عشر سنوات مضت على رحيل فواز الساجر المفجع، ولا يزال مكانه شاغراً فوق الخشبة السوريّة والعربيّة. عشر سنوات تفصلنا عن مسيرة غنيّة، قصيرة كحياة الشهب، حافلة بالمحطّات المضيئة: من "مذكّرات مجنون" إلى "رحلة حنظلة"، ومن "رسول من قرية تميرة" إلى "سكّان الكهف" عرضه الوصيّة. "الوسط" تستعيد تلك التجربة الفريدة التي أجهضها المجتمع، من خلال العلاقة الفنيّة والانسانيّة والفكريّة التي ربطت الساجر بسعد الله ونّوس، إذ شكلا ثنائيّاً على حدة فوق خريطة المسرح العربي، ربطت بينهما أواصر قربى روحيّة متينة، ووحّد بينهما الغياب. في ساعة مبكرة من صباح الاثنين 16 أيار مايو 1988، انفجر قلب فواز الساجر، هكذا من دون أبسط اشارة تحذير. وفي ساعة متأخرة من ليل الاربعاء 15 أيار مايو 1997، إنطفأ سعد الله ونوس بدوره، بعد صراع طويل مع المرض. كأن الصديقين والشريكين اللذين اقترنت مسيرتهما وتماهت حياتهما وتشابكت مصائرهما، تواعدا على الرحيل في تواريخ متواترة. فهذان المبدعان ربطت بينهما علاقة تكاملية، تمخّضت عن تجربة فريدة في تاريخ المسرح السوري، عرفت ب "المسرح التجريبي". وتلك المحاولة الرائدة لم يكتب لها - طبعاً! - الاستمرار، بسبب عدد لا بأس به من العوائق والمصاعب والعراقيل الادارية. يروي ونوس بداية تعرفه على الساجر قائلاً: "عرض "نكون أو لا نكون" الذي أعده فواز مع طلاب هواة، كان أول ما حضرت من أعماله. واذكر اني تمتمت في سري، وأنا مشدود إلى ايقاع العرض: "هو ذا مخرج له فرادته، ورؤيته الابداعية الخاصة". قبل سعدالله ونوس كانت الكتابة المسرحية في سورية محاولات متعثرة لا تخرج عن نطاق الأدب. وقبل فواز الساجر، كان الاخراج المسرحي مجرد تنفيذ سطحي للنص المكتوب. مع عودته إلى دمشق أوائل السبعينات، نقل الساجرالمسرح السوري خطوات واسعة إلى الأمام، فبات الحديث عن "الرؤية الاخراجية" حديثاً له معنى، وأصبح الاخراج ابداعاً آخر للنص. "كان النص بالنسبة إلى فواز مادة مقدسة - يقول سعدالله ونوس - وكان يتعامل معها باحترام ودقّة وأمانة قصوى، معتبراً أن لكل عملية اهميتها، ولكل عبارة ضرورتها الخاصة. وكان يفرض على ممثليه ان يتخذوا من النص موقفاً مشابهاً لموقفه". ويتابع صاحب "حفلة سمر": "لم يكن من اولئك الذين يبنون مجدهم على حساب النص، وربما على انقاضه، بل كان يبدع متعاوناً مع النص، ومن أجل ايضاح مقولاته العميقة، وكسوها بالبهاء الفني الذي تفرد به. وخلال السنوات الطويلة التي عملنا فيها معاً، لم يسمح لنفسه بتصحيح عبارة او حذف كلمة الا بالتشاور معي، وبعد أن تؤكد التدريبات ضرورة هذا التصحيح، ولم يقتصر هذا "الحرص الوسواسي" على نصوصي فقط، انما شمل كل النصوص التي قدمها بصورة عامة. فكم قرأنا "سكان الكهف" وكم تشاورنا في الحذوفات الضرورية، وقد ظل شهرين يبحث عن الاصل الانكليزي كي يجلو معنى بعض الحوارات التي طمستها الترجمة او جعلتها غامضة". في قرية نائية في سهل مَنبج إلى الشرق من مدينة حلب، ولد فواز الساجر سنة 1948 لأب بدوي، وأم شركسية. ولازمته احلام المسرح منذ طفولته، فأتى على مكتبة المركز الثقافي في منبج قبل ان يحصل على الثانوية. وبعد حصوله بتفوق على شهادة البكالوريا، أوفدته وزارة الثقافة سنة 1966 لدراسة الاخراج