. وهو يبذل قصارى جهده لاعانةهؤلاء المرضى - كان بينهم الشاعر المعروف زيغفريد ساسون - الذين روعتهم اهوال الحرب، على العودة الى الحياة العامة. وتعاطي الدكتور الطيب مع هؤلاء المعذّبين هو بمثابة النافذة التي يطلّ منها الفيلم على قضايا اخلاقية وانسانية شائكة تتصل بالحرب وجدواها، وطبيعة البطولة وحماقة الصراع العسكري… واضافة الى فيلم "وايلد" الذي اخرجه برايان غيلبرت عن حياة الاديب الايرلندي الاصل اوسكار وايلد، ولعب بطولته الممثل والروائي ستيفن فراي امام جود لو وفانيسا ريدغريف…، حظي فيلم "مسز براون" باهتمام شديد. وهذا ليس غريباً على شريط يروي سلسلة احداث تاريخية مثيرة للجدل عن علاقة "حميمة" ربطت بين الملكة فيكتوريا جودي دنيش وخادمها الاسكوتلندي جون براون بيللي كونللي. وفي فيلم "ابني المتشدد" نقف على محاولة ذكية لرصد العلاقات الاجتماعية بين افراد عائلة آسيوية الاصل تعيش في شمال بريطانيا. فالعمل الذي كتب قصته حنيف قريشي الاديب والسينمائي البريطاني من اصل باكستاني، واخرجه اودايان براساد، يشرح علاقة سائق التاكسي المتنور بارفيز الممثل الهندي اوم بوري بابنه فريد الذي سار بحماسة في ركب الاسلاميين المتشددين. وتزيد خيوط الحبكة تعقيداً عندما تصبح الزوجة، وخليلة الاب بنت الليل الانكليزية، طرفين في الحكاية. هكذا يدفع الفيلم بالتناقضات الى نهاياتها القصوى داعياً المشاهد الى البحث بين التفاصيل المتداخلة عن اجابات مقنعة لأسئلة صعبة. وصلة الابن بأبيه وعائلته المسلمة هي ايضاً محور الفيلم الايراني "الأب" الذي اخرجه ماجد ماجدي. لكن الفكر، او الايديولوجيا، ليس مصدر التشنج بين طرفي العلاقة في الشريط الايراني. وانما ينخرط ميهروله 14 عاماً في صراع قوة مع الشرطي الذي تزوجته امه بعدما توفي ابوه. هكذا يضع ماجدي السلطة الابوية تحت المجهر، ويدعونا الى تأمل خيال طفل جامح لا يستطيع ان يتأقلم بسهولة مع عالم الكبار. والتمثيل لم يكن العنصر الوحيد اللافت في الفيلم فهو تميز ايضاً بتصويرية عالية اعطت كثيراً من المشاهد زخماً عاطفياً وفنياً كبيرين. والسمات اللافتة في الافلام الثلاثمئة التي عرضت خلال المهرجان من اميركية والمانية وجنوب افريقية ونروجية… كثيرة جداً. سحر المسرح "العالمي" ولم تقتصر عروض الافلام على مهرجان السينما، بل فرضت نفسها على "مهرجان ادنبره العالمي" حيث نافس الفن السابع المسرح وطرده من بعض مناطقه التقليدية. والمواجهة دارت في العرض الاسباني "أعماها الحب" الذي كتبه واخرجه خوردي ميلان. فالعمل يتكئ على السينما والمسرح والموسيقى… في سرده حكاية فتاة احبّت طالباً ثم فقدت بصرها من جراء حادث غريب. وهي اختلفت مع حبيبها لانها ظنّت انه يشفق عليها، وهو بدوره حاول التهرّب منها بعدما ادرك انها تحمل جنينه. تستمر الوقائع الرومانسية على هذا النحوالفارغ الا من سخرية مفرطة تضفي عليها البراعة التصويرية مزيداً من الاثارة. فالعرض الرئيسي يدور على الشاشة الكبيرة التي يخرج منها الممثلون الى المسرح ثم يعودون الىها كما يطيب لهم ويستمر التواصل بينهم وبين الجمهور الذي يخاطبونه مباشرة، سواء كانوا في السينما او على المسرح، ولقي العمل اقبالاً كبيراً في اسبانيا وفي ادنبره، مع انه يمثل تعدياً على المسرح في شكل او آخر. فالاعتماد على السينما بهذه الصورة المكثفة مع ان العرض مسرحي في الاساس، يوحي ان الفن السابع هو الاكفأ والاحرى بالمسرح ان يستعين بأدوات السينما للوصول الى المشاهد. لكن "مهرجان ادنبره العالمي" ضم عروضاً مسرحية على درجة رفيعة من الابتكار. ولعل من شاهد "بستان الكرز" في نسخته الالمانية التي اخرجها بيتر شتاين، يدرك قوة المسرح السحرية على اختراق الحواجز كلها، بما فيها اللغة، والنفاذ الى اعماق المرء. الديكور