المسرحي في الاتحاد السوفييتي سابقاً، فتتلمذ على يد الفنان يوري زافادسكي تلميذ المعلم الكبير ستانسلافسكي، وتوقع له اساتذته مستقبلاً باهراً. وبعد تخرّجه في معهد "غيتس" قسم الاخراج سنة 1972، عاد إلى وطنه محملاً بالأفكار والطموحات، فخاض تجارب عدّة مع المسرح الجامعي في حلب، ثم في دمشق حيث أخرج "رسول من قرية تميرة" المأخوذ عن نص لمحمود دياب. ويعتبر هذا العمل من أبرز تجارب الساجر خلال حقبة السبعينات. التعاون الأوّل مع ونّوس يعود أوّل لقاء فنّي بين سعد الله ونّوس وفوّاز الساجر إلى صيف 1976، عندما اعد صاحب "الاغتصاب" نص بريشت "توراندوت" كي يخرجه الثاني للمسرح القومي. وهذا التاريخ يحدّد بداية تعاون الساجر مع القومي. تدور حكاية "توراندوت" حول حاكم يحتكر القمح كي يضاعف ثروته، وحول مثقفين يتواطأون مع هذا الفساد، فيجتهدون في تسويغ ندرة الخبز وارتفاع سعره، من دون أن يذكروا الحاكم بسوء ومن دون ان يشيروا إلى مسألة الاحتكار. اي انهم كانوا يضللون الشعب، ويكذبون آملين الحصول على المكافأة المعلنة وهي الزواج من بنت الحاكم. يقول سعدالله ونوس عن هذه التجربة التي لم ترَ النور: "ما ان تسلّم فواز النص، وناقشنا افكاره الاساسية، حتى انهمك وأنا معه في البحث عن وثائق حول فساد الانظمة وآليات هذا الفساد، وموقف المثقف منه. نبش الكتب والصحف والمجلات القديمة، وكلف اصدقاء آخرين بالبحث والتنقيب، وبدأت تتجمع لدينا مواد وثائقية مدهشة … كان فواز الطاقة القلقة والمتفجرة، يواجه تحديين لم يتمرس عليهما من قبل: تحدي الروتين الاداري بما فيه من عرقلة وتضييق ورقابة. وتحدي العمل مع ممثلين تيبسوا على انماط في الأداء واحدة وجامدة، وواجه التحديين بنجاح، او هكذا بدا لنا. وكنا نتأهل لاستقبال جمهورنا، حين انتصبت الادارة فجأة لتطلب طي البرافانات الستائر، واخلاء الخشبة. انطفأت الاضواء، وتبعثر الممثلون مذهولين، وجلست وفواز في احد المطاعم القريبة من المسرح. - والآن؟ قالها وهو يغص بالبكاء. أجبت: - ألن نعمل في التجريبي؟ - ومن يضمن أن عرضنا المقبل لن يطوى كما طويت "توراندوت"؟ - لا أحد. - إذن؟ - لا شيء... هذا قدرنا: أن نعمل بلا ضمانات. بعد قليل كفكفت دمعته، وانغمسنا في حلم جديد". بعد "توراندوت" انطلق "التجريبي" في العمل على مسرحية "يوميات مجنون" المأخوذة عن نص نيكولاي غوغول. ويومها اثيرت حول العرض التباسات تركزت في معظمها حول مفهوم التجريبية والنخبوية، ما اضطر ونوس والساجر إلى اصدار بيان أجابا فيه عن معظم الأسئلة المطروحة حول هذه التجربة. ضجّة مثقّفين لا أكثر! كتب الثنائي يومها: "عرض "يوميات مجنون" وسط الضوضاء الكثيفة التي احاطته، لم يسعفنا في توضيح مقاصدنا، بل زاد حولنا الالتباسات. كان العرض نخبوياً، او عرض مثقفين لا أكثر، والضجة التي اثيرت حوله، كانت ضجة بين مثقفين ولم تتعد سواهم. هل نتحدث عن المقتضيات التي فرضت علينا اختيار التجربة الاولى؟ هل نشرح الظروف التي تعوق انطلاق المسرح التجريبي بالمفهوم الذي حددناه له. هذا حديث طويل، ومجاله ليس هنا. وفي هذه الكلمة لم نقصد الدفاع عن "المسرح التجريبي" وضرورته. فنحن نعلم ان مثل هذه التجربة لا يدافع عنها الا استمرارها، وتراكم محصلاتها". والبيان المذكور الذي يعتبر علامة مميّزة في مسار المسرح السوري، مهّد بشكل مباشر للتجربة التالية التي جمعت الساجر وونّوس، أي "رحلة حنظلة" التي قدمت سنة 1979. المسرحية التي اقتبسها ونوس عن نص بيتر فايس "كيف يمكن تخليص السيد موكينبوت من آلامه"، كانت محاولة للخروج من دائرة النخبة التي رسمت العرض الاول، ومحاورة "جمهور آخر سنعمل وبمختلف الوسائل للوصول إليه" حسب البيان. هكذا جاءت "رحلة حنظلة" مسرحية تعليمية من ألفها إلى يائها، أي انّها شكلت نقيضاً جماليّاً وفكريّاً لپ"يوميات مجنون". وبعد عام على تقديم "رحلة حنظلة"، أخرج فواز الساجر "ثلاث حكايات" المأخوذة عن نص أوزفالدو دراكوني، فكانت آخر أعمال "المسرح التجريبي"... شرعيّة البقاء والاستمرار كانت الطموحات أكبر من الواقع، فتوقف "التجريبي". وقد تحدث فواز الساجر عن ذلك في مقابلة اجريت معه سنة 1982 ونُشرت في "السفير" البيروتية: "لا يمكن ان نطلق اسم "مسرح" بمعناه الحقيقي على "المسرح التجريبي" بل يظل حلماً قابلاً للتنفيذ، على رغم ما قدمه من عروض شاهدها الجمهور في سورية وخارجها. ولولا عطاء العاملين في هذا المسرح - على رغم قصر التجربة - لظل المسرح التجريبي مقتصراً على مذكّرة ادارية تتضمن تكليفاً للأستاذ سعدالله ونوس بتشكيله وادارته. وها نحن اليوم نكتشف أن كل الجهود التي بذلت، من قبل الممثلين والمؤلف، لم تعط المسرح شرعية البقاء والاستمرار. اذ وصلنا اليوم إلى التساؤل حول وجود المسرح. والدليل على ذلك، اننا لم ننجح في تقديم عمل في الموسم الماضي. أما في هذا الموسم فكل المؤشرات تعطي صورة اقرب إلى القتامة. اذ لا نملك سوى رغبات وطموحات وتصورات غامضة، عن احداث ملاك جديد للمسرح مع مقر دائم له وبرمجة فكرية وفنية تجسد الحلم الذي ما انفك يراودنا عبر السنوات الماضية". لكن فواز لم يتوقف. بل قدم سنة 1981 عرض التخرج لطلاب الدفعة الاولى من قسم التمثيل في المعهد العالي للفنون المسرحية الذي ساهم في تأسيسه ووضع لبنته الاولى مع ونوس وأسعد فضة. وكان ذلك العرض "سهرة مع أبي خليل القباني" نص ونوس الشهير. بعد ذلك سافر إلى موسكو للحصول على دكتوراه في الاخراج المسرحي، وكان عنوان أطروحته التي ناقشها سنة 1986: "إشكالية تدريب الممثل العربي على ضوء منهج ستانسلافسكي". ثم عاد لتدريس مادة التمثيل في المعهد المسرحي. وبعد عامين جاءت مسرحية "سكان الكهف" التي أخرجها للمسرح القومي، لتشكل علامة فارقة في مسيرة الخشبة العربيّة خلال عقد الثمانينات، تماماً كما كان الأمر بالنسبة إلى "رسول من قرية تميرة" في السبعينات. العرض الوصيّة تروي الملكة، احدى شخصيات مسرحية "سكان الكهف"، جانباً من حكاية المسرحية: "طوال ثلاثة شهور قصيرة من العام عاش هنا رجل عجوز من جماعة المسرح مثلما عشت انا، عثر على هذا المسرح صباحاً، وعثرت عليه بعيد الظهيرة، اسماني الملكة، وأسميته الملك، ومن بعد، منذ قرابة شهر، عثر على هذا المكان ملاكم محترف، كما عثرت عليه هذه الفتاة البارحة. الكل في الكل، اسرة واحدة، بدأ مهرج يستجدي الأكف كرجل حر في الشوارع الانسانية قبل ان يترك المسرح، وأنا والملاكم المحترف، وهذه الفتاة التي هي ابنتي". كان في نص "سكان الكهف" إذاً كل ما يريد فواز ان يقوله بعد ابتعاده عن الخشبة مدة سبع سنوات. وتألّق المخرج في تجربته بشكل أثار دهشة النقاد. وكان السؤال المطروح هو: "ما الذي دفع بفواز إلى تقديم هذه التجربة الرؤيويّة ؟ وأتى الجواب صاعقاً مدوياً، اذ مات المخرج والعرض في بداياته، وتحققت توقعات الملك الذي قال في احد حواراته: "يوم الاثنين هو يوم وفاة فواز هو اليوم الأول من الاسبوع واليوم الاخير من العالم". يومها كتب سعدالله ونوس راثياً شريكه وراثياً نفسه في آن معاً: "مات فواز الساجر... كان موته شبيهاً بالخيانة، ولم يتم. توقفت المشاريع ولم تنجز، لا وداع ولا وصية. وفي تدافع الوقت المروّع ذلك النهار لم تكن ثمة فرصة لنظرة اخيرة. حدقت في التابوت المثقل بأكاليل الورد. أفي هذا الجوف الخشبي جسدٌ أم دعابة! أهو المسرح يرتدي ضوء النهار ويوغل في أداء الموت حتى الموت! أم هي الحياة تكشف جوهرها، وتعلن انها خفقة ظل في مسرح مرتجل وعابر! ولكن اللوعة في صدري رصاصية كهذا المساء ... عما قليل سأعود إلى دمشق فأجدها أكثر دمامة، وأقل صداقة. سأعكف على فجوة الموت التي فغرت في داخلي، وأرفع بأصابع ذاهلة شاهدة أخرى في المقبرة التي تترامى في داخلي" الكمنجات على تابوت بين "سكان الكهف" و"الحكايات الثلاث" انتقل فواز بحنكة وبمهارة من لون إلى لون: من أقصى الصراخ والايقاع المتوتر السريع والنابض، من بنية لها طعمها ورائحتها وايقاعها... إلى الهدوء والنسيج الغنائي. كأن لفواز حنجرتين وقلبين يكمل أحدهما الآخر. فمن حيث هو هادئ وصامت يفاجئك بالجحيم. وعبر نص ملتهب يستند إلى الهلاك والجنون، يقدم لك الكمنجات محمولة على تابوت. تلك هي تعددية فواز وإيقاعاته وألوانه وأطيافه وقراءاته غير الثابتة. صفق الجمهور لپ"الحكايات الثلاث" كما صفق لپ"سكان الكهف"، وبعد ان انصرف الجميع بقي ايقاع قلبه متعثراً من دون أن يدري. فلعل جلجلة السنوات الثلاث التي لم يستطع أن ينتج فيها ثقبت قلبه وأحدثت تلك الكوة النارية. صفقوا لفواز الذي ذهب إلى رقاده وهو يفكر بپ"عنبر رقم 6"، مشروعه القادم عن نصّ تشيخوف... جواد الأسدي أبهى أبناء جيلنا عشر سنوات تمزقت خلالها أنسجة كانت تبدو متانتها أبديّة، وتضعضعت خلالها ثوابت بدت في شموخ الجبال، وتحطمت خلالها أحلام بدت دانية وشبه حتمية... ومع ذلك ما يزال موت فواز الساجر في داخلي ملتبساً ومحاطاً بالشكوك! أعرف أن فواز قضت عليه الجلطة عند حوالي السادسة من صبيحة 16 أيار مايو 1988، لكن شيئاً ما في داخلي يجعلني أشعر أن موته مجرد خدعة متقنة دبرها كعادته بإحكام، ثم توارى بين لحظتين، ليراقبنا من بعيد ونحن نتخبط في حيرة بلا ضفاف! أراه هذه اللحظة يشق بياض الصفحة ويخرج، يصغي للموسيقى التي طالما وحدتنا وعلمتنا فضيلة الصمت العميق، على الرغم من كثرة "نقارنا"! أراه هذه اللحظة يطلق غيمة من دخان سيجارته، ثم يتوارى في الغيمة وهو يرمقني بنظرته الغامضة التي يمتزج فيها الدهاء الشديد، بالمحبة العميقة، بالبراءة المدهشة والخبث المريب! بعد عشر سنوات لم يتغير شيء في فواز أم تراه الواقع المتخثّر يعطيني هذا الانطباع؟! ما يزال هنا، كما هو، حتى في غيابه! أبهى أبناء جيلنا أمواتاً وأحياء. وأشعر أنه يراقبني الآن بشقاوته المعهودة، وينتظر اللحظة المناسبة كي يفاجئني، وينتصب أمامي حيّاً يرزق! حسن م. يوسف