كان، ببساطة، مدهشاً، خصوصاً في الفصول الاولى حيث الاشجار المثقلة ببراعم الكرز تختفي وراء ستارة رقيقة في النصف الخلفي من الخشبة. والموسيقى التصويرية التي استعان بيتر فيشر بالناي الشرقي لوضع بعض فقراتها، جاءت مناسبة لايقاع المسرحية. وغالباً ما بدت كأنها اصوات مكتومة خفيضة… آتية من بعيد. اما فريق الممثلين والممثلات فكان مجموعة ممن تعاون شتاين معهم مراراً على انتاج مسرحيات تشيخوف الاخرى وغيرها. وهم نجحوا في التقاط روح "بستان الكرز" التي عمل تشيخوف - كعادته - على تمويه حركتها الحقيقية. ففيما يبدو السكون مخيماً على الشخصيات وكأنها لا تقوم بأي فعل، تتأجج الدراما الفعلية تحت السطح. وسرّ هذا الاسلوب هو اكتشاف الاديب الروسي شيئاً أسماه شتاين في محاضرة المهرجان "ما تحت المعنى". اي ان ما تقوله الشخصية ليس هو بالضرورة ما تريد التعبير عنه. هكذا يزرع تشيخوف الحوار - بالتوتر والدراما السايكولوجية التي تبقى دفينة ما لم ينبشها المخرج القادر على استنطاق النص والاستماع الى ما تريد الشخصيات قوله فعلاً. وفي عرض المخرج الالماني بيتر شتاين بقي المشاهد مشدوداً طيلة ثلاث ساعات ونصف الساعة الى قصة محاولة السيدة الثرية سابقاً لوبا راينفيسكايا جوتا لامب انقاذ البيت وبستان الكرز اللذين كانا ملعب طفولتها. وترتسم صورتها وصورة تفاصيل كثيرة اخرى عبر حواراتها خصوصاً مع اخيها لينيا بيتر سيمونيسشيك الذي فشل في انقاذ البيت والبستان، ومع فيرز برانكو ساماروفسكي خادمها المتفاني على رغم تقدمه البالغ في السن. وشتاين الذي يعتبر من أكفأ مخرجي العالم في قراءة مسرح تشيخوف، استطاع ان يأسر الجمهور من دون ان يساوم على العمل او يفرّط بشيء من سماته، خصوصاً "ما تحت المعنى" والصراع بين الاجيال ومسألة الزمن وطبيعته التي شغلت تشيخوف في مسرحياته كلها. والمسرحية الكلاسيكية الثانية التي عرضت في المهرجان كانت "السن بالسن" التي كتبها شكسبير واخرجها الفرنسي الشاب ستيفان برونشويغ. وهذا استطاع ان يبث الحياة في النص الشكسبيري على امتداد ثلاث ساعات ونصف الساعة في عرض اداه ممثلو فرقة "نوتنغهام بلاي هاوس". ولمناسبة ذكرى التأسيس الخمسينية، قُدمت من جديد مسرحية "حفلة الكوكتيل" التي عرضت اول الامر خلال الدورة الثالثة من "مهرجان ادنبره العالمي" العام 1949. فالشاعر الاميركي الكبير ت. اس. اليوت خصّ المهرجان الناشئ بمسرحيته التي تعالج قضايا الاخلاص الزوجي والحب وطرق البحث عن الخلاص من خلال احداث تجمع بين السخرية الحادة والايمان وتقترب احياناً من الوجودية السارترية. والدين كان بمنزلة القلب من مسرحية "التقسيم" التي قدمتها "فرقة تاماشا المسرحية". يذكر ان الفرقة عرضت اخيراً مسرحية "الشرق هو الشرق" التي حظيت بالثناء. والعمل الجديد يعالج موضوع الشقاق والفرقة اللذين باعدا بين الهندوس والمسلمين في بريطانيا منذ قُسمت شبه الجزيرة الهندية قبل 50 عاماً. والمسرحية عبارة عن مقاطع سردية متداخلة نرى عبرها وجوه المشكلة بعيون شخصيات عدة. وقدم المهرجان، على عادته، مجموعة من العروض الراقصة والباليهات التي صمم احدها الاميركي مارك موريس، وقدمته فرقة "باليه سان فرانسيسكو" الشهيرة التي قدمت ايضاً اثنتين من الباليهات التي اعدها الراحل جورج بلانشين، أبو الباليه الحديث، الذي تتلمذ على يديه الفنان اللبناني عبدالحليم كركلا. ومن اميركا ايضاً جاءت فرقة "ثارب" الراقصة التي عرضت بعض نتاجها. واستضاف المهرجان فرقاً فرنسية وهولندية واسترالية راقصة. اما الموسيقى الكلاسيكية فكانت لها لحظاتها المشرقة. وساهم النمسوي ألفريد بريندل، الذي يعتبر من ابرز عازفي البيانو في العالم، في اشاعة المتعة ودغدغة الروح حين ادى اثنين من كونشيرتات موتسارت في قاعة "أشر هول" التي غصّت بالحضور .